ماذا لو كان هذا الكائن المخيف اللّطيف حقيقيًّا؟

ماذا لو كان لهذا الكائن الحقيقيّ مزايا خارقة لا تقتصر على شكله الفضائيّ «الملظلظ» وأقدامه الثمانية المخلّبة فحسب؟

ماذا لو قلت لكم إن هذا الكائن:

  • لا يتأثّر بالتجميد حتّى في درجات حرارة تقترب من الصفر المطلق.
  • يتحمّل الجفاف التام لسنوات وعقود.
  • لا يتأثّر بالحرق والحرارة حتى درجات تصل إلى 150ᴼ مئويّة.
  • قادر على النجاة في الفضاء البارد الفارغ والمشحون بالإشعاعات الكونيّة.
  • قدماه الخلفيّتان معكوستان لتتشبّث بما خلفه.
  • فمه أنبوب له مخالب تخترق الضحيّة لتتغذّى على السوائل فيها.
  • وهم في كلّ مكان حولنا إلّا أنّنا لا نراهم.

إنّها التاردِغريد «Tardigrades»، وتعني باللاتينيّة بطيئة المشي، وسبب التسمية هو أنّها بطيئة ومتقلّبة في حركتها كحيوان باندا كسول. التاردِغريد، وتعرف لذاك بدببة الماء، هي حيوانات صغيرة جدًّا لا تتجاوز الملِّميتر وتصعب رؤيتها بالعين المجرّدة. لكنّها حيوانات عديدة الخليّة وبعضها يتكاثر جنسيًّا ويضع البيوض ككثير من الحيوانات. وتُصنّف في شُعبة بيولوجيّة «phylum» وحدها -على غرار الفقاريّات مثلًا- لقِدمها، حيث نجت من فترات الانقراض الكبير الخمسة الّتي سبقت أن قضت على الديناصورات وغيرها من الكائنات الأحفوريّة، وهي في صدارة النّاجين من الانقراض السادس الّذي نعيشه الآن .

التاردِغريد

التاردِغريد أنواعه قد تزيد على الألف. هذه الحيوانات المجهريّة لها دماغ وجهاز عصبيّ وجهاز هضميّ، إلّا أنّها لا تحتوي على جهاز تنفّسيّ أو دورة دمويّة (open hemocoel) لعدم حاجتها لها مع حجم كهذا. تتغذّى هذه الكائنات على سوائل النباتات والأَشُنّات، وبعضها على سوائل الحيوانات، مستخدمين أفواههم المهيّأة للثقب والامتصاص. هذه الكائنات ببساطة هي الأكثر صلابةً ومرونة في آن معًا بين كلّ الكائنات.

المحاولات الّتي قام بها العلماء للقضاء على هؤلاء الأوغاد الصغار تدعو للدهشة، حيث قام فريق يابانيّ بالإبقاء على عيّنات متجمّدة اكتُشفت في آنتاركتِكا في الثمانينيّات لثلاثين سنة أخرى تحت ظروف التجمّد لتعود بعدها للحياة بشكل طبيعيّ. باحثون آخرون وضعوها في درجات حرارة تتجاوز الـ 140 درجة مئويّة ولم ينالوا منها.

وضعوها في ضغط يتجاوز 13 ضعف الضغط الجوّي (أي أكثر بستّة أضعاف من أدنى نقطة في المحيط) فردّت تلك الجراثيم العتيدة أن هل من مزيد؟ وقام بعضهم بمحاولة خنق هذه الكائنات من خلال إشباع محيطهم بغازات مثل أوّل أُكسيد الكربون وثاني أُكسيد الكبريت وغيرها ولا منادي! بل إنّهم قاموا بتعريضها لأشعّة جاما، واحتاجوا لدرجة تأيّن تساوي 570 ألف رونتجين لقتل نصف العدد من التاردِغريد الّتي أُجريت عليها التجربة، في حين أنّ 500 فقط كافية لقتل إنسان! دراسة أخرى نشرت في 2002 قام فيها العلماء بعزل هذه الكائنات في ظروف في غاية الجفاف استطاعت فيها «الدبدوبات المسكينة» هذه السبات لمدة 9 سنوات ثمّ عادت بعدها للحياة.

وضمن مجموعة من الدراسات حول الموضوع ذاته، قام باحثون سويديّون بإرسال عيّنة من التاردِغريد إلى الفضاء في 2007 ليروا إن كانت تستطيع النجاة في الفراغ والإشعاعات الكونية والأشعة فوق البنفسجيّة فضلًا عن درجة الحرارة الّتي تقرب من الصفر المطلق -الّذي تتوقّف عنده الذرّات عن الحركة- ووجدوا أنّ أكثر من نصف الحيوانات في العيّنة لم تمت، وبعضها وضع بيوضًا نمت بشكل طبيعيّ بعد ذلك.


آليّة النجاة عند هذه الكائنات

خلايا التاردِغريد مجهّزة ببروتينات وأنظمة خاصّة تحمي مكوّنات الخليّة من التكسّر وجينوم قادر على التحمّل والصيانة الذاتيّة. تستطيع الخلايا تخزين الأُكسجين والماء بداخلها بدرجات كبيرة حال استشعار تغيّرات في البيئة المُحيطة، بحيث تنتفخ هذه الدببة الصغيرة وتظل على هذه الحالة لعدة أيّام.

ولو تعرّضت لجفاف تامّ طويل الأمد تستطيع الدخول في حالة سُبات تتوقّف فيها الخلايا عن الأيض بشكل شبه كامل، وتتخلّص من معظم الماء بداخلها لتستبدل به سكّريّات ثنائيّة اسمها «تريهالوز» (Trehalose)، ويمكنها البقاء على ذلك لعقود أو لقرن من الزمان، وفي اللّحظة الّتي تزداد فيها الرطوبة من حولها تعود التاردِغريد إلى الحياة من جديد.

