من النادر أن يُقدِم امرؤ على كتابة تاريخ الحقبة الناصرية لمصر دون أن يتطرق إلى كتب الأستاذ محمد حسنين هيكل، مفكر الناصرية الأول، وأحد أكثر من ألّفوا عنها تنظيرًا وتأصيلاً. ففي ظل حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، لم يلعب الأستاذ فقط دور الصحفي الأول بالبلاد، وإنما تشعبت أذرعه إلى نواحٍ سياسية وقيادية جمّة جعلته ضمن نخبة الحكم طوال بقاء ناصر على عرش مصر، فكان قلمه جزءًا رئيسيًا في ماكينة صناعة وعي هذه الفترة ليس فقط للناس، وإنما ربما للرئيس نفسه.

طوال مسيرته الممتدة، خلق هيكل آلة إنتاج صحفية مرعبة، فقدّم خلالها أكثر من 1400 مقالة وتحقيق صحفي وحوار، منها ما يزيد على 30 مقالة وتحقيق في عهد ما قبل الأهرام (روز اليوسف، وآخر ساعة، والأخبار)، ثم حوالي 745 مقالة في الأهرام في بابه الشهير «بصراحة»، ثم 400 مقالة وتحقيق وحوار صحفي تقريبًا في فترة ما بعد الأهرام، كما قدّم 56 كتابًا أولها، «إيران فوق بركان» عام 1951م، وآخرها «مصر إلى أين.. ما بعد مبارك وزمانه»، من ضمنها 22 كتابًا أصليًا، و23 كتابًا مقالات نُشرت في الصحف، و8 كتب هي في الأصل محاضرة أو مجموعة محاضرات طبعت في كتاب، وغيره هو جمع للأحاديث الصحفية التي أدلى بها خلال سنوات منعه من الكتابة، وآخر كان ورقة بحثية قدمها لمؤتمر لم يُلقها بنفسه، وكتابه الأخير جمع فيه بين المقالات والأحاديث.

كفل له هذا الإنتاج الضخم أن يظلَّ مرجعًا لأي راغب في النبش عن تاريخ مصر باعتباره شاهد عيان موثوق لا ينطق كلمة إلا وتؤيدها مستندات نادرة لا تتوفر عند أجهزة الدولة نفسها، فمن يستطيع أن يكتب عن حرب أكتوبر أو النكسة أو حرب 56 أو حتى كواليس مفاوضاتنا مع إسرائيل دون أن يعود لكتبه الموسوعية التي فاق حجم بعضها الألف صفحة أحيانًا؟ لكن تُرى، هل كان الأستاذ صادقًا دائمًا في جميع كتاباته؟ أم أن وفاءه لعبدالناصر أصابه بقدرٍ من أمراض ليّ أعناق الحقائق في حياته وبعد مماته؟

هيكل في ميزان المصداقية والموضوعية

الذين عاشوا وقائع من التاريخ لا يستطيعون التأريخ لها، لأن رؤيتهم مشوبة بتجربتهم الذاتية، وقصارى ما يستطيعون تقديمه هو شهادة للتاريخ وليست تاريخًا.
محمد حسنين هيكل، الطريق إلى رمضان

قرر الباحث في كلية الآداب بجامعة القاهرة يحيى حسن عُمر أن يُعد ماجستيرًا عن تاريخ مصر في كتابات محمد حسنين هيكل. يحكي عمر لـ «إضاءات» أنه أنفق على هذا الموضوع 6 أعوام من حياته إلى أن خرج برسالة علمية دسمة جاوز حجمها 700 صفحة منحته الدرجة بامتياز عام 2017، وعندما رغب في تحويلها إلى كتاب شكّل حجمها تحديًا كبيرًا فكان لزامًا عليه التخلص (آسفًا) من بعض محتوياتها فأجرى لها ريجيمًا قاسيًا حتى نحُلت الرسالة وباتت رشيقة لائقة لتصدّر أرفف المكتبات، فخرج إلى النور مؤلَّفه «كتابات هيكل بين المصداقية والموضوعية».

يقول يحيى، إن كتابات الأستاذ هيكل التاريخية تُغرق قارئها في مئات التفاصيل التي وجهه من خلالها، عبر مسار مختار بعناية، نحو صورة انطباعية عن عصر ما دون أن يترك للقارئ فرصة لأن يحيط بالصورة الكلية لهذا العصر، فالذي يقرأ له عن الخديوِ إسماعيل مثلاً سيراه يحكي في كتابه «سقوط نظام» أن الأخير أرسل قوة عسكرية لمساعدة قوات إمبراطور فرنسا في المكسيك مات فيها عشرات الآلاف من المصريين، بالرغم من أن هذه الحملة أرسلها سعيد باشا وليس الخديوِ إسماعيل، وكانت مكونة من «أورطة» واحدة من مئات الجنود وعدد محدود من الضباط وعاد منهم 300 حسبما أكد المؤرخ عبدالرحمن الرفاعي في كتابه «عصر إسماعيل»، وفي المجمل لن يحصل متابعه إلا عن صورة انطباعية سريعة عن السفه غير المحدود في تبديد الموارد والجيوش دون طائل، بينما لن يعرف شيئًا عن بعض الجوانب الأخرى المضيئة من الصورة حيث المنشآت العمرانية وشق التُرع وغيرها.

