«القرآن والغناء والإنشاد» فنون موسيقية، تخضع لقواعد صوتية مشتركة؛ فجميعها تخرج من الحنجرة بتنغيم. المسألة هنا ليس لها علاقة بالقداسة الدينية، بل لها علاقة بإخراج الصوت وإضفاء نغمات عليه، تعطي تعبيرات عن كلمات ينطقها اللسان.

الكاتب والمفكر الأزهري الشيخ عبد العزيز البشري (1886 : 1943) كان يتحدث عن المنشد وقارئ القرآن والمغني باعتبارهم أهل طائفة واحدة، سماها «أهل التنغيم».

والمتأمل يجد أن هناك نهضتين حدثتا في الربع الأول من القرن العشرين، لتأسيس مدرستين فنيتين ترسختا في الربع الذي تلاه.

 أولاهما في فن تلاوة القرآن الكريم، وتأسيس ما عرف بـ«دولة التلاوة»، والثانية الموازية لها كانت في فن الغناء.

المدرستان صارتا أساسًا لما جاء بعدهما، بل وهيمنتا على العالم العربي كله، وجعلتا من مصر شمسًا لفن النغم؛ فمن ينكر التأثير المهيمن، والشعبية الطاغية بالعالم العربي والإسلامي للقراء: محمد رفعت، ومصطفى إسماعيل، عبد الباسط عبد الصمد، طه الفشني، وغيرهم من عظماء دولة التلاوة؟

ومن ينكر التأثير الساحق لأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي وزكريا أحمد، بل وتلاميذهم المعاصرين لهم، والذين جعلوا مصر موطنًا لنجاح أي فنان عربي؟

المتأمل سيجد أن المدرستين خرجتا من رحم واحد بشكل كبير، وكان نفس الأستاذ الذي يعلم قارئ القرآن يعلم المغني؛ فالشيخ علي محمود –مثلًا- هو أستاذ لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وزكريا أحمد وأم كلثوم، وهو نفسه أستاذ للشيخ محمد رفعت، والشيخ طه الفشني، والشيخ كامل يوسف البهتيمي.

هذه الأستاذية لها ما يبررها من الناحية الفنية؛ فالصوت الذي يخرج من الآلة الموسيقية أو الحنجرة البشرية، له رنين واهتزازات وأنماط، تعكس أحوالاً نفسية على المتلقي.

هذه الأنماط سميت بالمقامات الموسيقية، التي يستخدمها الشيخ كما يستخدمها المغني، حتى لو جهل الشيخ أو المغني المقام الذي يتلو أو يغني منه.

فالقرآن كلام كما أن الأغاني كلام -بصرف النظر عن القداسة- هذا يعطي انطباعات ومعاني، وهذا أيضًا يعطي انطباعات ومعاني؛ وبالتالي سيجد القارئ نفسه حزينًا حين يقرأ آية بها معانٍ حزينة، مثل «فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ».

فالشيخ محمد صديق المنشاوي قرأها على مقام الصبا الحزين، تعبيرًا عن أسفه على هؤلاء الذين لم يطيعوا الله، غير عابئين بآخرتهم.

هذا المقام الحزين، هو نفسه الذي لحن منه محمد عبد الوهاب أغنية «ظلموه»، التي غناها عبد الحليم حافظ من كلمات حسين السيد، ما ساعد على إبراز معاناة العاشق المظلوم، وأسفه على نفسه نتيجة هجر حبيبته له:

ولكن القرآن، هذا النص المقدس، في مقابل الغناء، هذا النص العلماني المستباح، بينهما هوة معنوية تمنع اقترابهما. نعم هذا صحيح، ولكن هذه الهوة التأمت عن طريق فن الابتهال والإنشاد الديني ومعهما أداء الأذان.

فالإنشاد هو همزة الوصل بين التلاوة والغناء، فمن ناحية القداسة هو ليس قرآنًا، حتى ولو كان كلامه دينيًا، ولكنه من الناحية الفنية أقرب للغناء وإن اقترب أيضًا من التلاوة القرآنية. ويميل كثير من الباحثين إلى أن قالب «الدور»، تطور عن الإنشاد، في فترة زمنية جمع فيها المشايخ بين فن الغناء العلماني، وفن الإنشاد وتلاوة القرآن.

وقالب الدور هو أبو الأغنية المصرية الحديثة، فهو فن مصري بحت برز في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واستمر حتى نهاية ثلاثينيات القرن العشرين.

