في كتابه “الدين والتدين”، يفرق عبد الجواد ياسين بين الدين في ذاته والتدين، فيقصر الدين في ذاته أو النواة الأعمق للديانات الإبراهيمية على (الله والأخلاق الكلية) فهذا وحده هو المطلق القادم من خارج الاجتماع. في حين يضع التشريعات والطقوس في ما يسميه بـ”التدين المنصوص”، لأن التشريعات والطقوس هي خيارات اجتماعية للدين يختارها من أجل إدارة المجتمع(1). وانطلاقا من قوانين اجتماعه الصرفة، هذا التفريق من ياسين يعني أنه لا علاقة ضرورية بين الطقوس في الأديان الإبراهيمية وبين النواة العقدية لها، “لا علاقة ضرورية”، بمعنى عدم قدرتنا على اشتقاق هذه الطقوس من خلال تحليل المعتقد الإبراهيمي نفسه -أو العكس بالوصول للمعتقد من خلال تحليل الطقس- فهي محض خيار اجتماعي، و”لا علاقة ضرورية”، بمعنى ارتباط هذه الطقوس فحسب بالمجتمع وعدم تصورها دونه من حيث وظيفتها كمؤسسة اجتماعية تأليفية وضبطية، ومن حيث كونه المصدر الوحيد لها، ونحن نحاجج هنا عن عكس هذا الطرح تماما، حيث نرى أن الطقوس في دين ما هي جزء من بنيته الأعمق، ومرتبطة تماما بالمعتقد فيه، وليست مجرد خيار اجتماعي. فالطقس هو المقدس معيشا، كما يقول كايو، مما يعني ارتباطه التام بالمعتقد. كما أن الطقوس لا تتعلق بالمجتمع حتما بل تتصور دونه، فهي قائمة حتى في حالة التجربة الدينية الفردية؛ فضلا عن أن وظيفتها في المجتمع ليست ضبطية أو تأليفية فحسب، بل لها وظيفة رمزية تتعلق بتحويل المعتقد لمعيش ثم لاستعدادات مدونة على الأجساد العبادية تعكس انتماءها لعالم رمزي له تصور ما خاص للكون.

وفي هذا المقال الذي يتناول كيف كان نظام الإسلام الشعائري تكريسا لمفهوم “المفارقة”، أحد مفاهيم نواة الإسلام العقدية، سنحاول بيان كيف أن الشعائر الإسلامية تكشف ارتباطا ضروريا بالنواة العقدية للإسلام؛ ارتباطا ضروريا بالمعنيين: بمعنى إمكانية اشتقاق الشعائر من تحليل المعتقد الإسلامي، وبمعنى عدم ارتهانها لنشأة المجتمع أو لقواعد اجتماعه.


لوهلة أولى، قد تبدو الوقائع من تاريخ الإسلام وكأنها تؤيد طرح ياسين، فنحن لو تحدثنا عن النظام الشعائري للإسلام، ونقصد به الشعائر الكبرى: الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، وشعائر العبور: الختان وشعائر الجنازة، والأزمنة المقدسة: الأعياد، ورمضان، وزمن الحج؛ فلا نستطيع سوى أن نقر بكون هذا النظام قد تبلور في مراحل متأخرة جدا من تاريخ الإسلام، وأن اكتمال هذا النظام مرتبط بالفعل بميلاد “المجتمع الإسلامي” في المدينة، لا بالإسلام قبل هذا المجتمع. فكما نعلم، فأغلب الشعائر الإسلامية فرضت في المدينة: الحج، الزكاة، الصوم، صلاة الجنازة، كذا استقرار المكان المقدس بالتوجه لمكة كقبلة، ثم فرض الحج إليها، تم هناك، كذلك الأزمنة المقدسة: الأعياد، رمضان، هي مدنية أيضا، فضلا عن أن اتخاذ هذه الأزمنة لشكلها الأخير كأزمنة مفترقة تماما عن مواسم الطبيعة ومنفكة عن الصلة بدورات الخصب والنمو، فلم يتم -كما سنوضح- إلا بعد تبني الإسلام للتقويم القمري بديلا عن التقويم النجمي بنزول آيات التوبة: “إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهر في كتاب الله”، وتحريم النسيء “إنما النسيء زيادة في الكفر”، وهذا لم يتم إلا في غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها النبي محمد! إن كل هذا ربما يؤيد فرضية ياسين عن تأخر الجانب الشعائري في الإسلام وانفكاك الضرورة بينه وبين نواة الإسلام العقدية المركزية بالمعنين الذين ذكرنا.

