السلام؟ أين يمكننا أن نجد السلام؟ لقد تحولت بلادنا إلى ساحة حرب كبرى. لم يعد الأطفال والمسنون يعرفون معنى الأمان. لم يعد بإمكان النساء حماية أسرهم في المنازل. لم يعد بإمكانهم الشعور بالأمان في حقولهم. تحولت الكنائس والمدارس والمشافي إلى أهداف عسكرية. هذه ليست بالحرب. الحرب ما هي إلا مواجهة مسلحة بين الجنود. هذه مذبحة. مذبحة جماعية للأبرياء. مذبحة بلا منطق تستند عليه. يمكن للعالم أن يُوقف ذلك كله، فأين هو ضمير العالم.

من فيلم «Blockade» من إنتاج عام 1938، وقد استند إلى قصص حقيقية من الحرب الأهلية الإسبانية


أوروبا المشتعلة وإسبانيا الصامتة

هتلر وموسوليني في ذروة المجد والقوة… هكذا كانت الصورة في بدايات الثلاثينيات، ومروراً بتلك الحقبة الموحشة من تاريخ أوروبا وصولاً إلى الأربعينيات من القرن العشرين، وجد معسكر الحلفاء – متمثلاً في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا التي تئن تحت وطأة الضعف والفقر- أنفسهم في معادلة غريبة ربما لم يتوقعها أحدهم.

إسبانيا… النقطة الأوروبية التي لم تحسم بعد موقفها من تلك المواجهة المتصاعدة، والتي ابتُليت بحالة حادة من الاستقطاب أدخلتها نفقًا لا يمكن الفكاك منه، على إثره اشتعلت الحرب بين الفاشية متمثلةً في الجنرال فرانكو ومن انضموا له من وحدات الجيش الإسباني، وعلى الناحية الأخرى الاشتراكية والشيوعية والإناركية محتميين في ديمقراطية الوصول للحكم عبر الصندوق، لكنهم بلا حلفاء يُذكرون، فالحلفاء السابق ذكرهم يُعلنون دوماً تأييدهم الديمقراطية كمذهب سياسي فقط وكغطاء للحرب ضد نازية هتلر وفاشية موسوليني، لكنهم في الوقت ذاته لا يؤمنون بكل تلك المذاهب التي تشكل نسيج الديمقراطية في هذه الحالة.

ومن هنا بدأت صورة الصراع في إسبانيا تتشكل بصورة أقرب، فالفاشية بكل أبنائها لا تتأخر عن تقديم الدعم في صورته المادية والعسكرية، والجمهورية وجدت نفسها في انتظار أن يفعل السوفييت أمراً ما ذات يوم، أو أن تصدق الولايات المتحدة فيما تؤمن به بالأفعال، أو تستطيع فرنسا النهوض من عثرتها وتقدم الدعم لجارتها المنكوبة عبر بوابة برشلونة.

ومن هنا بدأت الأوراق بالاختلاط كما لم يتوقع أحد، فالأمريكيون والسوفييت وجدوا أنفسهم في مواجهة العدو نفسه… أمريكا وجدت نفسها في حاجة لدعم الشيوعية التي تبغضها وتتجسس عليها في الداخل الأمريكي، والاتحاد السوفييتي وجد نفسه في حاجة للدفاع عن تجربة إسبانيا الديمقراطية، رغم أنه لم يؤمن بها يوماً، أما أوروبا فكانت في انتظار أن يشتعل عود ثقاب ما لتحدد موقفها بالمشاركة أو المشاهدة عن بعد.


الموت للأعداء!

لم تكن المعركة بالنسبة لهتلر وموسوليني – باعتبارهم المحرك الأكبر والأهم للجنرال فرانكو- في الداخل الإسباني، مجرد معركة سياسية كما تصورها بعض المراجع السياسية والتاريخية، بل كانت معركة غزو لإضافة مستعمرة جديدة تحت اللواء النازي المتطلع لفرض السيطرة، وقد بدا ذلك واضحاً في حجم الدعم المقدم لجيش فرانكو، فقد أرسل هتلر حوالي 16 ألف مقاتل، بجانب 200 دبابة مقاتلة و600 طائرة مقاتلة، فيما عُرف تاريخياً باسم «فيلق الكوندور الألماني»، والذي صنفته بعض المراجع التاريخية بالفيلق العسكري الأكثر تأثيراً في تاريخ الحرب الإسبانية.