هذه الوِحدة الفنية، تتجلى أيضًا في أن أساتذة المقامات الموسيقية الحاذقين في بدايات القرن العشرين، هم مشايخ، مثل الشيخ علي محمود الذي أشرنا إليه، وسنتكلم عنه بتفصيل فيما بعد بهذا المقال، وتلميذه المباشر الشيخ درويش الحريري الذي كان أستاذًا أيضًا لعبد الوهاب ورياض السنباطي وزكريا أحمد، ويكاد لا يوجد ملحن ممن برزوا في الربع الثاني من القرن العشرين إلا وتعلم منه.

ليس جديدًا أن نتكلم عن النشأة الدينية لعبد الوهاب أو أم كلثوم أو القصبجي أو زكريا أو غيرهم، ودور القرآن والمشايخ في جعلهم أقطاب الموسيقى والغناء بمصر والعالم العربي.

ولكن من الناحية التاريخية، كيف حدث ذلك؟ كيف تأسس فن التلاوة المصري نفسه، وأصبح له دولة، تأسست عليها إمبراطورية الطرب في مصر؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه بهذا المقال.

البرعي وندا وبناء دولة التلاوة

كان الغناء المصري حتى منتصف القرن التاسع عشر، هو فن العوالم، يميل للانحلال الفني، قبل الأخلاقي، فلا قوالب فنية متقنة، ولا دور واضح لملحن، ولا شعراء يكتبون خصيصًا لأجله، لقد كان مجرد وسيلة للهو.

وفي المقابل كانت تلاوة القرآن مسألة ذاتية تخص كل مؤمن به، ومن يمتهنون تلاوته كانوا في الغالب من العميان الذين يتسولون به في المقابر، دون احتراف حقيقي لهذا الفن، إلا ما ندر منهم. وكانت الطريقة التي يقرأ بها في الغالب، طريقة فظة خشنة في نغمها.

ويصف الكاتب محمود السعدني أصوات المشايخ في هذه الفترة فيقول: كانت تشبه صوت الخشب أثناء احتراقه، أو صوت احتكاك عجلات القطار بالقضبان عند أحد المنحنيات.

في هذه الأثناء ظهر الشيخ حنفي البرعي بطريقة جديدة في التلاوة، نرجح أن تكون قد تأثرت بأداء المغنين؛ رغم أن الشيخ عبد العزيز البشري يرى أن البرعي ابتكر طريقته ابتكارًا، إلا أن الأمر يبدو غير دقيق.

الشيخ البشري لم يشاهد بداية البرعي، في زمن لم تكن به تسجيلات، ومن طابع الناس المبالغة في تقدير المواهب، ومحاولة أسطرتها، والشيخ البرعي وإن كان أسس أسلوبًا جديدًا في التلاوة بموهبته، إلا أن أي موهبة وأي ابتكار جديد لا يأتي من العدم، بل تتشكل الموهبة من روافد شتى، تنصهر بها فتسبك منتجها الجديد.

ولا توجد بيئة نغمية بهذا التوقيت بجانب بيئة التلاوة والإنشاد، إلا البيئة الغنائية، حتى ولو كانت ضعيفة، أو مهلهلة، فإن بها ما يتسلل بالتأكيد إلى عقل قارئ للقرآن يرغب في التميز وخلق مدرسة فنية جديدة بالتلاوة.

كذلك لم يكن هناك انفصال كبير بين المغنين والمنشدين، وبالطبع لم يكن هناك حاجز بين الإنشاد والتلاوة كما ذكرنا؛ فالمطرب عبده الحامولي مثلاً، كان يؤذن في مسجد الحسين خلال شهر رمضان، وكان يصعد المئذنة وينشد ويبتهل.

ظل الشيخ البرعي يصدح وحيدًا فريدًا بطريقته المتطورة، حتى ظهر الشيخ أحمد ندا (1852 – 1932م)، ابن الشيخ أحمد ندا الكبير، مؤذن مسجد السيدة زينب، الذي كان يقلد طريقة البرعي في البداية، ثم بدأ يضيف لها من عنده ويطور فيها نغميًا، حتى تشكلت طريقته الخاصة.

مثّل صوت الشيخ أحمد ندا وأسلوبه النغمي ثورة في التلاوة، أدت لثورة بين المشايخ أنفسهم، والتي أدت إلى قول بعضهم بأنها حرام شرعًا.

أثار ندا الإعجاب لدرجة أن أجره وصل 5 جنيهات في الليلة الواحدة، وهو مبلغ كبير بمقاييس الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وتطور الأمر حتى وصل أجره إلى مائة جنيه في الليلة الواحدة، وامتلك حنطورًا تجره 6 خيول، وقصرًا يقصده رجال الفكر والأدب والسياسة، ينظم فيه الندوات والمجالس الفكرية والفنية التي حظيت بشهرة كبيرة.