لكن في الحقيقة، فإن هذه الوقائع من تاريخ الإسلام لا تؤيد رأي ياسين إلا لوهلة أولى فحسب، فنظرة أعمق تطلعنا على عكس هذه الرؤية تماما، أي على ارتباط الشعائر الإسلامية عضويا بالإسلام كدين، وكونها جزءًا من الإسلام حتى قبل مرحلة ميلاد مجتمع إسلامي، كون النظام الشعائري اكتمل مؤخرا فهذا لا خلاف عليه، لكن النظام الشعائري المكتمل مؤخرا هذا لم يكن أصلا سوى تطوير لنواة أولية لهذا النظام، نواة قائمة من أول لحظات الإسلام وقبل انتظامه في مجتمع كمجتمع المدينة، ومرتبطة تماما بنواته العقدية كدين توحيدي إبراهيمي، هذه النواة هي ثلاثة شعائر رئيسة نستطيع أن نطلق عليهم “الشعائر الإسلامية الأولية”، وهي النحر والصلاة والإنفاق.

فحين نستقرئ السور القرآنية الأولى، فإننا نجد “الشعائر الأولية” هذه في أوائل هذه السور، في مرحلة مبكرة جدا من تاريخ الإسلام، ففي سورة الكوثر، وهي من سور الفترة الأولى المكية، ورقمها وفقا لنولدكه (5)، ووفقا لبلاشير (38)، ذكر لشعيرتين هما النحر والصلاة “فصل لربك وانحر”، أما شعيرة “الإنفاق” فنستطيع أن نراها بصورة أوضح في كثير من سور الفترتين الأولى والثانية المكية؛ سواء بالأمر بالإنفاق أو ذم الكنز في مثل سور “الهمزة” “الماعون” “المطففين” “الضحى”. وهذا ينفي تماما كون الشعائر متأخرة في الإسلام، فالذي تأخر هو فحسب اكتمال النظام الشعائري، وهذا التأخر طبيعي، فكما أن النظام العقدي الإسلامي هو نتاج تهيكل المفاهيم الإبراهيمية في مواجهة النظام العقدي الجاهلي كذلك؛ فإن النظام الشعائري الإسلامي هو نتاج تهيكل لشرائع إبراهيمية مرتبطة بنواة عقيدة هذا النظام في مواجهة النظام الشعائري الجاهلي -والذي تعرضنا لبعض مظاهره في المقال السابق-، مما يعني أن هذا النظام لم يكن له أن يولد كاملا مرة واحدة، بل كان مثله مثل النظام العقدي يحتاج لوقت لتتشكل كل تمفصلاته انطلاقا من نواة أصلية نابعة من مفاهيم الإبراهيمية.

وهذه النقطة، أي تطور النظام الشعائري الإسلامي من نواة شعائرية مرتبطة تماما بالإبراهيمية تمكننا من تفسير المقصود بالنحر والصلاة المذكورين في سورة “الكوثر” تفسيرًا أكثر منطقية من التفسير اللاتاريخي الذي افترضه عدد من المفسرين وهو كون النحر والصلاة المذكورين في الكوثر هما صلاة الأضحى ونحره، فلا شك الأضحى نفسه متأخر كثيرا عن نزول سورة الكوثر مما يجعل هذا التفسير ضعيفا، كما تمكننا كذلك من تجنب هذه التفسيرات التي تغرق في التاريخ وفي بحث التأثر والتأثير وتتجاهل العلاقة بين الشعائر الإسلامية والنواة العقدية له؛ كتفسير يوسف الصديق الذي يعتبر النحر والصلاة هنا مرتبطين بطقس يوناني هو “الكاثاريا” –حيث يعتبر لفظة الكوثر نفسها يونانية تعني التطهير-، فما نظنه خلافا للرأيين هو أن هذه الشعائر هي نفسها الصلاة والنحر التي سيتم تنظيمهما لاحقا مع اكتمال النظام الشعائري وستظهر في الصلاة المفروضة وفي نحر الأضحى ونحر الحج، لكنها مفروضة هنا كنواة أولية لهذا النظام فحسب، وهذا التبكير في التعرض القرآني لها هو لارتباط هذه الشعائر كما سنوضح ارتباطا شديدا بمفاهيم التوحيد الإبراهيمي، لذا فتشريع الإسلام لها هو تكريس لمفاهيم هذا التوحيد، ولأننا نقصر اهتمامنا هنا على مفهوم “المفارقة” الإبراهيمي بالذات، فسنحاول بيان كيف أن هذه الشعائر الثلاثة وتهيكلاتها اللاحقة هي أول خطوة لتكريس هذا المفهوم وتفكيك الجسد المطبعن وخلق جسد إسلامي موحدن.


