في فردوس ميلتون المفقود سقط آدم وحواء من جنة عدن راغمين نادمين إلى الأرض. ذلك العالم القاسي الغريب، صحراء لم تعهدها أعينهما، ومساحات مقفرة لم تتصورها عقولهما. أين الأنهار والأشجار؟ لم يكن هناك إلا جزر خضراء منثورة هنا وهناك، والطريق طويل بينها.

هذا هو ما حدث للأسترالوبيثيكس Australopithecus، السلف القديم للسلالة البشرية.

كانت الثلوج قد بدأت بتغطية شمال الأرض واستمرت في التغول نحو الجنوب. بدأت مساحات الغابات الشاسعة في التحول إلى اللون الأصفر، وشرعت حشائش السافانا في السيطرة على زمام الأرض التي زالت عنها أشجارها وأعشابها. في هذه البيئة التي لم تكن قد ألفت اليأس والنضب عاش الأسترالوبيثيكس حياة جديدة لم يعتدها أجداده. اضطر الأسترالوبيثيكس إلى مغادرة الأشجار التي اعتاد أسلافه التنقل بينها والعيش عليها، والهبوط إلى الأرض الصلبة اليابسة.


عالم جديد، مخاطر جديدة

كان على الأسترالوبيثيكس الآن تعلم المشي على الأرض لمسافات طويلة بين كل شجرة وأخرى، ومع وطئ أقدامه الأرض تغير العالم. كان ذلك الحدث هو الإيذان بانتقال حياة أسلاف البشر من الحياة على الأشجار Arboreality إلى مزيج بين ذلك وبين حياة الجري على الأرض Cursoriality. وهكذا وبواسطة الحياة الهجينة التي عاشها الأسترالوبيثيكس، اتخذت مسيرة التطور منعطفًا حاسمًا.

الأسترالوبيثيكس أفريكانس – أحد سلالات الأسترالوبيثيكس المنقرض

مع المنحى العدائي الذي اتخذته البيئة من حولهم، بدأ الأسترالوبيثيكس في التأقلم adaptation نحو الطريقة المثلى للحياة في مثل هذه الظروف. هذا التأقلم الذي سيخفي روايدًا رويدًا أي أثر للقدرات الفعالة فيما يخص تسلق الأشجار، وسيسير حصريًا نحو تحسين القدرة على المشي على الأرض. لكن المشكلة كمنت في عدو جديد لم يكن باستطاعتهم أن يروه أو حتى يدركوا وجوده. كان من السهل عليهم الفرار من الأسود أو مطاردة الغزلان، لكن لم يكن يعلم أي منهم كيفية التعامل مع عدو أصغر بكثير عاشوا وانقرضوا دون أن يعرفوا بوجوده.

تمتلك الأرض تشكيلة متنوعة وضخمة من الديدان التي تتجول في ثناياها غير مرئية. لأول مرة كان على الأسترالوبيثيكس التعامل مع الديدان المثقوبة والأسطوانية والشريطية والخطافية وغيرها الكثير والكثير، ناهيك عن البكتيريا التي تحيا في التربة وغيرها من المجهريات الطفيلية المجهولة المتربصة بأي عائل يلامسها، كأقدام الأسترالوبيثيكس.

مر الزمن، وبتحول المعيشة تغير الغذاء كذلك. بدأ أسلاف البشر حينها في التعامل بشكل مباشر مع الحيوانات التي عاشت على الأرض بشكل أساسي. ومع تحول النظام الغذائي في اتجاه فرائس جديدة، تحولت أيضًا المخاطر إلى نوع جديد. يطل هذا الخطر على البشر القدامى المساكين من البكتيريا والفيروسات التي تحملها حيوانات الأرض. التقط الإنسان المنتصب Homo Erectus أمراضًا جديدة من الماشية التي اصطادها. وبهذه الطريقة أصبح مجتمع الصيادين فريسة بحد ذاته لمسببات المرض pathogens التي تقطن أجساد الفرائس خاصة الأضعف منها.


نهاية الترحال

استمر الأسلوب البدوي مسيطرًا على حياة الصيادين الرحالة ومسيطرًا كذلك على قدرة الأمراض على الانتشار. فرغم القابلية الشديدة للمرض، لم يكن أمام الأمراض المعدية الكثير من المساحة للانتشار. قد كانت تجمعات البشر محدودة جدًا في العدد، وبعيدة عن بعضها، مما يقوض أي إمكانية لتفشي أي شيء بينها مفيدًا كان أو ضارًا. لم يكن هناك فرص كثيرة لتراكم الملوثات أو التقاط العدوى من قبائل أخرى لضخامة المسافات وتحاشيهم لبعضهم البعض لتقليل التنافس على الموارد البيئية المحدودة.