غار الخديوي توفيق (تـ1892م) من ندا، وأصدر فرمانًا بأن يكتفي بزوج واحد من الخيول، لجر عربته، وإذا أصر أن تجرها 6 خيول تصادر العربة والخيول منه، فانصاع ندا خوفًا من بطش الخديوي.

كان الشيخ ندا يجيد الغناء وخبيرًا بالموسيقى، وأشيع أنه انقطع للغناء سنوات وترك التلاوة، ولكن الشيخ عبد العزيز البشري نفى ذلك، وقال إنه كان يجمع الاثنين، فكان إذا ختم تلاوة في حفلة عرس أو نحوها، قدم وصلة غنائية.

لم يكن أحمد ندا بدارس للموسيقى بالشكل التقليدي، وإنما كان موهبة فطرية، لديه خبرة بالمقامات الموسيقية، وفنون الأداء، وأمور اكتسبها بالتجربة، لكنه لم يكن موسيقيًا محترفًا بالمعنى التقليدي، رغم أنه أضاف للفن الكثير.

وفي هذا يقول الشيخ عبد العزيز البشري:

كان فنانًا حق الفنان، وكان حسّانًا كل الحسان، كان من أولئك الأفذاذ الذين بعث الله في نفوسهم تلك الموهبة النيرة التي تَشُق وحدها في الفن طريقها فَتُعَبِّد فيه سُبُلًا، وتُمَهِّد له طروقًا، وتخلق فيه أحداثًا لم تكن خُلِقَتْ من قبل.

ويقول أيضًا:

إذا كان أسلوب الترتيل الحديث من ابتكار الشيخ البرعي، فإن الشيخ ندا بما ولد وما افْتَنَّ قد زاد ثروة هذا الفن أضعافًا، ولا أحسب أن تاريخ أهل التنغيم «مغنين ومنشدين وقارئين» أحصى لأحد ما أحصى لأحمد ندا، من سلخ أكثر من خمسين عامًا مرتلًا قوي الصوت.

سلامة حجازي واحتراف الغناء

في هذه الأثناء بدأ من المشايخ وقراء القرآن من يحترفون الغناء بالفعل، داخلين إليه بقرآنهم وإنشادهم، وأبرز هؤلاء كان الشيخ سلامة حجازي (1852 – 1917) والشيخ يوسف المنيلاوي (1850 – 1911 م).

فالشيخ سلامة حجازي الذي بدأ حياته بالإسكندرية قارئًا للقرآن، بالتوازي مع الإنشاد، تحول مع الوقت لاحتراف الغناء وهجر التلاوة، وأسّس فرقته الخاصة من الموسيقيين والمنشدين، يجوب بهم الأفراح والمناسبات، ثم تطور الأمر بعد ما جاء القاهرة، واحترف الغناء المسرحي، وبدأت التأثيرات الأجنبية تبدو على أسلوبه.

أما الشيخ يوسف المنيلاوي وهو من عمر الشيخ أحمد ندا، فلم تبرز شهرته إلا مع الجيل التالي له، ولم يقارن أبدًا بالشيخ ندا، بل كانت منافسته مع الشيخ علي محمود.

كان حظه في التلاوة من الشهرة ليس بكبير، وربما كان ذلك سبب اهتمامه أكثر بالغناء، وكانت ثقته بنفس كقارئ ليست بكبيرة، وفي الغالب كان أسلوبه حزينًا في التلاوة.

وكانت له عادة أثناء التلاوة وهي سؤال الحاضرين عن رأيهم، فكان أثناء التلاوة، وخلال اندماجه، يقف فجأة ويسأل: إيه رأيك يا جدع؟ فإذا علت الصيحات بـ«الله يفتح عليك يا شيخ» يبتسم ويُسَر كثيرًا.

أما في الغناء فكان حظه أوسع، لدرجة أنه سافر إلى الآستانة وغنى أمام السلطان العثماني عبد الحميد نفسه، وأنعم عليه بالنيشان المجيدي، ولحسن الحظ فإن له تسجيلات غنائية موجودة، إلا أنه كغيره من مقرئي عصره، ليس له تسجيلات للقرآن، فقد كانوا يعتبرون ذلك حرامًا، لأن الأسطوانة التي يسجل عليها القرآن قد يلمسها شخص نجس!