الشعائر الإسلامية الأولية ومفهوم التوحيد

الصلاة التي تعتمد القيام والركوع والسجود هي شعيرة إبراهيمية صرفة لا شعيرة جاهلية، فكما يذكر جواد علي في تاريخ الصلاة فإن العرب غالبا لا يركعون ولا يسجدون(2). يقول جواد بسبب كرههم لشكل هذه الصلاة التي تحوي رفعا للعقيرة في مواجهة السماء، ونحن نوافقه على هذا التفسير مع إضافة أن هذا الكره سببه كون السماء وأجرامها مؤلهين مما يجعل فعل كهذا تجاهها مستشنعا، وفي الأعمق فإن الصلاة الإبراهيمية تتنافى مع الشعائر الجاهلية لكون الأخيرة متأسسة على السحر التشاكلي والتماثل الرمزي مع الطبيعة كما وضحنا في المقال السابق، لذا فإن صلاتهم هي وكما يقول جواد وفقا للقرآن هي “مكاء وتصدية”، وهي غالبا حركات رقص وغناء تدخل في إطار السحر التشاكلي، في حين أن الركوع والسجود جوهر الصلاة الإسلامية هي حركات لا مبالية بالطبيعة، عمودية عليها، متوجهة بفردية ومباشرة لما وراءها، مما يعني نسف منظومة التماثل الرمزي تماما ونسف مشاكلة الجسد العبادي للطبيعة، أما حين تأخذ الصلاة تبلورا أكبر مع اكتمال النظام الشعائري الإسلامي فسيترسخ بُعدها عن الطبيعة وتفكيكها للجسد المطعبن بصورة أكبر عن طريق تحركها في أزمنة تخالف الارتباط بالأجرام السماوية على عكس الطقوس الجاهلية المرتبطة تماما بهذه الأجرام، فستمنع الصلاة وقت غروب الشمس وطلوعها فأنها تطلع وتغرب في قرني شيطان كما في حديث البخاري ومسلم.

كذلك فإن “النحر” يمثل خطوة هامة على طريق تفكيك الجسد الجاهلي المطبعن، هذا لإن النحر الإبراهيمي يمثل في أحد وجوهه إنهاءً للقرابين النباتية، وهي القرابين شديدة الارتباط بمواسم الخصب والنمو، أي بالأجرام السماوية وحركتها، ولعل هذا ما فهمه بالفعل بعض المفسرين لذا فقد أكملوا القصة القرآنية عن ابني آدم بالمحتوى التوراتي المتضح فيه تماما هذا الصراع بين القربانين النباتي والحيواني، فالقربان المقبول من الله في القصة كان هو القربان الحيواني فحسب، مما يعني تأسيس جديد للقرابين يتماشى مع سمة مفارقة الطبيعة ومواسمها كأحد سمات الإله التوحيدي.

