أعلن ظهر اليوم عن جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2016 والتي قد تقرر منحها مناصفة بين العالم الهولندي «بيرنارد فرينجا Bernard L. Feringa» بجامعة جرونينجن والفرنسي «جين بيير سوفاج Jean-Pierre Sauvage» جامعة ستراسبورغ مع السير الإنجليزي «فراسر ستودارت Sir J. Fraser Stoddart»؛ وذلك لإسهاماتهم في تصنيع «الآلات الأكثر صغرًا على مستوى العالم»، حسبما قال البيان الرسمي لمؤسسة نوبل. فما هي الآلة الأكثر صغرًا التي منحت صانعينا نوبل؟

للروابط الميكانيكية المعتمدة على قوى فاندرفال وثنائيات القطب طبيعة مميزة، لا تندرج هذه الروابط تحت تصنيف الروابط الأيونية ولا التساهمية، كما أنه عند كسرها ينتج جزيئان كاملان لا أيونات أو شقوق حرة. مع هذا تظل الميزة الأهم والأجدر بالإشارة هي قدرتها على تكوين جزيئات متشابكة متداخلة interlocked، ذات صفات خاصة يستخدم الكثير منها كأدوات.

على المستوى الجزيئي، تعرف الأداة Device على أنها عدد من المكونات الكيميائية يقوم كل منها بفعل بسيط، إلا أن مجموع هذه الأفعال البسيطة يؤدي للقيام بوظيفة معقدة. من بين هذه الأدوات، يتطلب البعض طاقة من مصدر خارجي كيميائي أو ضوئي وتقوم بأفعال ميكانيكية -حركية – فتسمى فئتها باسم الماكينات الجزيئية Molecular Machines، التي يعد أبسطها وأشهرها مركبات الكاتينان Catenanes والروتاكسان Rotaxanes، التي فاز الكيميائيان صاحبا الفضل في تحضيرها بنوبل الكيمياء هذا العام مع الكيميائي الذي توصل لقيادة هذه الجزيئات.


كيف تصنع عقدةً وجزيئًا لرفع الأثقال؟

يتكون المركب عادة من أيونات أو مجموعات ذرية مترابطة فيما بينها لكنها لا تحمل صفة جزيء بحد ذاتها. في أوائل الستينيات قام فريش Frisch باقتراح إمكانية وجود مركبات تحقق هذا الوضع؛ أي يتكون الجزيء الواحد منها من كيانات يمكن إطلاق كلمة «جزيء» عليها إن تواجدت بمفردها.

تنبع أهمية اقتراح فريش من قدرته على تفسير طبيعة مركب تم تحضيره قبل ذلك بعام واحد بواسطة فاسرمان Wasserman. كان فاسرمان على علم بأنه يمكن إخضاع العديد من المركبات لعملية تسمى Cyclization فتتحول على حلقة، فكان السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا يحدث إذا دخلت هذه السلسلة في مركب حلقي بالفعل ثم تحولت بدورها إلى حلقة؟

اتبع فاسرمان الطريقة الإحصائية في تصميم التفاعل الذي سيقوده لأول جزيء «كاتينان» في التاريخ. نتج عن هذا التفاعل جزيئات كبيرة تتكون من حلقتين متداخلتين فأطلق عليها كاتينان من اللفظ الإغريقي «كاتينا» لكلمة «سلسلة chain». تسمى هذه الطريقة بالطريقة الإحصائية بسبب محدوديتها، حيث لا تنتج هذه الجزيئات المتداخلة إلا من تفاعل 1% فقط من المتفاعلات. بالطبع إحصائيًا لا تعد احتمالية حدوث تفاعل تكوين الحلقة «بعد» دخول السلسلة في الجزيء الحلقي الآخر احتمالية كبيرة. ظل الأمر بحاجة للمزيد من التطوير قبل أن يصبح من الممكن استكشاف إمكاناته بشكل واضح.

تلت محاولة فاسرمان عدة محاولات أخرى تسعى لحل مشكلة الناتج الضئيل، وساعدت تقنيات التعرف الجزيئي والتجميع الذاتي على تحسين الناتج على نحو ما، إلا أنه ظل لا يتعدى الستة بالمائة جاعلًا البحث فيما يخص هذه المركبات أمرًا صعبًا للغاية. ذلك حتى تمكن سوفاج من حل المشكلة عام 1983 بالاعتماد على الكيمياء التناسقية، حيث استخدم معدنًا انتقاليًا وهو النحاس كمركز لحلقتين متعامدتين غير مغلقتين من الفينونثرولين، متبوعًا بتفاعل غلق لهاتين الحلقتين مكونًا كاتينان النحاس الأحادي. امتازت طريقة سوفاج بإنتاجها لكميات كبيرة من الكاتينانات جاعلة من طريقة تحضيره لها الطريقة الأساسية الأولى للحصول على المركب منذ اكتشافه.

