في مايو/آيار من عام 2008، صدر الفيلم الأول من سلسلة «الرجل الحديدي» (Iron Man)، وهو كذلك أول أفلام «عالم مارفل السينمائي» التي ستواصل إستوديوهات مارفل إنتاجها، حتى يتجاوز عددها خمسة عشر فيلما مع نهاية 2017، تتناول مغامرات أبطالها الخارقين، مجموعات وفرادى، ما بين «كابتن أمريكا» و«الرجل الأخضر» و«ثور» وآخرين.

ولمواجهة مارفل وأبطالها، بدأت «دي سي كوميكس»، الغريم التاريخي، في عام 2013 بعد سنوات من التأخير، في إنتاج سلسلة أفلام «عالم دي سي الموسع»، بمجموعة منتقاة من الأبطال، على رأسهم «سوبرمان»، البطل الخارق الأشهر في تاريخ الصناعة، و«باتمان»، البطل الأكثر جماهيرية حول العالم، خاصة بعد ثلاثية كريستوفر نولان.

كان أغلب المشاهدين، بلا شك، يَألفون كثيرًا من هذه الشخصيات، سواء بفضل الأفلام السينمائية السابقة، وهي الحالة الأعم، أو بفضل الاستمرار في متابعة أفلام الرسوم المتحركة التي ارتبطت بمرحلة سنية معينة لدى البقية، إلا أن رؤية هذا الكم من الأبطال الخارقين مجتمعين ومتكتلين، مع هذا التداخل المعقد بين حيواتهم، كان أمرًا غير مسبوق سينمائيًا.

لكن الحقيقة أن هذه الأعمال، رغم جودتها، لا تعبر كفاية عن مدى تنوع وثراء فن الكوميكس الذي خرجت من رحمه. وينبغي هنا الإشارة إلى أن لفن الكوميكس ثلاث مدارس رئيسية؛ أولها الأمريكية، وهي الأشهر، فيكتفى بكلمة «كوميكس» للإشارة إليها. والثانية هي الفرنسية-البلجيكية، التي قدمت «تان تان» و«أستريكس»، وتعرف بـ«بوند ديسينيه» (Bande Dessinée). ثم هناك اليابانية، عالم «دراغون بول» و«المحقق كونان» و«ناروتو»، وتعرف بالـ«مانجا» (Manga).

في هذه المقالة عرض لفن الكوميكس الأمريكي، خاصة أبطاله الخارقين. ففيما يلي ذكر للخلاف في تعريف الفن أولاً، ثم سرد موجز لتاريخ هؤلاء الأبطال، وخاتمة عن مكانة فن الكوميكس اليوم.


التعريف

بداية بالمعنى اللغوي، «كوميكس» (Comics) كلمة إنجليزية للجمع، مفردها كوميك، وهي صفة بمعنى مضحك أو «هزلي»، ومن هنا جاء مصطلح «قصص هزلية»، إحدى التراجم العربية المستخدمة. يرجع أصل التسمية إلى صورة هذا الفن المبكرة، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حين كان رسومات مؤطرة، ساخرة، تنشر في الصحف البريطانية والأمريكية، ولما بدأ جمع بعض هذه الصور ونشرها في كتب مخصصة، أطلق عليها «كتب الكوميك» (Comic Books)، ومن وقتها صارت هذه التسمية علمًا على هذا الفن، رغم التغيرات والتنوعات الهائلة التي سيشهدها المحتوى.