ورغم هذا الارتباط بين تشريع القربان الحيواني ومفهوم مفارقة الطبيعة الإبراهيمي فقد استوعب الجاهليون هذا النحر في نظامهم الشعائري النجمي القائم على تأليه الأجرام السماوية، بالطريقة التي تحدثنا عنها سابقا، أي بإدخال ذبح النوق في منظومة التماثل الرمزي والسحر التشاكلي سماء\نوق، مطر\دم، فيتم ذبح النوق في محاولة لاستحثاث نوق السماء على إدرار مطرها، لذا فإن استعادة الإسلام للنحر الإبراهيمي بأبعاده الرمزية الخاصة كان لابد له أن ينطوي على نفي هذه التعديلات النجمية. من هنا نفهم إصرار الإسلام على عدم الاهتمام بدماء الأضاحي “لا ينال الله لحومها ولا دماؤها” وعلى النحر فحسب باسم الله وعلى تغيير أماكن الذبح –تحريم ما ذبح على النصب كأماكن مقدسة جاهلية-(3)، فالنحر كشعيرة من نواة الإسلام الشعائرية الأولية شديدة التبكير ثم تمفصلات هذه الشعيرة المتشكلة لاحقا من خلال مواجهة النظام الشعائري الجاهلي يسير هو أيضا في نفس طريق هدم منظومة التماثل الرمزي المؤسسة لتشاكل الجسد مع الطييعة أي طبعنته، من أجل خلق الجسد الموحدن مكرسا لمفهوم “المفارقة” خصيصة التوحيد الإسلامي الإبراهيمي.

الشعيرة الثالثة في الشعائر الإسلامية الأولية وهي شعيرة الإنفاق هي أيضا شعيرة إبراهيمية، تسير نابعة تماما من مفاهيم حقله التوحيدي وخصوصا “المفارقة”، فكما قلنا في المقال السابق فإن أحد وجهي مفهوم المفارقة هو المفارقة كضد للتوثين، بمعناه الأعمق الذي يعطيه له فروم في “الدين والتحليل والنفسي” “ليست الوثنية محض عبادة بل موقف إنساني، موقف التعلق بالأشياء والمظاهر الجزئية من العالم”، فالوثنية تعلق بالجزئي والجامد والمكتمل والميت. في حين التوحيدية وب”المفارقة” كأحد مفاهيم حقلها هي اتجاه صوب اللامحدود والحي الذي لا ينتهي، الذي يضمن استمرار الزمن للأبد ويعز عن الانحصار في صورة.

ونحن نستطيع التقاط تكريس الإسلام لهذا الاتجاه صوب اللامحدود والحي دائما في مفهوم الإسلام الجديد عن الموت، فكما تلاحظ بذكاء رجاء بن سلامة في كتابها “الموت وطقوسه” فإن الإسلام فيما يتعلق بالموت قد شق لنفسه معاني جديدة منها العودة إلي الله ولقاء الله والوفاة مما يعني التخلص من الموت بمعنى الهلاك والردى والفناء والجمود، فحياة المسلم المتعلقة بالإله التوحيدي هي حياة مضاعفة ومستمرة لا جمود أو انتهاء فيها حتى بالموت نفسه الذي سيموت بذبحه بعد القيامة ككبش، ونحن لا نستطيع فهم ذم الإسلام للكنز وتحريمه للربا والحض على الإنفاق إلا بهذ الرؤية الجديدة للحياة والموت إلا بهذا التقابل الذي صنعه مفهوم “المفارقة” بين الحي واللا محدود من جهة والميت والمكتمل والجامد من جهة أخرى، فالإسلام ذم الكنز وحرم الربا حيث فيهما تعلق بالثابت والمكتمل، وأحل البيع لأنه يعد إنماءً وحضًا على الإنفاق لكسر الرغبة داخل المسلم في التعلق بالمال الراكد “الميت”، بل إن العلاقة بين الإنفاق والاتجاه صوب الحياة تظهر تماما في الاسم الذي وضعه الإسلام للإنفاق “زكاة” المشتق من معاني النماء والزيادة ومن السمو باعتباره يخلص النفس من التعلق بالراكد والميت فتسمو، كذا يظهر في التمثيل الدائم له بالنبات النامي “مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل”.

هذا الارتباط بين مفهوم “المفارقة” وبين ذم الإسلام للكنز وحديثه المستمر عن الإنفاق يوضح لنا محدودية تفسير اهتمام الإسلام بالإنفاق في مراحله الأولى بما يتطلبه وضع المسلمين المادي من أثرة تتجلى في تحرير الرقاب وإعانة المؤمنين لبعضهم على مضايقات القرشيين، فإن كنا لا نننفي أهمية هذا الجانب إلا إننا نرى في الاقتصار عليه قدر هائل من الاختزالية والتغييب للأبعاد الرمزية التي تنطوي عليها حتما كل شعيرة، فالشعائر هي المقدس معيشا كما أسلفنا.