وظلت صيغة المنيلاوي وحجازي (الشيخ الذي يتجه للغناء) مستمرة حتى عصر أم كلثوم وعبد الوهاب، ومن أبرز هؤلاء المشايخ: أبو العلا محمد، وزكريا أحمد، وغيرهما.

الشيخ علي محمود أستاذ المطربين والمشايخ

إذا انتقلنا لجيل أحدث نسبيًا من جيل أحمد ندا، سنجد نضوجًا فنيًا للفكرة التي نناقشها مع الشيخ علي محمود، قارئ القرآن الذي خطا خطوات أوسع نحو الغناء، وكان له دور مؤثر بحياة الجيل الذهبي للتلاوة والغناء.

فقد الشيخ علي محمود (1878 – 1946م) بصره وهو طفل، فاتجه أبوه لتحفيظه القرآن كعادة المصريين وقتها مع العميان، ثم درس قسطًا من العلوم الدينية على يد أساتذة بالأزهر.

احترف الشيخ علي محمود تلاوة القرآن، وعين قارئًا بمسجد الحسين، وذاع صيته كقارئ كبير، في زمن كان به الشيخ أحمد ندا والشيخ حنفي البرعي ما زالا يصدحان، ما يعبر عن قوته وتفرد موهبته.

اهتم الشيخ علي محمود بدراسة الموسيقى بشكل احترافي – بمقاييس زمانه- لم يسبقه إليه أحمد ندا أو البرعي، فتعلم قواعد التلحين على يد الشيخ إبراهيم المغربي، وكان المغربي بالأساس عالم قراءات بالأزهر.

كذلك تعلم علي محمود على يد الشيخ عبد الرحيم المسلوب، رائد الموشحات العربية، وعلى يد الشيخ عثمان الموصلي، رائد الموشحات التركية.

واحترف علي محمود الغناء والإنشاد بجانب تلاوة القرآن، ومع الوقت صار مدرسة لمن أتوا بعده، وأسس فرقة للإنشاد عمل بها الموسيقار الشيخ زكريا أحمد وهو شاب، وتعلم بها أصول الموسيقى، وكذلك التحق بها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. ولم تعمل معه أم كلثوم، ولكنها التقته كثيرًا، وتلقت منه النصائح والتوجيهات.

ويقال إن عبد الوهاب لجأ إليه في تلحين قصيدة الكرنك، حين عجز عن تقديم لحن مناسب لمقطع «أنا هيمان»، فلحنه له الشيخ علي، وبالفعل تبدو طريقة الشيوخ واضحة في أسلوب عبد الوهاب وهو يغنيه، في جو لحني بعيد تمامًا عن روح القصيدة ككل.

وحين انطلقت الإذاعة المصرية عام 1934 لم يُعتمد الشيخ علي محمود كقارئ للقرآن، وكان ذلك يحزنه جدًا، بل اعتمد كمنشد ومغنٍ، خاصة أن تلميذه الذي كثيرًا ما أخذ منه النصائح الشيخ محمد رفعت هو من افتتح الإذاعة بتلاوته، وكذلك التحق بها تلميذه المباشر وعضو فرقته القارئ الشيخ طه الفشني بعد رفعت.

ولكن مشاركة محمود في مأتم الملك فؤاد نبّهت البعض إلى عدم ظهور صوته بالإذاعة كقارئ، فانفتح الباب لتلاوة الشيخ وأذانه بالإذاعة، بعد ذلك، ما كان سببًا في احتفاظ الذاكرة بصوته حتى يومنا.

مشايخ الإذاعة الذين دعمتهم الموسيقى

الجيل الأحدث من القراء، الذي لمع مع إذاعة القرآن، كان أكثر احترافًا، فقد تبلورت في هذا التوقيت (ثلاثينيات القرن العشرين) المهن النغمية، وصار التخصص غالبًا، فصار هناك من يتخصص في التلحين، ولا يغني، ومن يغني ولا يلحن، وبالطبع كان القارئ يقرأ فقط، والمنشد في الغالب ينشد فقط.

ومع ذلك ظل الإلمام بقواعد الموسيقى، أداة للقارئ لإتقان قراءته، وقطعًا كان المشايخ يحبون الغناء وبعضهم غنى بالفعل، لكن كهواة.

الشيخ محمد رفعت (تـ1950م) الذي كان يسمع الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، ويعقد مجالس في بيته يحضرها المطربون والموسيقيون والشعراء، غنى بالفعل.

