رسمنا على القلب وجه الوطن .. نخيلاً ونيلاً وشعبًا أصيلا وصناكِ يا مصر طول الزمن .. ليبقى شبابك جيلاً فجيلا

كلمات فاروق جويدة هذه ستحرك فيك ذكريات من نوع خاص، إذا كنت شابًا مصريًا قريب العهد بالخدمة العسكرية الإلزامية، الكلمات التي تم اعتمادها كنشيد للجيش المصري، وما يشابهها، يغنيها أجيال وأجيال من الشبان المصريين، الذين يحملون مشاعر متباينة تجاه فترة تجنيدهم، طبقًا لعلاقة أقدم جيش نظامي في تاريخ البشر بشعبه التي تعرضت لمتغيرات عدة خلال الخمسين عامًا الفائتة.

السينما كانت في القلب من كل هذا، نتحدث معكم اليوم عن حكايات الخدمة العسكرية طوال ما يزيد عن النصف قرن، عن العساكر في السينما المصرية.


أغنية على الممر: النكسة التي لا يريد أحد أن يشاهدها

توافد المصريون على دور السينما في صيف عام 1972 لمشاهدة فيلم «خلي بالك من زوزو» للمخرج حسن الإمام والنجمة سعاد حسني. على جانب آخر لم يصمد فيلم «أغنية على الممر» الذي تدور أحداثه عن كتيبة من الجنود المصريين تم حصارهم أثناء حرب يونيو 1967. لم يفضل المصريون أن يتم تذكيرهم بالهزيمة واختاروا -بلا تردد- فيلمًا استعراضيًا ملونًا، أمام فيلم حربي حزين بالأبيض والأسود.

فيلم حربي بلا بطولات ولا مشاهد قتال تقريبًا.. هذا ما قدمه المخرج علي عبد الخالق، والسيناريست مصطفى محرم في فيلم «أغنية على الممر» المأخوذ عن مسرحية بنفس الاسم للكاتب علي سالم.

«أغنية على الممر» هو باكورة أعمال جماعة «السينما الجديدة»، جماعة الفنانين المصريين الشباب التي تشكلت في 68 وأصدرت بيانًا غاضبًا، انتقدت فيه سيطرة مجموعة من «الأسطوات» على المجال الفني المصري واهتمامهم فقط بتلميع النجوم وابتعادهم عن واقع المصريين، معاناتهم وأحلامهم.

جنود مثاليون لوطن غير مثالي، هذا ما نشاهده في فيلم «أغنية على الممر»، حيث نعاين تجربة مريرة لحصار مجموعة من الجنود المصريين المكلفين بحماية أحد الممرات أثناء حرب يونيو 67. يتعطل جهاز الإرسال الخاص بهم وينقطع اتصالهم كليًا بالجيش الذي انهزم وانسحب. يستمر الجنود في الدفاع عن مواقعهم في أداء دون كيخوتي ينتهي كما هو متوقع باستشهادهم.

جنود يونيو 67 لهم طابع خاص، فهم مجندون لمدة غير معلومة نظرًا لظروف الحرب، لحاهم طويلة وهيئتهم غير مهندمة، فلا معنى لحسن الهندام العسكري وسط القتال في صحراء سيناء بأي حال. يجمع علي عبد الخالق بين المزارع الذي ترك أرضه للدفاع عن الوطن منذ عدوان 56، والذي يقوم بدوره محمود مرسي، والمثقف المثالي الذي يقوم بدوره محمود يس، والذي يردد شعارات جماعة السينما الجديدة في ضرورة أن يتحدث الفن عن مشاكل ومعضلات المجتمع، والموسيقي الذي يقوم بدوره أحمد حمدي، الذي يرفض الابتذال ويحلم بأغنية وطنية يرددها عمال مصر وطلابها.

في نهاية العام، فضل الجمهور الذهاب للاستماع إلى «زوزو النوسو كوانوسو» على أشعار عبد الرحمن الأبنودي «أبكي .. أنزف .. أموت، وتعيشي يا ضحكة مصر».


الرصاصة لا تزال في جيبي: الانتقام/الانتصار

محمود يس مرة أخرى في الزي العسكري، ولكن هذه المرة مع مخرج يعشق الأداء المبالغ فيه -كما وصفه نور الشريف في أحد لقاءاته- وهو حسام الدين مصطفى.