أما اصطلاحًا، فيندر أن تتفق مجموعة من مؤرخي هذا الفن على تعريف واحد له، دون تعليق أو حذف أو إضافة. فيعرفه رسام الكوميكس المخضرم ويل إيسنر بـ«فن تعاقبي»، فقط! وهو قريب من تعريف سكوت ماككلاود، الرسام والمنظر الشهير، بأنه أي عدد من الصور المتعاقبة عن عمد، يقصد منها نقل معلومة أو إثارة استجابة جمالية في نفس المشاهد. بينما يضع ديفيد كونزل، أستاذ تاريخ الفنون بجامعة كاليفورنيا، شروطًا أربعة أساسية: سلسلة من الصور المنفصلة، تكون الأهمية فيها للصور على حساب النص، تسرد قصة موضوعية وأخلاقية، تصدر في وسيط يقبل الإنتاج الغزير!

تكفي هذه الأمثلة الثلاثة لتوضيح مدى تباين الآراء، ما بين تعريفات فضفاضة تضم إلى الفن جداريات الفراعنة ورسوم الكهوف، وأخرى شديدة التفصيل تكاد تخنق أي فرصة للإبداع أو التجديد. ولا شك أن هناك كثيرًا من التعريفات المعتدلة، إلا أن الاختلاف في المعايير والشروط بينها يظل كبيرًا.


تاريخ موجز لحماة الوطن

بعد جمع رسومات الصحف الهزلية في كتب ونشرها، وجد الناشرون أن شراء أعمال جديدة من الفنانين مباشرة سيكون أقل تكلفة، خاصة مع الظروف الاقتصادية السيئة لكل من الناشر والفنان، التي صاحبت فترة الكساد الكبير. كما شارك الفنانون في ذلك كخطوة تقربهم من النشر في الصحف مستقبلاً. ومع نشر أول قصص «سوبرمان» بمجلة «أكشن كوميكس»، الصادرة عن «منشورات الكوميكس الوطنية» (دي سي كوميكس، حاليا)، عام 1938، بدأ عصر الكوميكس الذهبي، عصر الأبطال الخارقين.

العدد الأول من أكشن كوميكس، 1938

العصر الذهبي: من الحرب إلى القيد

بعد سوبرمان، نشرت أولى مغامرات باتمان عام 1940، وشجع نجاحهما الهائل مزيدًا من الكتاب والفنانين على سلوك هذا الدرب. ثم اندلعت الحرب العالمية الثانية، واستجابت دور النشر للواجب الوطني بضخ أبطال خارقين جدد، قاتل بعضهم في صفوف الحلفاء، مثل كابتن أمريكا، الذي لكم وجه هتلر في غلاف أحد الأعداد! لكن مع انتهاء المعارك، كان الجمهور قد نال كفايته من العنف والقتال، حتى إن مبيعات قصص «كابتن مارفل» في عام 1949 كانت أقل من نصف مثيلتها في بعض سنوات القتال. مع تراجع شعبية الأبطال الخارقين، احتلت الصدارة أنواع أخرى مثل الأدب البوليسي والرعب والرومانسية، مما اضطر بعض السلاسل إلى الانحناء أمام الريح، مثلما فعل كابتن مارفل نفسه، إذ حقن جرعة من الرعب في مغامراته، كان لها أثر السحر على المبيعات.

في هذه الفترة الحرجة، لم يكتف الإعلام والساسة بتجاهل أبطال الحرب الأخيرة، بل نجحوا فيما فشلت فيه النازية، فأحاطوا معاصم أبطالهم بالقيود. تغيرت النظرة تجاه الكوميكس، وبدأ الجدال حول مضمونها الأخلاقي، والعنف، والمحتوى الجنسي، مما لا يليق بالقراء القصر. ثم تنامت صور الرفض، إلى درجة حظر بعض المدن للمجلات، وتنظيم فعاليات لحرقها، فبادرت دور النشر بتأسيس هيئة الرقابة على الكوميكس عام 1954، التي تعد من إرهاصات نهاية العصر الذهبي.

لكن بعد عامين تقريبًا، قدمت دي سي كوميكس تصورًا جديدًا لاثنين من أبطالها القدامى، كان أولهما ظهورًا –بطبيعة الحال- هو الأكثر سرعة على الإطلاق: فلاش، ثم تبعه جرين لانترن. وحقق البطلان طفرة في مبيعات الأبطال الخارقين، حتى صار يؤرخ بهما البعض لبداية العصر الجديد، العصر الفضي للكوميكس الأمريكي.