وبالرغم من أن أول كلمة كتبها هيكل في تاريخه الصحفي هي كلمة «مولاي»، وكان يخص بها الملك فاروق طبعًا، في باكورة مقالاته بـ «روز اليوسف» أغسطس/آب 1943، علّق فيها على دعوة الملك للخمسة الأوائل من خريجي المعاهد الدراسية لتناول الشاي معه في قصر عابدين، فكتب:

مولاي.. لست أدري ماذا فعل هؤلاء الشباب الذين تلقوا دعوتك المرية حين عرفوا أمرها (…)، لقد سألت اثنين منهم عقب أن رأوك عن شعورهما، سألت شابًا وفتاة، أما الشاب فقط صمت، وكان صمته أبلغ ألف مرة من الكلام، وأما الفتاة فكان جوابها البليغ هذه الدموع الحائرة التي جالت في عينيها.

وفي مقالة أخرى أشاد برحلة ولي النعم إلى كفر الصعيد، فكتب في «روز اليوسف» أبريل/نيسان 1944:

يعيش فاروق منقذ الصعيد.. يعيش فاروق حبيب الفلاح.. يعيش فاروق نصير الفقراء.. زيارتك شفتنا يا مولانا، إننا في حلم يا مولانا، هذه ليلة القدر، هذه الزيارة بعثت فينا الحياة، نريد أن نقبّل يدك.
مقال محمد حسنين هيكل في روز اليوسف أبريل 1944
 

لكن القارئ له عن عصر فاروق لن يحصل إلا عن صورة شديدة السلبية للملك الغارق في ملذاته وفساده المالي ومآسيه الشخصية والعائلية، وعن رواية غير موثوقة المصدر أن الملكة فريدة أقامت علاقة غير شرعية مع رسام إنجليزي.

وبالرغم من أن هيكل في الأربعينيات تمنى أن يقبّل يد الملك «منقذ الصعيد» فإنه اعتبر ذات الفِعلة «مشهد الذروة في مأساة السياسة المصرية» في إطار هجماته الضارية على النحاس باشا المنافس الأول لجمال عبدالناصر على لقب زعيم الأمة بعد الثورة، بعد ما ألحق به واقعة تقبيله ليد الملك (وهو الأمر الذي كان أمنية ومدعاة للشرف قبل الثورة وبات نقيصة وعارًا بعدها)، وقدّمها في مناسبات عدة منها كتابه «سقوط نظام» وبرنامجه «تجربة حياة»، مع أنها لم تثبت في أي مرجع معروف، وحتى الأشخاص الذين نسبها هيكل إليهم، البشوات نجلا الهلالي وحسين سري وكريم ثابت وحسن يوسف، جميعهم توفوا قبل صدور الكتاب، والأخيران مذكراتهما منشورة ولا تتضمن أي ذكر لهذه الواقعة.

وهكذا، فإن قارئ هيكل سيعرف عن شريك سعد زغلول في زعامة الوفد وحامل لواء الأمة من بعده كان على علاقة بصحفية إيطالية اسمها فيرا، وأنه كان ضعيفًا أمام زوجته خاضعًا للملك مستسلمًا لسيطرة الإقطاعيين على حزبه، وأن نبأ حريق القاهرة بلغه متأخرًا لأنه كان مشغولاً بالقيام بأعمال «مانييكور» و«باديكور» على يد مدام جورجينيا الأرمنية المتخصصة في العناية بالأظافر، ولن يعلم شيئًا عن مقاومة الوفد استبداد الملك فؤاد ورئيس حكومته إسماعيل صدقي ودستور عام 1930، ولن يتعرف على جهود النحاس وغيره في سبيل الاستقلال ووحدة وادي النيل، ولن يعرف شيئًا عن مجانية التعليم الأساسي عام 1942 ومجانية التعليم الثانوي منذ عام 1950.

