لعل التناقض واحد من أبرز سمات أفراد العصر الراهن، ولا نقصد هنا التناقض بمعناه الإيجابي، بما هو دليل على الغنى والثراء الروحي الداخلي، وذاك ما عناه الشاعر الأمريكي والت ويتمان، حين قال ذات مرة: «هل أناقض نفسي؟ حسنًا، أنا متسع، أنا متعدد».

وإنما التناقض الذي نعنيه هنا هو التناقض الدال على الضعف والهشاشة؛ فرغم أن أفراد هذا العصر لا يحبون ذواتهم، فإنهم يفرطون في التصوير، وفي التقاط «السيلفي»، صحيح أن منطق الأشياء يقول: إن من يفرط في تصوير نفسه، جسده، وجهه.. إلخ هائم به حبًا، ولكن الأمر هنا معكوس تمامًا؛ فالناس في مجتمعنا الراهن يفرطون في التصوير والتقاط السيلفي لأنهم يكرهون أشكالهم لا لأنهم يحبونها، فـ «الصورة خادعة، كما يقول علي حرب؛ إذ هي تخفي نفسها وتتستر على حقيقتها؛ لكي تحجب الواقع من فرط حضورها»(1).

التناقض الصارخ، إذًا، هو ما يميز إنسان العصر الحديث؛ فرغم كونه هشًا من الداخل، فإنه يعبد نفسه من الخارج، فتراه يغرق في تصوير نفسه، إنه نرجس العصر الحديث، الغارق في ليل صورته الذاتية على الدوام.

مجتمع الفُرجة وعصر اللقطة

يرى عالم الاجتماع الفرنسي الراحل غي ديبور(2) أن المجتمع المعاصر مجتمع فرجة، أي كل شيء فيه خاضع لمنطق العرض والفرجة، ليس هذا فحسب، بل إن إنسان العصر الراهن لا يمتعض من كونه رازحًا تحت نيّر أنظار وألحاظ الآخرين، وإنما هو يتعمد أن يكون مرئيًا، أن يكون في قلب المشهد/ الحدث.

وهذه الرغبة، في حد ذاتها، دليل عطب نفسي وهشاشة؛ فالأقوياء، الواثقون من أنفسهم لا يشغلهم كونهم مرئيون أم لا، فهم واثقون من أنفسهم، وقيمتهم الذاتية تنبع من الداخل ولا يستقونها من الخارج.

هذا الطرح الذي نسوقه يتعارض مع وجهة نظر عالم الاجتماع الألماني أكسيل هونيث، والذي يرى في كتابه «الصراع من أجل الاعتراف»(3)، أن الإنسان يسعى، طوال حياته برمتها، إلى الحصول على/ انتزاع اعتراف الآخرين به. ولكن مَن قال إن «هونيث» لا يحلل سوى البنية النفسية والاجتماعية لفرد هش وضعيف على مختلف الأصعدة؟!

إن تفكير الفرد بموقعه ومكانته لدى الآخرين، وسعيه الدؤوب على أن يكون ذا أهمية ومكانة لديهم ليس إلا دليلًا على ضعفه وهشاشته، وها هو «شيك» أحد شخصيات رواية «سأم الملك سليمان» للروائي الفرنسي «رومان غاري» يقول: «أفكر بالآخرين كي لا أفكر في نفسي، وهذا أكثر شيء يخيفني في العالم»(4).

إزاء هذا الطرح يمكننا الدفع بأن الشاشة- سواء كانت شاشة الهاتف المحمول أو شاشة أخرى وما تنطوي عليه من التقاط صور ورغبة في الظهور- هي قدر العالم الحديث.

يقول جيل ليبوفيتسكي؛ الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي، في كتابه «شاشة العالم»:

الحياة كلها، وعلاقاتنا مع العالم ومع الآخرين يتزايد ارتباطها بوسائل الإعلام عبر واجهات عديدة لا تكف الشاشات من خلالها عن التلاقي، والاتصال، والتواصل(5).

هذا الإفراط، إن في الصور أو الشاشات، هو إحدى سمات عصر الحداثة المتأخرة، لكنه إفراط في الصورة وشح في الحضور، الشاشات لا تعكس حضورًا ولا تعنيه، وإنما على العكس من ذلك أصلًا، قد يمكن القول إن هيمنة الشاشات يتناسب طرديًا مع اضمحلال الفرد، ولنتحدث هنا بلسان عالم الاجتماع الألماني ومؤسس مدرسة فرانكفورت ماكس هوركهايمر، قليلًا.