هذه الشعائر الثلاثة ستظل حاضرة في النظام الشعائري الأكبر المكتمل لاحقا كمفاصل رئيسة فيه؛ فالصلاة ستصبح هي الشعيرة الأكثر رئيسية حيث ستشغل لا فقط يوم المسلم بل كذلك كل تفاصيل حياته، “الجنازة، دفع الخوف، طلب الحاجة ، العيد”، وهذا لأنها بخلقها للجسد اللامبالي تجاه الطبيعة غير المتشاكل معها تعد الأقدر على تكريس مفهوم “المفارقة”.

وستبقى الخطوة الأهم لنسف منظومة التماثل الرمزي والسحر التشاكلي المؤسسة للشعائر الجاهلية هي وضع الصلاة بالذات بصفاتها هذه “اللامبالة تجاه الطبيعة وعدم التشاكل” كبديل للطقوس الجاهلية النجمية المرتبطة بمواسم وتمظهرات كوزمية خاصة مثل الخسوف والمطر، فستحل صلاة الاستسقاء محل طقوس الاستمطار الجاهلية، وستحل صلاة الخسوف محل طقوس وعقائد الجاهليين تجاهها، سيكون هذا بمثابة الإعلان الأبرز عن تبعية الطبيعة لله، إعلان يتخطى اللسان والبرهان للجسد نفسه الذي يحقق بصلاته وقيامه وسجوده وركوعه تكريس مفهوم “المفارقة”.

أما الإنفاق فسيتم تنظيمه لاحقا وتظهر الزكاة كشعيرة منضبطة تؤدى للنبي كمركز سلطة هذه الأمة، وإن كان الإنفاق الحر سيستمر كذلك، كما ستظهر “المفارقة” كتجاوز للمحدود واتجاه صوب اللا محدود في شعيرة أكبر هي الحج كما سنوضح بعد قليل، أما النحر فسيصبح جزءا أساسيا في شعائر الحج وذبح الأضحية والإنفاق في عمومه. كما سيفرض الإسلام زمانه المقدس الخاص به، والمنفك تماما عن الطبيعة، والمرتبط فحسب بأحداث فوق طبيعية” نزول القرآن ومرتبط به رمضان وعيد الفطر” “تأسيس بيت الله وحدث العهد الإبراهيمي بالطاعة ومرتبط به الحج والأضحى”.

لكن ورغم أن هذه الشعائر وتنظيمها اللاحق كذا الأزمنة المقدسة المنفكة عن أي مواسم طبيعية تقوم بدور هام في تفكيك الجسد الجاهلي المطبعن، وخلق الجسد الموحدن، إلا أن ثمة خطوة هي الأهم على الإطلاق في ظننا في سبيل قطع كل صلة بين النظام الشعائري الإسلامي والطبيعة، ألا وهي خطوة تبني التقويم القمري، فهذا التقويم بانتظامه وبإلغاء النسيء يعني دوران الشهور بما تحويه من أزمنة مقدسة مع كل فصول السنة، فلا ترتبط هذه الأزمنة بأي موسم طبيعي معين، ولا يمكن تقريبها من أي من الأحداث الكوزمية(4)، فيترسخ انفكاكها تماما عن الطبيعة، مما يعني أن إقرار التقويم القمري مثّل أعلى تكريس لمفهوم المفارقة.

ولعل هذا يوضح محدودية تفسير يوسف شلحت إقرار الإسلام التقويم القمري بدلا من النجمي باستمرار بقايا بدوية داخل النظام الشعائري الإسلامي، فالتركيز على العامل الاجتماعي في هذا التفسير والرغبة في وجود صلات بين مؤسسات إسلامية وجاهلية، يضيع تماما أي أبعاد رمزية لحدث قبول التقويم القمري، حيث يتجاهل تماما علاقة هذا التقويم بالأزمنة المقدسة، -وهي علاقة وطيدة كما قلنا فهذا القبول يؤكد انفكاكها عن الطبيعة- والأزمنة المقدسة لدين ما هي جزء أصيل في نظامه الشعائري ولا يمكن فهمها إلا انطلاقا من النواة العقدية المركزية لهذا الدين، فهي أكثر ارتباطا بمقدس الدين منها بسمات المجتمع.