ناصر والسادات: المسيح ويهوذا

يستعين هيكل بالوثائق لإثبات ما يريد إثباته، ونفي ما يريد نفسه، وليس ما تريد الوثائق إثباته أو نفيه كما يفعل المؤرخ.
المؤرخ عبدالعظيم رمضان، هيكل والكهف الناصري

يكشف يحيى في كتابه أن مسار طي الحقائق أو إخفائها يتضح في أجلى صوره عبر تأريخه لشخصيتيْ جمال عبدالناصر وأنور السادات، ففي إطار اعتباره أن الانتساب لكل ما هو «فاروقي» سُبة بحق صاحبها، نشر رواية لا نعلم لها مصدرًا تحكي أن الأخير كان عضوًا بالحرس الحديدي للملك، وأنه ألقى بنفسه أمام فاروق في مسجد سيدنا الحسين وطلب منه الصفح.

وفي كتابه «سقوط نظام»، يؤكد بكل وضوح أن السادات شارك في محاولة اغتيال أمين باشا عثمان والنحاس باشا، أما حينما تطرق إلى عملية الاغتيال التي دبرها عبدالناصر لحسين سري عامر، قائد سلاح الحدود ورجل القصر في الجيش، أرّخ للواقعة بشكل مجهّل فبنى فاعلها للمجهول بقوله: «جرت محاولة لاغتيال حسين سري عامر..» وكأنه لا يعرف من صاحب تلك المحاولة، بالرغم من أن عبدالناصر اعترف بنفسه بهذه العملية في كتاب «فلسفة الثورة» ووثّقها عبداللطيف بغدادي في مذكراته.

عبر هيكل، ستعرف كثيرًا عن إنجازات العصر الناصري بصورة مكبرة، بينما لن تعلم شيئًا عن حقائق أزمة مارس/آذار 1954، وعن الإجراءات القمعية في الصحافة والجامعة وغيرها من مناحي الحياة في الخمسينيات والستينيات، وعن سوء الأداء العسكري خلال حربي 1956 و1967. فعن نتائج حرب 1956، اعتبر هيكل أن مصر حققت فيها انتصارًا كاملًا بالإبقاء على قناة السويس وصحراء سيناء وقطاع غزة في يدها دون أن يذكر بالطبع أن إسرائيل اقتنصت حق الملاحة في مضيق تيران ما فك عنها الحصار وتمكنت من خلاله من الحصول على النفط من آسيا، وكان الصراع على هذا المضيق بالذات سببًا لقيام حرب 1967.

وعقب احتلال سيناء، برّر ذلك بالقول: «في الصراعات الحديثة فإن السؤال المهم والحيوي ليس هو: كم احتل العدو والمهاجم من أراضينا، وإنما السؤال المهم والحيوي: كم احتل العدو والمهاجم من إرادتنا؟»، لذلك يكثر من قول «صحراء سيناء» للإشارة إلى أنها منطقة قاحلة جرداء ويهون من أهميتها في مقابل الإرادة!

وخلال تعرضه لحركة التأميمات واسعة النطاق التي تمت في يوليو/تموز 1961، وبموجبها أممت مئات المؤسسات الخاصة، نجده يسلط الضوء على أهمية القطاع العام ويغري القارئ بأرباحه وما يوفره من فرص عمل، ويُبرز أهميته الاجتماعية، وكأن موضوع الخلاف هو أهمية القطاع العام، بينما الأزمة في حقيقتها هي مشروعية بناء القطاع العام بتأميم المصالح الخاصة دون وجه حق، بدلاً من بنائه بالطريقة الطبيعية وبأموال حكومية.

وبالطبع فإن حُمّى التبرير لا نراها كلما أتت سيرة السادات، بل العكس، فلن يجد القارئ شيئًا عن المشروعات الكبرى في عهد السادات، ولا التوسع في التعليم الجامعي، ولن يعرف عن المدن الجديدة الرئيسية التي بدأ إنشاؤها في عهده مثل السادس من أكتوبر والعاشر من رمضان وغيره.

لم يتحدث هيكل قط عمّا تعرضت له الصحافة في الظل الناصري من اعتقالات ومحاكمات وفصل من العمل ومنع من الكتابة، وحل مجلس نقابة الصحفيين وفرض الرقابة وربط الصحف بالاتحاد القومي، وإنما اعتبر أن الصحافة بلغت في عهد جمال أعلى مستوى عالمي، وأن هجومها على الحكومة والوزراء توقف لا لقمع أو تضييق تتعرض له أو رقابة تفرض عليها، ولكن لأن الوزراء ورئيسهم مُبرؤون من استغلال النفوذ، والوزارة تكشف الفساد وتجتثه قبل أن يصل خبره إلى الصحافة، حسبما روى ليوسف إدريس في حوار نشرته جريدة الجمهورية عام 1960، بينما انتقد طغيان السادات على الصحافة ضاربًا المثل بما فعله في أوائل 1973 بعد ما أمر بنقل 80 صحيفًا إلى وظائف إدارية بوزارة الإعلام.