مرونة الغشاء الخلويّ وقدرته على التّحوّل من الحالة الهُلاميّة إلى حالة أكثر صلابة بنجاعة عالية يضيف إلى قدرتها على التأقلم. هناك أيضًا بروتينات وأنظمة مخصّصة لحماية الجينوم من الضرر أو العطل. بروتين Dsup -على سبيل المثال- يتجمّع في أنوية الخلايا حول الـ DNA ليحميه من ضرر الإشعاعات ويساعد على التحام الـ DNA مع بعضه بعد تكسّره.

المدهش هو أنّ هذه الدببة المائيّة الصغيرة مستعدّة لتحمّل عشرات السنوات في ظروف قاسية، ولكنّها تعيش في الوضع الطبيعيّ لبضعة أشهر فقط!


سرّ التاردِغريد! كائنات فضائيّة؟

يفترض بعض العلماء أنّ هذه الكائنات قد تكون فضائيّة بالفعل، إلّا أنّ ذلك لا يهمّنا ولا أساس له للآن، ولكن هذا لا ينفي أنّ تركيبة التاردِغريد مميّزة ومثيرة للدهشة. كانت هناك محاولة في أواخر 2015 لدراسة جينوم دببة الماء لكنّها باءت بالفشل لعدم قدرتهم على فصل المادّة الوراثيّة الخاصة بها عن تلك المتسرّبة من كائنات أخرى تعيش معها مثل الطحالب والفطريّات.

إلّا أنّ دراسة يابانيّة في 2016 استطاعت عزل جينوم أحد أنواع التاردِغريد ومسحه بنجاح، ووجدت فيه ما يميّزه عن سلاسل الجينوم في الحيوانات الأخرى، وأنّ فيه جينات موجودة فقط في التاردِغريد أهمّها Dsup الّذي ذكرناه آنفًا. وقد قام الباحثون بنقل جين Dsup لخلايا بشريّة مزروعة في المختبر (المعمل) ووجدوا أنّ هذه الخلايا البشريّة أكثر قدرة على تحمّل الأشعّة السينيّة والحدّ من ضررها بشكل ملحوظ بالمقارنة مع الخلايا غير المعدّلة بفضل هذا الجين.

لا تزال الأبحاث قائمة على دراسة جينات التاردِغريد أكثر والتعرّف عليها ودراسة وظائفها، ويظهر من البيانات الأوّليّة أنّ هناك قطعًا جينوميّة خاصّة بها ويُرجّح أنّها مسئولة بشكل أساسيّ عن حماية الخليّة والـ DNA والحفاظ عليهما. لا شكّ أنّ الأبحاث الجارية والمستقبليّة على هذه الكائنات ستقدّم لنا الكثير من التطبيقات في التكنولوجيا الحيويّة، كما هو الحال في المحاصيل الزراعيّة والحيوانات المعدّلة جينيًّا، من خلال تقديم جينات جديدة لم تكن مكتشفة من قبل إلى الأنواع الأخرى لتحسينها. ويزداد زخم هذه التطبيقات أضعافًا مع الثورة الجديدة في تكنولوجيا التحرير الجينيّ، وخاصّة تكنولوجيا «كرسبر» (CRISPR/Cas9) الواعدة ومثيلاتها.

السؤال هنا: لو كان تمّ استخدام الجيل الجديد في تكنولوجيا التحرير الجينيّ ليس مقتصرًا على الاستفادة من جينوم التاردِغريد فحسب بل لتعديلها أيضًا؟ ماذا لو تمّ تعديل هذه الحيوانات لتنمو بأحجام أكبر تتناسب مع مقاييس العالم المرئيّ؟ ماذا لو أصبحت هذه الحيوانات الخارقة تجول بين ظهرانَينا كالكلاب مثلًا؟ أعلم أنّ صلابة هذه الحيوانات وفسيولوجيّتها تعتمد ميكانيكيًّا على حجمها الصغير، ولكنّني لا أستبعد أن يحاول عالم مهووس ذلك آخذًا بعين الاعتبار أي تعديل لازم.

على أيّة حال، ليس بعيدًا عن هذه الوحوش الصغيرة أن تكون الناجي الوحيد على هذه الأرض أو على كواكب أخرى، فالانقراض السادس الكبير الّذي تسبّب به الإنسان يتوعّد بالقضاء على الجزء الأكبر من الكائنات الحيّة على هذه الأرض بما فيها الإنسان. ومع محاولات الإنسان الحثيثة لغزو الفضاء لن نستبعد فُلكًا كفُلك نوحٍ يحمل على ظهره من كُلِّ كائنٍ حيٍّ زوجين اثنين.

ولِأنّ دببة الماء هي الأفضل حتّى الآن في التأقلم مع اختلاف درجات الحرارة والضغط والأشعّة وظروف الفضاء، فإنّ لها السبق في البقاء ليُصبح تطوّرها وتحوّلها إلى وحوش عملاقة على عاتق الزمن دون أن نرى ذلك بأعيننا الّتي ستأكلها التاردِغريد بعد أن ننقرض.

المراجع
  1. Tardigrades: Nature's Cuddly, Indestructible Microanimal
  2. 5 Reasons Tardigrades Will Outlast Us All
  3. Tardigrade Genome Reveals Multiple Unique Adaptations
  4. World’s hardiest animal has evolved radiation shield for its DNA
  5. These ambling, eight-legged microscopic “bears of the moss” are cute, ubiquitous, all but indestructible and a model organism for education
  6. Extremotolerant tardigrade genome and improved radiotolerance of human cultured cells by tardigrade-unique protein
  7. The Sixth Extinction: An Unnatural History