الحج، آخر فرائض النظام الشعائري، كتحيين للهجرة

إن “المفارقة” بالمعنى الذي يواجه التوثين والخلود للمكتمل التي تحدثنا عنها سابقا كانت هي أيضا وراء هذه المركزية التي أخذها مفهوم “الهجرة” في التوحيدية الإبراهيمية، فالهجرة في أعمق معانيها هي الرغبة في قطع الصلات بأي مكتمل ومنتهٍ وإكساب كل الروابط “بالأرض” “بالأسر” عرضية في مقابل علاقة مطلقة بالله، والهجرة مرتبطة تماما باسم إبراهيم، الذي يعد كشخصية مفهومية تمثل هذا المفهوم في أعلى صوره، فإبراهيم قد ترك زوجته وابنه وهاجر لأمر من الله، فكأنه لسماع نداء الله المفارق “الحي والأبدي” لابد من قطع الصلات بأي جزئي وأي عرضي سواء كان الشمس والقمر “قال لا أحب الآفلين” أو الذرية “إني تركت ذريتي بواد غير ذي ذرع”.

وفي الحقيقة إننا نستطيع اعتبار المعنى الأعمق للحج هو هذا المعنى نفسه، أي التخلي والترك والاستجابة لنداء الله المفارق، فيكون الحج استعادة سنوية وتحيينا لهذه الهجرة الكامنة في أصل التوحيدية الإبراهيمية، وهذا التشابه بين الحج والهجرة يتضح في أكثر من أمر، أولا فالحج ومن لحظة الإحرام هو تخلٍ كامل عن الحياة البشرية المعتادة؛ التخلي عن الجماع والصيد والجدال وعودة لحالة تشبه ما قبل الولادة أو بعدها، فضلا عن كونه قديما كان رحلة فعلية ربما توفي الإنسان في منتصفها، ثانيا فإن الحج قد قرن بالجهاد والشهادة وهي أعظم أنواع التخلي والترك في الإسلام في أكثر من موضع، منها مثلا ما روته عائشة عن كون الحج هو جهاد المرأة(5)، هذا يعني أن ثمة معنى للرحلة في الحج ربما غاب عنا في زحام المناسك وفي التحول الذي أصاب الرحلة مع تغير أساليب السفر، ومن الطريف أنه ورغم التخفيف الفقهي المستند للقرآن والذي يقصر الحج على المقتدر، إلا أن المسلمين طالما اعتبروا الحج تتويجا لحياة المسلم، وفعلا واجبا؛ لذا فهم لا يسألون عن مقدرتهم، بالعكس فهم يجمعون من أجله الأموال اللازمة طوال حياتهم لختمها به كتتويج مناسب، فكأن الإسلام في أذهانهم هو الحج ذاته، ونحن لو فكرنا قليلا في هذا الارتباط الشديد بين الهجرة والتخلي وبين التوحيد وهو الارتباط الذي جعل تيليش يعتبر أنه “لا توحيد بلا هجرة”، فإننا نستطيع أيضا القول إنه لا توحيد بلا حج! بما هو رحلة وتخلٍ وهو بالضبط ما فهمه المسلمون على طول هذه الأحقاب.

لذا فإننا نتحفظ كثيرا تجاه هذه الآراء التي تجعل الحج مؤسسة جاهلية هذبها الإسلام من أجل التداخل مع المجتمع الجاهلي، فرغم أن الحج الإسلامي بالفعل لم يشرع مناسك جديدة ربما، وإنما أبقى على كثير من مؤسسات الحج الجاهلي؛ إلا أن المعنى الأعمق للحج هو معنى توحيدي صرف إبراهيمي تماما. مما يعني أن تشريع الحج لا علاقة له بأي أبعاد اجتماعية، لذا فإننا نجد الأديان التوحيدية الأخرى مثل المسيحية والتي لم تنشأ ولم تأخذ كامل تهيكلها في بيئات يمثل عندها الحج موردًا اقتصاديا واجتماعيا هامًا كما الحال في الإسلام، تشرع هي أيضا حجا للأرض المقدسة، فهذه الرحلة هي رحلة توحيدية بالأساس لا علاقة لها بالمجتمع الذي تتشكل داخله التوحيدية. إن أثر المجتمع هنا يقتصر فحسب على تفاصيل هذا الحج، أي على تهيكل الطقس لا على عمقه. فلتكريس هذا المعنى الأعمق قام الإسلام بتغيير في تفاصيل الحج الجاهلي لنسف الأساس الشعائري الذي كان يستند عليه، فهذا الحج الذي هو أصلا، وكما يقول جعيط، عملية تجميع لمؤسسات منفصلة غالبا، كان مرتبطا ارتباطا شديدا بالديانة النجمية؛ فطقوس مثل الإفاضة ومثل السعي بين الصفا والمروة كلها طقوس نجمية، كذا ذبح الأضاحي فيه. لكن الإسلام قام بتغيير كل هذا فأخر الإفاضة عن وقت غروب الشمس واعتبر الصفا والمروة “من شعائر الله” مما يعني قطع علاقتهم بآلهة الخصب، إلى جانب ما قلناه عن تغييره لهيئة النحر لتخليصه من كل سمات السحر التشاكلي، كل هذا كي يعطي لكل تفاصيل الحج معنى توحيديا صرفا يتجاوب مع معناه الأعمق كتخلٍ و”هجرة”.

