لا يزال صدى رواية «1984» للكاتب «جورج أورويل» يلقي بظلاله على الكثير من الممارسات القمعية والسلطوية التي تظهر بين الحين والآخر في العالم كله، فالأخ الكبير لا يزال يراقب ويحرص على أن يتتبع الجمهور والشعب ويحرص على مصلحتهم وفقًا لأهوائه، من هذا الصدى والأثر تبدو رواية استسلام للإسباني راي لوريغا بطرح رؤيةٍ جديدة تنتمي مرة أخرى لتيار الديستوبيا الذي يبدو أنه آخذٌ في الانتشار ليس في العالم العربي فحسب، بعد ثورات الربيع العربي، وما أدت إليه من تقويض الكثير من الأحلام والطموحات، ولكن في العالم الغربي كذلك، وتحديدًا من إسبانيا حيث يعيش ويكتب راي لوريغا روايته.

منذ السطور الأولى في الرواية، والتي اعتمد فيها الكاتب على تقنية السارد البطل الذي يحكي حكايته بنفسه، يتسرب إلى القارئ ذلك الشعور القوي بالاستسلام المتبوع بالهزيمة الذي لم يبدأ إلا بعد مرور سنوات من الحروب وانتظار عودة أبناء البطل الغائبين في حربٍ غير معروفة الأسباب ولا العواقب.

فجأة يصدر القرار بضرورة ترك القرية التي كانوا يعيشون فيها والانتقال إلى عالمٍ جديد، إلى المدينة الشفافة التي لا يعلمون عنها شيئًا، ولكنهم يضطرون لتنفيذ تلك الأوامر، وعبر رحلةٍ غريبة يتم فيها تحديد مصائرهم حتى يصلون إلى تلك المدينة الموعودة.

يقولون إن المكان الجديد أكثر نظافةً من هذا، مساحةٌ مغلقة وشفافة، حيث لا يمكن لشيءٍ سيئ أن يختبئ ويلحق بنا ضررًا. يدعون هذا المكان المدينة الشفافة.. من هم مسؤولون عنا يفكرون بالنيابة عنا بينما يفكرون فينا.. تحدث شرطي المنطقة بعقلانية شديدة ويقول ما تأمره الحكومة بأن يقوله، فمن المفروض أن الحكومة تعرف جيدًا لماذا تأمر بأشياء ولماذا تفعلها … جمعونا في دار البلدية وشرحوا لنا أن هذه المدينة الشفافة ليست منفى أو سجنًا، بل هي ملاذ .. ليس ملاذًا مؤقتًا بل مدينةٌ آمنة للتفكير في المستقبل.

لا تشغل الرواية نفسها كثيرًا بطريقة أو تفاصيل ذلك الانتقال الذي يبدو مفاجئًا وغير طبيعي للناس إلى تلك المدينة، ولكنها تبدو مشغولة أكثر بتوضيح انعكاس ذلك كله على نفسية وتصرفات بطل الرواية الأساسي الذي لا نعرف له اسمًا، ولكنه يبدو ممثلًا جيدًا للمواطن الصالح الممتثل للأوامر، والذي يرضى بكل ما يقدم له بدون أي تفكير أو بادرة اعتراض.

اقرأ أيضًا: «1984» وسنوات أخرى: 8 روايات من أدب الديستوبيا

كما لا تظهر السلطة بشكلٍ واضح في رواية لوريغا، ولكن تبدو كل ممارساتها وإشاراتها واضحة، من خلال رجال الشرطة الصالحين الذين يتحدثون مع الناس بعقلانية وينتشرون في كل مكان، يشاركون الناس حياتهم من جهة وهم في الوقت نفسه قادرون على فرض أوامرهم في الوقت الذي يريدونه. ثمة قوة خاصة موجودة وخفية تتمتع بها سلطةٌ ما، قادرة على بث الذعر في نفوس الناس بشكلٍ أكثر حداثة واختلافًا عما اعتدناه من صور ومظاهر مألوفة، لا حديث هنا عن القمع والسجن والتعذيب، ولكنها الأوامر الصارمة ثم قتل المخالف باعتباره خائنًا وتعليق جثته ليكون عبرة لغيره.

استطاع لوريغا من خلال تكثيف أحداث الرواية ومشاهدها من جهة، ومن خلال بطل الرواية القانع المستسلم تمامًا لما حوله أن ينقل للقارئ ذلك النمط الجديد المغاير من القمع وفرض السيطرة الذي يبدو متماشيًا أكثر مع العصر الحديث، لا سيما من خلال تلك «المدينة الشفافة» الزجاجية التي يرى الناس فيها جيرانهم وهم يمارسون كل تفاصيل حياتهم، حيث ليس ثمة حاجة لكاميرات مراقبة مثلًا، بل من جهة أخرى تتم بلورة كل من يدخل هذه المدينة من خلال الاستحمام لكي يكون خاضعًا بشكلٍ طبيعي، تغمره المشاعر الإيجابية التي تجعله لا يشعر بشيءٍ غير السعادة، رغم كل ما قد يحيط به من ملل وغضب بل تعاسة!

إن أيامي السالفة أيضًا لم تكن شيئًا جللًا، فلم أعش أفضل حياة،لكن حينها فلا حتى الحرب أو الخوف نفسه قد سمم روحي مثل هذه الرفاهية الدائمة، لقد أحببتها هي وقتها دون حاجة للتفكير فيها، أما الآن – بل ومنذ وصولنا إلى هنا – فأنا على النقيض وعلى أرض الواقع أعتبرها عدوًا أو شخصًا غريبًا. لا تتعلق المسألة بأنني أفكر فيها بصورة مختلفة، بل إنها غدت أمامي مختلفة. إن كنت عاجزًا عن تحميلها الذنب فهذا لأنني لا أعلم حقًا إن كان يجب عليّ الثقة في الحقيقة التي أراها بأم عيني أم في تلك الموجودة بلا شك على الجانب الآخر.
رواية استسلام

تدريجيًا تتصاعد حيرة البطل وتتغيّر قناعاته بمرور الأيام، ويتسرّب إلى نفسه ذلك الشعور بعبثية الحياة التي يرضى فيها بكل ما يدور حوله، ولكن الأمر لا يستقيم له قطعًا إلى النهاية.

على هذا النحو البسيط والمفزع يمكن بالفعل للديكتاتوريات كلها أن تفرض سيطرتها، كل ما تحتاج إلى توفيره هو قدر من الرفاهية في مدنٍ منعزلة بالطبع، مع الإيهام بعض الممارسات الديمقراطية وأخذ الرأي وصناديق الاقتراع في أمور حياتية اعتيادية، تجعل الناس يشعرون بأنهم أصحاب رأي وكلمة مؤثرة، فيما يتم فرض الحكم والسيطرة على كل مجريات الأمور، وأمّا من يعترض ويحاول أن يفر فلن يجد نفسه إلا وحيدًا شريدًا خارج القطيع، يمكن اقتناصه بسهولة!  

راي لوريغا كاتب وسيناريست إسباني ولد عام 1967، ترجمت أعماله المتنوعة بين الرواية والقصة إلى أكثر من لغة، يعتبر من أبرز المؤلفين الإسبان محليًا وعالميًا، من أعماله الروائية «أسوأ الأشياء» و«سقطوا من السماء» حازت روايته «استسلام» على جائزة «ألفاغورا» العريقة عام 2017، وصدرت الرواية مؤخرًا بالعربية عن دار مسعى بترجمة المترجم المصري محمد الفولي.