تم عرض الفيلم في أكتوبر 1974، بعد عام بالتمام والكمال من عبور الجيش المصري إلى سيناء الذي مثل لحظة الانتصار الأهم في حرب أكتوبر 73. وضعت كافة إمكانيات الجيش المصري تحت تصرف صناع الفيلم ليقدموا الفيلم الذي تحول للفيلم الرسمي على التليفزيون المصري في ذكرى أكتوبر.

الفيلم عن قصة إحسان عبد القدوس، وشارك في كتابة السيناريو والحوار له رمسيس نجيب مع أحد أعضاء جماعة السينما الجديدة، وهو رأفت الميهي. وتدور قصته عن مجند مصري يسمى محمد، هو في الأساس شاب جامعي مثقف، يعود لبلدته عقب النكسة ليسخر منه الجميع ويحملوه عار الهزيمة، في حين يوقرون عباس مدير الجمعية التعاونية الذي يمثل سطوة طبقة رأسمالية جديدة من المنتفعين. يمتد شر مدير الجمعية التعاونية حتى يعتدي جنسيًا على الفتاة التي يحبها محمد بينما هو منشغل بالقتال على الجبهة أثناء عمليات حرب الاستنزاف.

تصدر أوامر العبور في النهاية ويعبر محمد وسط جموع جنود الجيش المصري. يعود إلى قريته محمولاً على الأعناق وهو مرفوع الرأس، لكن الرصاصة التي خصصها للانتقام من عباس لا تزال في جيبه.

الفيلم في خطه الرئيسي يرصد مرة أخرى حياة مجندين مصريين ذوي تعليم عالٍ قضوا مدة طويلة في الخدمة العسكرية أثناء فترة الحرب، كيف كانوا محبطين ومنكسرين عقب الهزيمة، وكيف كانت مصر تحارب بشبابها على الجبهة بينما يغتصبها المنتفعون في الداخل.

يتم حذف مشاهد عديدة من هذا الفيلم حينما يعرض على القنوات المصرية، ولهذا على الأغلب فأنت لم تشاهده بشكل مكتمل حتى وإن كنت قد صادفته عشرات المرات.


البريء: نهاية الحرب وبداية مرحلة أعداء الوطن

خرج آلاف المتظاهرين المصريين في 17 و18 يناير 1977 ليعترضوا على الحزمة الاقتصادية التي عرضها السادات على مجلس النواب المصري بغرض رفع جزئي للدعم على بعض السلع الأساسية. وسط هؤلاء المتظاهرين فوجئ أحد العساكر المكلفين بفض التظاهرة بالقوة بأنه يرفع عصاه في وجه الكاتب والسيناريست الشهير وحيد حامد، وحينها هتف في وجهه «هو أنت من أعداء الوطن يا أستاذ وحيد!»

بعد هذه الحادثة بسنين تعاون وحيد حامد مع المخرج عاطف الطيب -الذي قضي 6 سنوات من عمره مجندًا في الجيش في وقت الحرب- في صناعة فيلم «البريء»، الذي تدور أحداثه عن مجند مصري في مرحلة ما بعد الحرب.

«أحمد سبع الليل» الذي جسده أحمد زكي ببراعة، مختلف تمامًا عن جنود «أغنية على الممر»، أو «الرصاصة لا تزال في جيبي». هذا شاب قروي غير متعلم، لا يدرك ما الذي يحدث خارج حقله، تستغله سلطة عسكرية لتقمع معارضيها بقوة السلاح.

توقف القتال على الجبهة، ووقّعت مصر معاهدة السلام مع العدو الصهيوني، فخلقت السلطة العسكرية شرعيتها الوحيدة بادعائها وجود أعداء جدد للوطن داخل حدوده، لن يصدق هذا إلا جندي بمواصفات خاصة، يطيع الأوامر، لا يسأل ولا يقرأ ولا يناقش.

ينتهي الفيلم بثورة عنيفة لأحمد سبع الليل حينما يكتشف كذب قادته بعد أن يجد حسين صديقه، الشاب المثقف الطيب وسط مجموعة جديدة من المعتقلين، لا يتحمل سبع الليل أن يشارك في جريمة جديدة بعد مقتل حسين، ويستخدم سلاحه في قتل كل من يرتدي الزي العسكري داخل الكادر قبل أن يكون برصاصة بريء جديد.

عرض الفيلم في عام 1986 عقب حذف بعض مشاهده وأهمها مشهد النهاية وذلك وفقًا لتوصيات لجنة ضمت في عضويتها وزراء الدفاع والداخلية والثقافة في هذا الوقت، وبدأت أحداثه بتنويه يخبرنا أن «وقائع هذا الفيلم لا تمثل الحاضر!»