ليس من الغريب لذلك أن نطالع في «خريف الغضب» إسرافه في تأكيد تفريط السادات بآثار مصر مُعدِّدًا تماثيل ومقتنيات فرعونية أهداها رئيس مصر لبعض زوار مصر، شملت 28 تمثالاً فرعونيًا صغيرًا وسبع أوانٍ وستة عقود ولوحتين وقناعًا حجريًا، دون أن يذكر بالطبع أن عبدالناصر لم يهدِ للخارج تماثيل صغيرة وحسب، وإنما معابد كاملة موجودة الآن ضمن ساحات المتاحف بأرجاء العالم، منها 5 أهديت بقرار جمهوري واحد، وهي معبد «دابود» إلى إسبانيا، و«طافا» إلى هولندا، و«دندور» إلى أمريكا، و«الليسيه» إلى إيطاليا، و«البوابة البطلمية» إلى معهد كلابش إلى ألمانيا.

هجوم هيكل المتواصل على السادات لم يُبعده فقط عن دائرة الموضوعية، وإنما بلغ به إلى حد تأويل الوثائق – سلاحه الذي اشتُهر به – عبر التصرف في الترجمة بطريقة تمنحها معنى مختلفًا عن المراد منها، فمثلاً حين يعرض خطابًا مرسلاً من كيسنجر إلى الرئيس السادات اعتبره «نقطة تحول خطيرة في السياسة المصرية المعاصرة». يقول هيكل إن الخطاب يقول إن السادات وضع أمنه الشخصي تحت رعاية الأمريكيين، وفقا لجملة جاءت في أصل الوثيقة كالآتي: «Matters Of Personla Security»، بينما كان المقصود في الوثيقة التفريق بين مواضيع الأمن الشخصي للأفراد الذين يزورون مصر وأمن المنشآت، ولم تتحدث عن الأمن الشخصي للرئيس السادات إطلاقًا.

ليس من العجيب أن نطالعه في حديث مع الصحفي سيمون وينتشر في الصنداي تايمز اعتبر به أن «قتلة السادات هم الآن أبطال وطنيون، وأينما ذهبت مع الناس يتحدثون عن خالد الإسلامبولي كمنقذٍ وطني كبير، وتحولت المحاكمة إلى محاكمة للسادات، وأنا أقول كمراقب محايد فقط: يوم إعدامهم يوم حزين لمصر».

مدَّ الله في عُمر الأستاذ وبارك في مكانته التي جعلته صالحًا للكلام والتعليق على كل شيء على مدار سنوات في شتى الموضوعات حتى بات رجل الوثائق وثيقة مصداقية بحد ذاته، فكان لزامًا أن تتناثر أخطاؤه كتساقط تفاح منبوذ من شجرة المعرفة، فقدّم خمس روايات متباينة لكيفية لقائه الأول بعبدالناصر، واعتبر السادات كان معقدًا من لونه الأسمر على الرغم من عبدالناصر لم يكن بدوره أشقر أزرق العينين، أو أن يحكي أنه غطى حرب العلمين لـ”الإجيبشان جازيت” في فبراير 1942 على الرغم من أن المعركة كانت قد انتهت قبل هذا التاريخ بأشهر، وأن يحتفي بوصف كيسنجر للسادات بأنه “بهلوان سياسي” فيما يتجاهل ما قاله الأول بحقه بأنه يفبرك على نطاق واسع، وهكذا فإذا كان اليونانيون علمونا أن “حتى هومير يحني رأسه أحيانًا”، فإن الباحث يحي عُمر أن “حتى الأستاذ لا يصدق دائمًا”.

مدَّ الله في عُمر الأستاذ وبارك في مكانته التي جعلته صالحًا للكلام والتعليق على كل شيء على مدار سنوات في شتى الموضوعات حتى بات رجل الوثائق وثيقة مصداقية بحد ذاته. فكان لزامًا أن تتناثر أخطاؤه كتساقط تفاح منبوذ من شجرة المعرفة، فقدّم خمس روايات متباينة لكيفية لقائه الأول بعبدالناصر، واعتبر السادات كان معقدًا من لونه الأسمر على الرغم من عبدالناصر لم يكن بدوره أشقر أزرق العينين، أو أن يحكي أنه غطى حرب العلمين لـ «الإجيبشان جازيت» في فبراير/شباط 1942 على الرغم من أن المعركة كانت قد انتهت قبل هذا التاريخ بأشهر، وأن يحتفي بوصف كيسنجر للسادات بأنه «بهلوان سياسي» فيما يتجاهل ما قاله الأول بحقه بأنه يفبرك على نطاق واسع، وهكذا فإذا كان اليونانيون علمونا أن «حتى هومير يحني رأسه أحيانًا»، فإن الباحث يحيى عُمر أن «حتى الأستاذ لا يصدق دائمًا».