وحكى الإذاعي حبشي جرجس أنه كان يملك محطة إذاعة أهلية، قبل إنشاء الإذاعة المصرية الرسمية، وأن الشيخ محمد رفعت مقرئ جامع فاضل وقتها، طلب منه عن طريق صديق أن يغني بالإذاعة، على ألا يذكر اسمه.

وبالفعل ذهب رفعت لإذاعة حبشي وغنى بمصاحبة تخت مصطفى العقاد «وحقك أنت المنى والطلب».

وكتب الأديب محمد السيد المويلحي: نعتبر الأستاذ الشيخ محمد رفعت سيد قراء هذا الزمن، موسيقيًا قبل أن نعتبره مقرئًا… الأستاذ موسيقي بفطرته وطبيعته. يزجي إلى نفوسنا أرفع أنواعها (الموسيقى)، وأقدس وأزهى ألوانها.

والحديث عن علاقة رفعت بمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وزكريا أحمد وأحمد رامي وزكي مراد معروف جدًا، وقيل إن المطربة ليلى مراد كانت تذهب بصحبة والدها زكي مراد إلى بيته وهي طفلة وصبية، وتعلمت من رفعت الكثير عن المقامات الموسيقية وأساليب الأداء.

أما الشيخ مصطفى إسماعيل (1905 : 1978) وهو جيل أحدث من الشيخ رفعت، فكان أيضًا من أبرز المشايخ الذين يفهمون في الموسيقى، وفي إحدى المرات طلبوا منه بالإذاعة أن يغني:

تعلم الشيخ مصطفى المقامات الموسيقية بالخبرة، بعد مجيئه القاهرة من قريته ميت غزال بمحافظة الغربية، وكان كبار المطربين يثقون في فهمه.

كانت له مواقف مع أم كلثوم وجمعتهما صداقة، وكان يحضر حفلاتها، وفي مرة قابلها بالإذاعة، حيث كان هو يقرأ وهي تجري بروفات على أغنية، فطلبت منه حضور البروفة معها، وحضر بالفعل. وبعد أن انتهت سألته عن رأيه في غنائها، فقال لها إنها أخطأت في «جواب» معين ولم تعطه حقه، ولكنها تداركت وأعادته فغنته منضبطًا «واداته على دماغه تمام»، فسعدت جدًا أم كلثوم بتعليقه ومدى فهمه.

ومما يعرف أن بيته كان به آلات موسيقية، وكانت زوجته تعزف بيانو بالمنزل، ولهما صورة شهيرة نشرتها مجلة الكواكب أمام البيانو:

الشيخ مصطفى إسماعيل وزوجته تعزف الموسيقى

امتد تأثير الموسيقى على الأجيال اللاحقة من القراء، وكان الشيخ عبد الباسط عبد الصمد يحب أم كلثوم وعبد الوهاب، لكنه لم يغنِّ، إلا أنه كان يلم بالمقامات الموسيقية ويقرأ عليها، وله صورة شهيرة وهو يمسك بالعود ويعزف:

الشيخ عبد الباسط عبد الصمد ممسكا بالعود

ونستطيع بنقرة على يوتيوب أو ساوند كلاود أن نعثر على مئات القراءات لهذا الجيل، مرتبة وفقًا للمقامات الموسيقية التي يقرأ منها المشايخ، الذين كان أغلبهم يدرك جيدًا كيف يقرأ.

والمثير أن السنوات الأخيرة بدأنا نلحظ اتجاهًا لإحياء هذه الروح الموسيقية لدى القراء الجدد، ووجدنا كثيرًا من خبراء الموسيقى يعلمون المشايخ المقامات، ومجالاتها النفسية.

وعلى رأس هؤلاء الشيخ أحمد مصطفى كامل، والشيخ طه عبد الوهاب، وهاني زيتون وغيرهم.

هذا الاتجاه البعثي للموسيقى القرآنية، والذي يتمدد بفعل الإنترنت، يهدم بهدوء الآن الحواجز النفسية التي بنتها تيارات متشددة في سنوات ما يطلق عليها بالصحوة الإسلامية، بين القرآن والغناء، وتعيدنا بشكل جديد عصري إلى زمن الشيخ علي محمود وما قبله.

المراجع
  1. كتاب “الموسيقى الشرقي” لمحمد كامل الخلعي
  2. كتاب “المختار” للشيخ عبدالعزيز البشري
  3. كتاب “ألحان السماء” لمحمود السعدني
  4. كتاب “مزامير القرآن” لأيمن الحكيم
  5. “الشيخ محمد رفعت من الوجهة الفنية” مقال محمد السيد المويلحي، بمجلة الرسالة 13 سبتمبر 1939