كانت الأوبئة في هذه الأزمان مجبرة على استنزاف نفسها حتى تخبو في صمت. كان هذا إلى أن ولج الإنسان مجتمع العصر الحجري الحديث Neolithic لتتمكن النار من الاستعار بحق.

مع اكتشاف الزراعة والتخلي عن طريقة الحياة القديمة القائمة على الترحال، اكتسبت حياة الإنسان مظاهر جديدة وأنشطة مختلفة. لم يعد البشر مضطرين لحمل كل ما يملكون والتنقل به سعيًا وراء الماء والغذاء، اطمأن البشر لوجود قوتهم، ليس قوت اليوم فقط، ولكن الغد أيضًا، لقد عرفوا معنى أن يصبح لديهم مخزون يقيهم القلق من الآتي المجهول.

تعبير مصري قديم عن المجتمع الزراعي من نقوش مقبرة سن -نجيم

تزايد عدد السكان في قفزة عددية رهيبة وصلت لعشرة أضعاف عددهم كبدو صيادين. كانت الفرصة سانحة للتكاثر، وكان النسل الجديد يشارك في أنشطة المجتمع ويزيد إنتاجه. مع الاستقرار بدأ البشر في التأثير على توازن بيئتهم لاستغلاله لصالحهم غير مدركين أنه يميل نحو الكفة الأخرى، لقد ابتسمت الظروف للأمراض واكتسبت مساحات جديدة للنفوذ.

مع تخزين المحاصيل ازداد عدد القوارض التي تقتات عليها والأمراض الناشئة عن العفن. مع تراكم المخلفات بدأت الحشرات الحاملة للأمراض كالذباب والقمل في التزايد والتمركز قرب المجتمعات الإنسانية. ومع الأعداد الكبيرة من البشر تزايدت فرص انتشار المرض والعدوى. وبالطبع، تم استئناس الحيوانات التي أتت بأعداد مكثفة حاملة معها أمراضها هي الأخرى(1).

استمرت المجتمعات في النمو ونمت معها الحاجة إلى التواصل والتبادل. تبودلت المحاصيل والحيوانات وأيضًا الأمراض. بينما تحط القافلة رحالها في قرية تلو الأخرى ومدينة تلو الأخرى، كانت الميكروبات تترك تذكارًا من نسلها في كل مكان ممهدة لفكرة الوباء المخيفة التي لم يكن للبشرية سابق عهد بها في أيامهم الزائلة كسكان أشجار. حتى عندما دخلت البشرية مرحلة الصناعات البدائية والنسيج، لم يخل الأمر من خدمة لناقلات الأمراض التي تمكنت بسهولة من الاستيطان فيها. لم يعد بإمكان البشر حتى اللجوء لفراشهم دون الخوف من حامل Vector مرض ما(2).


أفعى تعض ذيلها

المجتمع الزراعي، الثورة الزراعية، العصر الحجري الحديث، مقابر فرعونية

لن تستغرب الآن عندما تدرك أنه رغم كل هذه التطورات التي طرأت على حياة الإنسان في انتقاله من العصر الحجري القديم Paleolithic إلى الحجر الحديث Neolithic فقد تدهورت صحته بشكل كبير وانخفض متوسط عمره عن سابقه إنسان العصر الحجري القديم بما يصل لعشر سنوات.

هكذا صنعت الثورة الزراعية ثورة موازية في اتساع نطاق حرية الأمراض أيضًا. وهكذا ولدت الأوبئة الأضخم، الجوائح.

الغريب في الأمر أن عدد البشر مر بمرحلة زيادة مهولة في صدمة الازدهار الزراعي الأولى ليعود مرة أخرى للتضاؤل بحدة بعد أن أصبحت المجتمعات الزراعية المستقرة هي السائدة ونمت طرق التواصل بينها. ما هو سبب التزايد، وما هو المتسبب في التضاؤل؟ يعتقد العلماء أنها حلقة التغذية المرتدة Feedback loop التي تتواصل بها أجسادنا كحيوانات مع البيئة التي ننشأ منها.

يلاحظ أنه عند توافر الغذاء بشكل كبير وانكماش المنافسة عليه، تبدأ خصوبة البشر في التحسن بواسطة الرسائل الهرمونية. يستمر الأمر حتى يتراجع مخزون الغذاء وتعود المنافسة للاحتدام وهنا يلاحظ أن نسبة الخصوبة أو القدرة على الإنجاب تبدأ في التراجع. تلك هي محاولة الطبيعة في الحد من المنافسة والاستنزاف للموارد وتقليل عدد المتهافتين على الغذاء.

هكذا تحاول الطبيعة خلق توازن equilibrium بين الإنتاج والاستهلاك، قارعة بذلك ناقوس الإنذار، بالقوة إذا لزم الأمر لكي ننتبه.

المراجع
  1. A history of disease in ancient times – Phillip Norrie. chapter 1
  2. Evolution of infectious disease – Paul Ewald. Chapter 3