فهذا الإفراط في كونك مرئيًا، مشاهدًا، ملاحظًا يخلق منك شخصًا متوجسًا من كل شيء ومن أي شيء، ولا يدفعك سوى إلى أن تكون مزيفًا، مصطنعًا تقول وتفعل ما يتوقعه منك ناصبو هذه الشاشات.

إن هيمنة الشاشة وأد للخصوصية، لا ندعي أن الناس- في مجتمعات ما قبل الشاشة- كانوا أكثر فردانية وأكثف حضورًا وأغنى وجودًا، وإنما نجسر على القول إن الشاشة خلقت وجودًا فرديًا مزيفًا، وكفى بذلك إثمًا، وكفى به ذمًا لزمن الحداثة المتأخرة برمته.

وفي الأخير «ينبغي ملاحظة أن ما يحدث مع عصر الشاشة الشاملة، هو بالفعل، تبدل ثقافي هائل يزداد تأثيره على مظاهر الإبداع وعلى الوجود نفسه»(6).

نرجس يعاود الظهور: النرجسية بالمقلوب

فتاة تلتقط السيلفي

وعلى الرغم من الهُيام بالصورة وتفشي النرجسية لدى أفراد المجتمع، فإن- وهذا أمر يدعو للغرابة حقًا- هذا المجتمع، والحال هذه، مجتمع نرجسية مقلوبة، فنرسيس كان هائمًا بذاته وغارقًا فيها عشقًا، سوى أن أفراد مجتمع الحداثة المتأخرة الفرجوي ذاك لا يحبون أنفسهم، وإنما يلجئون إلى الصورة، والتقاط السيلفي وفلترة الصور؛ لأنهم بهذا يخلقون لأنفسهم، عبر إمكانات تعديل الصور الجمة، واقعًا جماليًا يسعون إليه ويتمنونه.

وعلاوة على ذلك، فإننا يمكن أن نرى في الإسراف في التقاط السيلفي- وكذلك شتى مظاهر الغوص في مجتمع الفرجة- دلالة على وجود فرد منسحب من كل أدواره الاجتماعية، غارق في ليل صورة ذاته.

فالفرد النرجسي المعاصر قد غسل يديه من كل هدف أو قضية أو غاية، وإنما جعل نفسه مبدأ المبادئ وغاية الغايات، هو فرد منسحب، وانسحابه دليل هشاشته. والنرجسية، حين تتمظهر في التقاط السيلفي وغيره لا تعني، على حد قول جيل ليبوفيتسكي؛ الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي، سوى الدرجة صفر من الحياة الاجتماعية(7).

والفرد الذي هذه صفته، لا يعول عليه في شيء أبدًا، فلا يمكنه خوض صراع من أجل انتزاع حق أو دفع ضُر، هو خامل، هش، وبكلمة واحدة تافه.

ولعل هذا هو فحوى تحليل عالم الاجتماع جيل ليبوفيتسكي حين يقول، مستلهمًا عالم الاجتماع ريتشارد سينيت:

«ولأن نرجس غارق في ذاته؛ فهو يتخلى عن النضالات الدينية، وينسحب من الأرثوذوكسيات الكبرى، وينخرط وفقا لنمط متذبذب ومفتقد للحافز الكبير . وتقود الشخصنة، هنا كما في مجالات أخرى، إلى التخلي عن الصراع، وإلى الاسترخاء»(8).

عصر السيلفي، إذًا، هو عصر ارتخاء أيديولوجي، انسحب فيه الفرد من الفضاءات العامة، فضاءات الفعل والحركة، إلى فضاء ذاتي، جواني، لا هدف له ولا غاية سوى إرضاء طموحات هشة وغايات رديئة.

فلترة الصور وخلق الوهم النافع

والواضح أن الابتكارات التقنية الحديثة لم تساعد على شفاء الفرد من أدوائه وأعطابه، بل إنها فعلت العكس تمامًا؛ أطعمت نار النرجسية حطبًا جديدة؛ فبدلًا من دفع الناس إلى الحركة والفعل الحقيقيين ساقتهم إلى الفضاءات الافتراضية الوهمية، حتى ليخيل للمرء أن الناس الآن يعيشون، على الشاشة، حياة ثانية، موهومة متخيلة، لا علاقة لها بواقعهم ولا حقيقة ما هم عليه.