الإرهاب والكباب: الإرهاب الكاذب وعسكري المراسلة

في بداية عام 92 يعود وحيد حامد ليقدم لنا مجندًا آخر شبيهًا بسبع الليل ولكن في دور مساعد، وذلك من خلال تعاونه مع المخرج شريف عرفة في فيلم من بطولة عادل إمام هو «الإرهاب والكباب».

في هذا الفيلم يقرر وحيد حامد أن يدخل الناس كلاعب رئيسي في المعادلة، لينقذوا أبطال الفيلم الذين قرروا التمرد، ليصبح الحل جماعيًا وليس فرديًا. جندي المراسلة ذو الأصول الريفية الذي أدى دوره «أشرف عبد الباقي» يشبه أحمد سبع الليل، كلاهما يتعرض للإهانة والاستغفال من قادته، كلاهما يتوق للعودة إلى أرضه ليزرعها، كلاهما يحمل سلاحه في النهاية في وجه السلطة.

لكن جندي المراسلة يمثل مرحلة جديدة في دولة اللا شيء التي حكمها مبارك، فلم يعد هناك حتى معارضون سياسيون لنصمهم بأنهم أعداء الوطن، حينها يتحول المجندون إلى عمالة رخيصة في سبيل راحة الرتب الأعلى، جنود تشريفة، أو أدنى من ذلك.


البروباجندا السياسية: «العساكر» في مقابل «حراس الوطن»

بنهاية حقبة مبارك دخل الجيش بشكل مباشر في اللعبة السياسية، بداية بمساندته الوقتية للمتظاهرين في يناير 2011 بدفع مبارك إلى التنحي وإجهاض مشروع التوريث، ثم عقب ذلك بعزل محمد مرسي في يوليو 2013.

لم يتعرض أي من الأفلام السينمائية للمجندين بشكل مباشر في هذه السنين، اللهم إلا الظهور القصير في أدوار كومبارس أو أدوار ثانوية في بعض الأفلام التي تناولت يناير وما بعدها. لكن فيلمين تم إنتاجهما للعرض التليفزيوني هما المعبران الواضحان عن الاستقطاب السياسي المتمحور حول وضع الجيش الجديد.

الأول هو فيلم «العساكر» من إنتاج شبكة الجزيرة والذي تم عرضه على شاشتها وقناتها على يوتيوب في منتصف عام 2016، ويتناول يوميات مجندين وضباط صف وضباط في الجيش المصري من خلال بعض الشهادات التي نسبها صناع الفيلم لأشخاص حقيقيين وبعض المشاهد التمثيلية واللقطات الأرشيفية.

عرض الفيلم بالطبع وبشكل انتقائي ما يتعرض له المجندون من إهانات وتكدير أثناء خدمتهم العسكرية، وهو جانب حقيقي بالطبع، ولكنهم أغفلوا وعن قصد التفاوت الكبير في أسلوب معاملة الجنود بين سلاح وسلاح، وبين وحدة ووحدة.

الفيلم الثاني هو «حراس الوطن» من إنتاج شبكة DMC وبمشاركة جهاز الشئون المعنوية للقوات المسلحة المصرية والذي جاء ردًا على فيلم «العساكر» وتم عرضه عقب صدور الأخير بعام بالتمام والكمال؛ أي في يونيو 2017، ومن خلاله يعرض صناع الفيلم صورة مبهرة لجنود الجيش ويستغلون تواجد فتى الشاشة الأول محمد رمضان، كمجند في سلاح الصاعقة المصري. الفيلم أيضًا ينتقي وبشكل واضح للغاية الجانب المشرق من الخدمة العسكرية، في سلاح الجيش الأقوى والمنتقى بعناية، ويبدو تواجد رمضان وسط باقي الجنود مفتعلاً وغير حقيقي.

مشاهد تناول الطعام ربما تكون هي الأكثر كاريكاتيرية ويبدو بشدة أنها تمثيلية وغير حقيقية، بالإضافة لجلسات السمر ولعب الشطرنج بين الجنود والقادة، والتي لا تحدث حقيقة إلا في استثناءات فردية.

يغني أحد الجنود مستغلاً تواجد محمد رمضان أملاً في أن يمثل له هذا اكتشافًا فنيًا يغير مستقبله، يردد المجند: «ضاربني السلك ولا حيلتي ملك». يكررها الفتى مرتين قبل أن يقاطعه محمد رمضان: «خلاص يعم عرفنا إنك ضاربك السلك». لحظات السخرية المرتجلة هذه هي ما يحمل الحقيقة وسط سيل من مشاهد الدعاية المفتعلة.