وقد كانت مهمة الفيلق واضحة ومعروفة، وهي القضاء على الوجود الشيوعي في إسبانيا، سواء كان ذلك متعلقاً بالجنود أو بالوحدات الشعبية المتطوعة وأماكن تواجدها، وقد ذكر جورج أورويل في كتابه Homage to Catalonia «الحنين إلى كتالونيا»، أن المعارك منذ وصول القوات الألمانية خرجت عن نطاق المواجهات العسكرية وتحولت إلى معارك إبادة فعلية، فقد استهدفت المشافي والتجمعات السكنية الواقعة في نطاق دعم الجمهوريين.

كما أن قوات فرانكو بالتعاون مع حلفائه، قامت ببعض العمليات النفسية في المناطق التي سقطت تحت سيطرتهم خلال المعارك، عن طريق حملات اغتصاب مُمنهجة للنساء، وإعدامات جماعية للنساء الحوامل والأطفال، لنشر الفزع من فكرة المقاومة أو التفكير في خوض أي شكل من أشكال المعارك، وبذلك يمكن الجمع بين النصر العسكري والاطمئنان من عدم نشوب أي حركات قد تُعطل التقدم للأمام.

في الوقت نفسه لم يكن الدعم الإيطالي بأقل مما فعلته ألمانيا، فقد وصل عدد المقاتلين الذين وصلوا إسبانيا إلى 75 ألف مقاتل، بالإضافة إلى 660 طائرة مقاتلة، وقد كانت الغارات الجوية الإيطالية واحدة من أهم عوامل نصر الجنرال فرانكو في نهاية الحرب.


الاتحاد السوفييتي: من أجل الديمقراطية!

ذكر «ستانلي جي باين» في الفصل السابع من كتابه «The Spanish Civil War, The Soviet Union, and Communism»، أن الألمان والطليان على يقين من أن انقلاب فرانكو سيحسم الأمور سريعاً في إسبانيا، ولم يتوقعوا أن تتجه الأمور إلى تلك النقطة من الصراع. بينما كان السوفييت مستعدين لذلك النوع من المواجهات، بل وكانوا متوقعين بشكل كبير أن تتجه الأمور إلى الذروة، بسبب الاقتناع التام بالحاضنة الشعبية التي تمتلكها الجمهورية إضافة إلى الدعم الذي سيقدمه الاتحاد السوفييتي نفسه.

هكذا جرت الأمور… دفع الاتحاد السوفييتي في نهاية المطاف بالدعم تجاه المدن الإسبانية، لوقف التقدم الفاشي بزعامة فرانكو، وقد قدم الاتحاد السوفييتي كل أشكال الدعم العسكري الذي يمكن أن يحتاجه الجمهوريون في البداية، فوصلت 1000 طائرة مقاتلة و900 دبابة وعشرات الآلاف من الأسلحة الثقيلة والمتفجرات.

ولم يتوقف الأمر عند الدعم العسكري أو المادي، بل تحركت القوات السوفييتية في بعض النقاط الواقعة بالقرب من العاصمة مدريد لتقديم نقاط دعم متقدمة للجمهوريين.

وقد أضاف ستانلي في الفصل ذاته من الكتاب أن الروس حينها لم يكتفوا بالتدخلات العسكرية، بل عمدوا إلى الدعم الإعلامي الذي قدمته الحركة الاشتراكية في فرنسا، عبر تصويرها للعمليات القتالية التي يخوضها السوفييت بجوار الجمهورين على أنها نضال مسلح لحماية الجمهورية.

وفي صبيحة 29 أكتوبر/تشرين الأول عام 1936، تحرك فيلق من الدبابات السوفييتية باتجاه مدينة سيسينا والتي تبعد عن العاصمة مدريد بـ30 كيلومترًا، وقد اعتبر ذلك التحرك أول اختراق عسكري بالدبابات في تاريخ الحروب، ونتج عن الهجوم تدمير 33 دبابة إيطالية في ذلك النطاق.

لكن ذلك النوع من الهجمات لم يكن كافياً لتحقيق حالة من النصر النوعي بالنسبة للجمهوريين، فلم يتكرر ذلك الهجوم مرة أخرى سوى في مارس/آذار عام 1938، ليصبح ثاني هجوم من نوعه في تاريخ الحروب العسكرية في العالم، وقد سُجل أيضاً باسم السوفييت.

وعلى الرغم من كل ما قدمته الآلية السوفييتية لدعم الجمهوريين، فإن موقفهم الضعيف نوعاً ما، وتاريخ المصالح المشتركة بين السوفييت وفرانكو، تسبّب في زعزعة الموقف بالنسبة للسوفييت.