ولئن كانت عالمة الاجتماع شيري تراكل قد أسهبت في بسط معالم وحدود هذه الظاهرة، فإن ما نبغي قوله هنا إن الانفتاحات التقنية الحديثة- فلترة الصور على سبيل المثال- أغرقت الناس في الوهم دون أن تقرّبهم من الحقيقة.

قديمًا كان الإله الإغريقي القديم «أبوللو» يحث أتباعه على خلق الأوهام الذاتية، فالوهم الماتع ذريعة لاحتمال الألم الفاجع، وتلك استراتيجية نفسية معتبرة على أي حال، وكان من الممكن التسامح مع السيلفي لو أنه يساعد مستخدميه على ذلك، غير أن ما يحدث ليس ذلك.

إذ إن تيار التفاهة المعاصر أعجز من أن يصنع أفراده لأنفسهم أوهامهم الذاتية، بل والمؤسف أن الناس يرون أوهامهم على أنها حقيقة دامغة، بل ويعتبرون الطعن في أوهامهم طعنًا فيهم هم شخصيًا.

السيلفي والمرايا والتخييل

ولكن على الرغم من قتامة النتائج التي قادنا إليها تحليل ظاهرة السيلفي، فبالإمكان القول إن للسيلفي جانبًا إيجابيًا بل وإبداعيًا أيضًا؛ إذ إنه يلهب الخيال، فمن خلال استخدام الفلاتر وتقنيات تعديل الصور الجمة يمكن للمرء أن يصنع من نفسه فردًا آخر، ذا شكل مختلف- تمامًا.

وهو لا يصل إلى هذه النتيجة دفعة واحدة، وإنما يُعمل خياله وفلاتره، مرارًا وتكرارًا؛ كيما يصل، في نهاية المطاف، إلى صورته المنشودة والمتوخاة عن نفسه.

والغارقون في فضاء الصورة، والتقاط السيلفي غارقون في الوقت ذاته في الخيال، بعيدون عن الواقع ومعطياته الراهنة؛ فقد يمكث الواحد من هؤلاء ساعات طوال في تعديل صورة ما وتبديل أبعادها وألوانها ومؤثراتها فقط ليصل إلى صورة متخيلة رسمها لنفسه عن نفسه في ذهنه.

إذ يمكن الآن وعبر الهاتف المحمول تفكيك الصورة وإعادة تركيبها، وإنتاج ما لا يتناهى من الأشكال والألوان والأبعاد(9).

فترى، عبر الفلاتر، أنفًا قد صَغُر، وعينًا قد اتسعت، وحاجبًا قد تقوس، وبشرة قد أُشربت بحُمرة.. إلخ.

ولزوال كل هذه الأوهام، ولرد الفرد إلى ذاته، يكفيه أو يكفيها أن يغسل وجهه ويطالع صورته على المرآة.

يكفي كل هؤلاء إلقاء نظرة واحدة على صفحات وجوههم في المرآة لكي يتبين لهم خطل ما يتصورون، وحقيقة ما يرون، والمرآة لطمة واقعية على أي حال.

المراجع
  1. علي حرب، الحداثة الفائقة: الإصلاح الإرهاب، الشراكة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2005م، ص 203.
  2. غي ديبور، مجتمع الفرجة، ترجمة أحمد حسان، دار شرقيات، القاهرة، 2000م.
  3. أكسل هونيث، الصراع من أجل الاعتراف: القواعد الأخلاقية للمآزم الاجتماعية، ترجمة كمال بومنير، المكتبة الشرقية.
  4. نقلًا عن: تزفيتان تودورف: الحياة المشتركة: بحث أنثروبولوجي عام، ترجمة منذر عياشي، المركز الثقافي العربي، ط1، 2009، ص 170.

  5. جيل ليبوفيتسكي: شاشة العالم: ثقافة، وسائل إعلام وسينما في عصر الحداثة الفائقة، ترجمة راوية صادق، القاهرة، المركز القومي للترجمة، ط1، 2004م، ص 26.
  6. ليبوفتسكي: شاشة العالم، ص  14.
  7. جيل ليبوفيتسكي: عصر الفراغ: الفردانية المعاصرة وتحولات ما بعد الحداثة، ترجمة حافظ إدوخراز، مركز نماء للبحوث والدراسات، ص 70.
  8. ليبوفيتسكي: عصر الفراغ، ص 73.
  9. علي حرب، الحداثة الفائقة، ص 203