لعل هذا التناول السريع لنشأة النظام الشعائري الإسلامي قد وضح لنا كيف أن هذا النظام مرتبط تماما بالنواة العقدية للإسلام كدين توحيدي إبراهيمي، وأنه لا يمكن فهم أدق تفاصيله إلا انطلاقا من علاقتها بمفاهيم هذه النواة العقدية، فهذا النظام الشعائري هو محاولة لتكريس مفاهيم هذا النظام، من أحد الوجوه وهو ما اقتصرنا هنا عليه كان هذا النظام الشعائري “شعائر كبرى، أزمنة مقدسة، أمكنة مقدسة، شعائر عبور” في كل تجلياته – اقتصرنا لضيق المجال على الزمان المقدس والشعائر الكبرى فحسب- تكريسا لمفهوم “المفارقة” عبر تفكيك للجسد العبادي الجاهلي المطبعن، بل عبر نزع الطبعنة عن الطبيعة نفسها، فقد أصبحت هي نفسها جسدا عباديا موحدنا كبيرا تسبح وتسجد وتركع لتماثل “خليفة الله” هذا المهاجر دوما لسماع نداء الله “المفارق”.


(1) في إطار هذه الرؤية يعتبر ياسين أن الله والأخلاق الكلية ولأنها تمثل الدين في ذاته، فإنها وحدها تتفق في الأديان السماوية الثلاثة، في حين تفترق التشريعات والطقوس لإنها خيارات اجتماعية، ونحن نستغرب هذا الرأي جدا، فمثلا الموقف التوحيدي من الصور هو مشترك تماما بين الثلاثة أديان في حين أنه لا ينتمي للأخلاق الكلية! وهذا ببساطة لأن هذا الموقف مرتبط بنواة الإبراهيمية العقدي لا بالاجتماع، ويعني هذا أن علاقة التشريعات والطقوس بنواة الدين العقدية هي علاقة ضرورية بالمعنيين اللذين ذكرنا بالأعلى، مما يؤكد عدم دقة تقسيم ياسين.

(2) جواد علي، تاريخ الصلاة في الإسلام، ص 14، جوهرية الركوع والسجود في الصلاة الإسلامية باعتبارها الفارق الرئيس عن صلاة الجاهليين تظهر في الاكتفاء أحيانا في القرآن بذكر القيام والركوع بمعنى الصلاة.

(3) االنصب هي حجارة أو صخور طبيعية تستخدم لتحديد حدود الحمي الذي يوجد بينها أي الأنصاب وبين الأصنام المقامة في مركز الحمى، انظر محمد الحاج سالم “من الميسر الجاهلي إلي الزكاة الإسلامية” من ص165 إلي ص181.

(4) وهذا ما حدث في أدين توحيدية أخرى مثل المسيحية، والتي تم تقريب أعيادها وهي أعياد توحيدية صرفة متعلقة ب”الكلمة” من أعياد أخرى كوزمية، فثلا قرب ميلاد المسيح من الانقلاب الشمسي ودخول الشمس لمدار الجدي وهي احتفال كوزمي صرف.

(5) الموت وطقوسه من خلال صحيحي البخاري ومسلم. رجاء بن سلامة، ص93.