العصر الفضي: أبطال ولكن!

صحيح أن العصر الفضي قد شهد استمرارًا في إنتاج قصص الأبطال الخارقين السطحية، من النوع الملائم للقراء الأطفال، إلا أنه شهد أيضًا معالجات صريحة لأبطال على درجة من التعقيد، يرتكبون الخطايا، ويعانون من نقاط الضعف، أبطال يستغلون قوتهم الخارقة لأغراض شخصية أحيانًا، مثلما فعل بيتر باركر (الرجل العنكبوت)، عندما اشترك في مباريات مصارعة لجمع المال. كذلك ظهر أشرار يملكون دوافع متفهمة، يمكن التعاطف معها نوعًا ما. باختصار، لم يعد الأمر صراعًا بين خير محض وشر محض، لقد ازدادت الأمور تعقيدًا. ويربط الأكاديميون ذلك بحرب فيتنام، وما أثارته في المواطن الأمريكي من ارتياب في صحة وأخلاقية قرارات قياداته السياسية.

إلى جانب ذلك، أصبح العلم –وإن كان متخيلاً- قوة مؤثرة في مجريات الأحداث. والأمثلة على ذلك فيها ما هو شديد الوضوح والمباشرة، مثل الرجال إكس، حيث الطفرات الجينية والتجارب المعملية والتفاصيل العلمية. ناهيك عن قصة بيتر باركر ذاته، بما فيها من عناكب مشعة وتجارب معملية سرية.

ثم تأتي السبعينات وأوائل الثمانينات، التي يطلق عليها البعض «العصر البرونزي»، بينما يراها البعض الآخر تتمة للعصر الفضي. في هذه الفترة، ازدادت القضايا الاجتماعية ظهورًا في الكوميكس، مثل التمييز والنسوية، وقدمت قصص أكثر سوداوية وإثارة للجدل، فأدمنت بعض الشخصيات الكحوليات، وبرزت أحداث كابوسية ظلت تطارد الأبطال على مدار عشرات ومئات الأعداد، مثل وفاة جوين ستاسي التي ما تزال حاضرة في كوابيس الرجل العنكبوت إلى اليوم. كما ازدادت شعبية الرجال إكس بين المواطنين المطالبين بمزيد من المساواة وحقوق المواطنة. إلى جانب ذلك، تعاظمت خيبة الأمل في السياسة الأمريكية، إلى درجة غير معها كابتن أمريكا اسمه إلى «نوماد». كما طغت موجة من التجريب في تفاصيل الكوميكس الفنية وسبل تسويقه، وانتشرت المسلسلات التليفزيونية والرسوم المتحركة الخاصة بهؤلاء الأبطال.

العصر الحديث: عصر الظلام

تسمى الفترة الممتدة من نحو عام 1986 إلى اليوم في بعض أدبيات فن الكوميكس بعصر الظلام، وتسمى بالعصر الحديدي في أخرى. كما يجعل البعض للعصر الحديث قسمًا خاصًا به، في حين يرى البعض أن عصر الظلام ما يزال مستمرًا حتى اليوم، بمعنى أنه نفسه العصر الحديث.

على كل حال، واجهت قصص الكوميكس في هذا العصر مشاكل تتعلق باستمرارية السرد، وظهرت أخطاء نتيجة للتوسع في قصص الأبطال الخارقين وتضاربت الأحداث، مما أزعج القراء المخضرمين الأوفياء. واجه الفنانون والمحررون هذه المشكلة بخلق العديد من الأكوان الموازية والبديلة، وفي كل منها نفس الأبطال الخارقون لكن بحبكات ومصائر مختلفة، يصل اختلافها أحيانًا إلى درجات كابوسية، وتتوفى الأبطال أحيانًا –حتى سوبرمان- وتحل نسخ مشوهة منها محلها، كما ينقلب الأبطال الخارقون أشرارًا سيكوباتيين يحاولون تدمير الكوكب!