يمتاز هيكل الكاتينان بالثبات بغض النظر عن أي تشوه قد يحدث للحلقات، فهي ستظل معقودة متداخلة ما لم يتم كسرها أو فتحها، عكس الروتاكسانات التي قام سير ستودارت بتحضيرها عام 1991.

كاتينان النحاس

بحلول التسعينات كانت طرق التحضير التي تستغل تفاعل مواد غنية بالإلكترونات مع مواد قابلة لاستقبال الإلكترونات أمرًا شائعًا. أثناء دراسته للمركبات المتداخلة، قام ستودارت وفريقه باستخدام إحدى هذه الطرق لتخليق جزيء يشبه العجلة التي تدور على محور. تحمل نهايتا هذا المحور مجموعات ذرية كبيرة الحجم قادرة على حبس الحلقة بالداخل على محور الجزيء، فيما يعتبر مثالًا واضحًا على الرابطة الميكانيكية. يتضح من ذلك أن هذه المركبات تناقض الكاتينانات في كونها قابلة للتكسير إذا تمددت الحلقة بما يكفي لانسلالها من إحدى نهايتي المحور.

روتاكسان و حركته


تعليم قيادة الجزيئات

نوبل 2016

قد تكون قيادة السيارات تجربة سهلة بالنسبة للبعض، لكن قيادة جزيء مركب لا يتعدى حجمه نانومترات تعد على أصابع اليد الواحدة ليست بالعملية السهلة مطلقًا. تنتج حركة الجزيئات أو «سيرها» من التفاعلات الكيميائية التي تحدث للجزيء، فمثلًا تنتج حركة الروتاكسانات من تحول أحد شكلين متكافئين لنفس الجزيء إلى الشكل الآخر فيما يعرف باسم isomerism. لهذين الشكلين نفس الصيغة الكيميائية ويختلفان فقط في الشكل الهيكلي، إلا أن تحول الجزيء المستمر من شكل إلى آخر يؤدي لحركة يمكن قيادتها بالتحكم في هذا التحول. عادة ما يحدث هذا التحول في مناطق معينة من الجزيء والتي غالبًا ما تحتوي بدورها على رابطة ثنائية تسهل على الجزيء الدوران حول نفسه بكسرها -أي الرابطة- وإعادة تكوينها.

يمكن للمركبات أيضًا أن تتحرك بواسطة انحلال وإعادة تكوين الروابط التناسقية؛ أي الروابط التي تعقدها المركبات الحلقية مع مركز من المعدن الانتقالي -كما في حالة النحاس- أو بواسطة كسر وتكوين روابط هيدروجينية.

نوبل الكيمياء 2016

يظهر مما سبق أن الحركة دائمًا ما تكون عبارة عن كسر وتكوين روابط بشكل تبادلي؛ مما يعني أنه يتطلب طاقة لكسر وتكوين الروابط كما لو كانت المقود الذي يستخدم لقيادة الجزيء وتوجيهه. وبهذه الطريقة استطاع بيرنارد فيرنجا، باستخدام دفعات من الضوء والاختيار العبقري لتصميم الجزيء، قيادة جزيء ألكين متعدد الحلقات في اتجاه واحد.

كان هذا مرورًا سريعًا على رحلة امتدت أكثر من نصف قرن وما زالت تعطي ثمارًا حتى الآن. كان لسوفاج، ستودارت وفيرنجا الفضل في نقل علم كيمياء المركبات المتداخلة من الخيال إلى النظرية ومن النظرية إلى الواقع، وبهذا استحقوا موقعهم على قائمة ضمت عظماء كفانتهوف وأرهينيوس وغيرهم الكثير.

المراجع
  1. Scientific Background on the Nobel Prize in Chemistry 2016- Molecular Machines.
  2. Jean-Pierre Sauvage, Pierre Gaspard-From Non-Covalent Assemblies to Molecular Machines
  3. Vincenzo Balzani, M Venturi, A Credi-Molecular devices and machines-a journey into the nano world