الولايات المتحدة: الشعب ثم السرية

على الصعيد الرسمي التزمت الولايات المتحدة بموقف الصمت تجاه الحرب، كان موقف الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت واضحاً حينها، بأن الولايات المتحدة ستبقى على الحياد، لكن الحركة الشيوعية ومناصري الديمقراطية في الأراضي الأمريكية قرروا أن يُسجلوا دورهم الخاص، ولم تعبأ السلطات حينها بمنع ذلك الدور أو إدخاله ضمن الموقف الحكومي الرسمي المحايد.

أعلنت الحركة الاشتراكية في الولايات المتحدة عن تكوين سرية عسكرية تحمل اسم «إبراهام لنكولن»، وهو الرئيس الأمريكي الشهير صاحب ملحمة النجاة في الحرب الأهلية الأمريكية، وقد انضم الكثيرون لهذه السرية، والتي وصل عددها إلى 3000 مقاتل، بعتاد تقليدي.

وقد استمرت هذه المجموعة، بجوار سرية أخرى حملت اسم «جورج واشنطن»، في القتال إلى جانب الجمهوريين، حتى نهاية الحرب. وكانت النتيجة هو أن ثلث هذه المجموعات قد لقي حتفه في نهاية المطاف.

لم تستطع المراجع التاريخية أن تتوسع كثيراً في قصص الأمريكيين داخل السيناريو الإسباني، فالامتناع الرسمي من قبل الحكومة الأمريكية أخرجها من سيناريو المواجهة، وأوضح أن واشنطن قد رضخت لمطالب شعبها بالانعزال عن الأحداث الدولية، لذا فقد أصبحت الصورة الأمريكية حينها متركزة على مجموعة تنتمي لفصيل سياسي واحد، قررت المشاركة على غير رأي العامة، وانتهى دورها في دوائر القتال دون أن يكون ثمة أثر جلل أو واضح.


انتصر فرانكو وتبعثرت الأوراق من جديد

32 ألف مقاتل أجنبي… كان ذلك هو إجمالي من شاركوا من خارج إسبانيا في تلك الحرب الدموية طويلة الأجل، وبعد أن استقرت النهاية في يد فرانكو في إسبانيا، بدأت الصورة في أوروبا تتغير بشكل عام، فالجنرال فرانكو لم يكن يرغب سوى أن يحصل على دعم الألمان ليحقق هدفه، وليس لأن يصبح جزءاً من المشروع النازي بأكمله. وصول فرانكو للسلطة جعله يتوقف عند نقطة الاتفاق مع هتلر، وأصبح يدرك مدى الخطر الذي تشكله ألمانيا عليه، فقرر الدخول في اتفاق جديد مع الاتحاد السوفيتي.

في الوقت نفسه، خرج مقاتلو المعسكر الجمهوري باتجاه فرنسا، وأصبحوا جزءاً من الجيش الفرنسي الذي شارك في حرب تحرير فرنسا من قبضة النازية، وبحسب ما ذكر المؤرخ الإنجليزي «أنتوني بيفور» في كتابه «The Battle for Spain» فإن عدد المشاركين قد تراوح ما بين 1000 و1500 مقاتل، ورغم أن تلك المشاركة كانت فعالة ومهمة، فإنها لم تلق استحسان باقي الحلفاء مثل بريطانيا والولايات المتحدة، الذين فضلوا الحيادية حيال الحرب الإسبانية، ورفضوا التدخلات الإسبانية كذلك.

وذكر أنتوني في كتابه أيضاً أن الجمهوريين لم يتوقفوا فقط عند عملية تحرير فرنسا، بل ذكرت المصادر أن 700 مقاتل من المعسكر الجمهوري انضموا للقوات السوفيتية في معركتها الطويلة ضد الحصار الألماني الكبير الذي فرضه هتلر على روسيا.

كانت إسبانيا على وجه التحديد ومن بين كل الأوراق الأوروبية المتداعية خلال الحرب، واحدة من أهم البطاقات التي غيّرت وجه المعادلة أكثر من مرة، فالأعداء تحالفوا وتقاتلوا ثم عادوا للتحالف من جديد، وأما عن الأعداء التاريخيين ومحاربي الأيدولوجيات فكانت المصالح المشتركة بينهم أكبر من كل المواجهات التاريخية، وستظل المواجهة الإسبانية قصة مفتوحة لحروب الوكالة طويلة الأجل، تلك التي تتجدد كل قرن ولو لمرة.