«الحراس»، وجه مظلم للبطل الخارق

صار من الجلي أن قصص الكوميكس لم تعد قصصًا للأطفال، ولا الرومانسيين الحالمين. وهي فكرة لم تعد قابلة للنقاش مع صدور سلسلة «الحراس» (Watchmen)، للإنجليزي ألان موور، التي صدرت مجمعة في كتاب واحد عام 1987. ومع نجاح أفلام الأبطال الخارقين وتزايدها، حية كانت أم رسومًا متحركة، أصبح الأبطال الخارقون نوعًا من الثقافة الشعبية، متجاوزة كثيرًا من القيود التي كانت تحول بينها وقطاع كبير من الجمهور في صورتها المطبوعة. ومع هذا الرواج الكبير، بيعت من أحد أعداد الرجال إكس، في نهاية 1991، أكثر من ثمانية ملايين نسخة! وما نزال حتى اليوم نشهد استمرارًا في نمو جماهيرية الكوميكس عالميًا. حتى صارت قوائم أفضل الأفلام فنيًا وأكثرها إيرادات مليئة بأسماء أفلام الأبطال الخارقين، مثلما جاء في مقدمة المقال.


خاتمة

«الحراس»، وجه مظلم للبطل الخارق

يتضح من القسم السابق حجم الخلاف في تأريخ رحلة فن الكوميكس، وهو اختلاف متفهم نتيجة للتأخر النسبي في الدراسة الجادة لهذا الفن. تصدر يوميًا عشرات الدراسات الجادة لفن الكوميكس، أو «الفن التاسع». إذ لم يعد فنًا شعبيًا متدني المستوى. لقد اختفت هذه الوصمة بدرجة شبه كاملة، وبدأ الأكاديميون والفلاسفة في تناول تفاصيله بالبحث والتنظير، فما يزال حقلاً ثريًا ومغريًا لكثير من الباحثين. حتى أن هناك بالفعل أقسامًا أكاديمية خاصة بـ«دراسات الكوميكس»، في عدد من المؤسسات الأكاديمية البارزة، ناهيك عن المعاهد المتخصصة في تخريج فناني وكتاب الكوميكس.

عالم مارفل السينمائي

يشمل الاهتمام بالكوميكس اليوم جميع التفاصيل، كبيرها وصغيرها، بداية من علاقة المحتوى بالأوضاع السياسية والاجتماعية، ودور المرأة وصورتها في الأحداث، وانتهاء بتطور ملابس البطل الخارق. وما تزال النظرة إلى هذا الفن بصورته الغربية تختلف تاريخيًا وجغرافيًا، بل وصل الأمر ببعض الأنظمة إلى اتهام أبطال الكوميكس، باعتباره فنًا مؤثرًا، بالمشاركة في الغزو الثقافي، أو العمالة للرأسمالية. ولا شك أن تزايد الجمهور العربي المحب للكوميكس وعوالمه حقيقة واقعة وطبيعية، لكنه يستلزم من الأكاديميين العرب توجيه الاهتمام إلى دراسة هذا الفن، سواء على المستوى الفني والثقافي.

المراجع
  1. Meskin, Aaron and Roy T. Cook, eds. 2012. The Art of Comics: A Philosophical Approach. Chichester, UK: Wiley-Blackwell
  2. Jacobs, Will, Gerard Jones. 1985. The Comic Book Heroes: From the Silver Age to the Present. New York, New York: Crown Publishing Group.
  3. Coogan, Peter M., and Dennis O'Neil. 2006. Superhero: The Secret Origin of a Genre. Austin, TX: MonkeyBrain Books