يوجد في دماغك 100 مليار خليةٍ عصبية، وكل خليةٍ ترتبط بعشرة آلاف خليةٍ عصبيةٍ أخرى. أنت تحمل على كتفيك أعقد جهازٍ في الكون المعروف.

ميتشو كاكو

لطالما درسنا الدماغ كمناطق عصبية مختلفة، تتولى كلّ منها مهمةً معيّنة وتُعنى بها بشكلٍ خاص، مناطق حسيّة وأخرى حركيّة، مناطق مسؤولةٍ عن الفهم وأخرى مسؤولة عن التعبير، الكثير والكثير من العصبونات المترابطة مع بعضها بآلاف بل مليارات المشابك العصبية. لكن مع ذلك، ما يزال هذا العضو من أغرب الأسرار وأعقد الأجهزة الموجودة في كوننا الواسع، أو هكذا نعتقد.

قد يبدو السؤال التالي فلسفيًّا في الطبيعة، لكن فلنخض فيه قليلًا: من أنت؟، هل أنت مجموع ما تنتجه جيناتك وتعبّر عنه؟. سيبستيان سيونغ يعتقد أننا أكثر من ذلك بكثير، وأنّ «الجينوم» ليس سوى مجموعة قيود مُسبقة التصميم، تؤثر علينا لكنها ليست بالتأكيد من نكون أو من سنصبح.

الدماغ مقسمًا إلى فصوصه الأولية.

بعد تطوّر تقنيات التصوير الطبيّة وخاصةً في مجال أجهزة التصوير بالرنين المغناطيسي، وبعد الإلهام الكبير من مشروع الجينوم البشري، ظهر لدينا مفهوم جديد، الكونكتوم، عن ماذا نتحدث بالتحديد؟، هذا المفهوم قديم نسبيًّا، فقد تم وضعه لأول مرةٍ في عام 2005 من قبل عالمين مختلفين، وبالصدفة؛ بشكلٍ منفصل.

قام كلّ مند.أولاف سبورنز Olaf Sporns من جامعة إنديانا، ود.باتريك هاغمان Patric Hagmann من مشفى لوزان الجامعي، بإشهار مفهوم «كونتكوم» وذلك تأثرًا بمفهوم «الجينوم» ومشروع الجينوم البشري (المشروع الذي يهدف لمعرفة وتسجيل التتابع الكامل للجينات البشرية لبناء الجينوم).


لكن ما هو الكونكتوم؟

الكونكتوم هو عبارة عن مجموع العصبونات الموجودة في الدماغ والاتصالات المختلفة والمشابك العصبية الموجودة بين كلّ تلك العصبونات. قد يبدو ذلك بسيطًا للوهلة الأولى، لكنه فعلًا ليس كذلك، حيث نتج عنه علم جديد، علم دراسة الكونكتوم Connectomics، وعرّفه كلّ من هاغمان وسبورنز في دراستيهما، ففي ورقته البحثية المنشورة في 2005 بعنوان « الكونكتوم البشري، وصف هيكلي للدماغ البشري – The Human Connectome, a structural description of the human brain» يكتب سبورنز:

لفهم خصائص شبكة ما، على المرء أن يعرف مكوناتها والاتصالات البينية بين هذه المكونات نفسها. الهدف من مقالي هذا، هو مناقشة إستراتيجيات أبحاثٍ تهدف للوصول إلى فهمٍ أفضل لتوصيفٍ هيكلي لشبكات العناصر والاتصالات التي تكوّن الدماغ البشري.

إذن حسب سبورنز، الكونكتوم هو العصبونات والاتصالات بينها، ببساطة.

ويطرح هاغمان فهمه للكونكتوم في دراسته لنيل شهادة الدكتوراه «من الرنين المغناطيسي بتقنية الانتشار إلى علم دراسة الكونكتوم –From Diffusion MRI to brain connectomics»، فيكتب:

«من الواضح، كما في حالة الجينوم والذي هو أكثر بكثير من تتابع متتالٍ للجينات، أنّ الاتصالات العصبية في الدماغ هي أكثر بكثير من مجموع أفرادها (العصبونات)، وكما نفهم الجينوم باعتباره كيانًا متكاملًا، ونتيجة تفاعل بين الجينات المختلفة لإنتاج الحياة، يمكننا فهم الكونكتوم بأنه كيان متكامل ناتج عن الاتصالات العصبية وبالتالي نؤكد على أهمية الحقيقة المعروفة، الدماغ يمتلك شبكةً عصبيةً هائلة ذات قدراتٍ حسابية كبيرة، تعتمد على هيكل وشكل هذه الاتصالات».

إذن، بدأ شيءٌ جديد بالظهور، أهميّة للمادة البيضاء، التي لم نكن نعيرها اهتمامًا كافيًا من قبل. لكن سريعًا، ما هي المادة البيضاء؟، وممّ يتألف العصبون أصلًا؟.


ما هو العصبون؟

العصبون – شكل ترسيمي

العصبونات أو الخلايا العصبية، ككل الخلايا العادية، تمتلك جسمًا ونواةً وعضيات داخل خلويّة، لكنها تمتلك شيئًا مميزًا عن بقية خلايا الجسم، المحاور (أو المحور) Axons، هذه المحاور هي عبارةٌ عن استطالاتٍ هيوليّة تخرج من جسم الخليّة، وهي التي تنتقل عبرها الإشارات العصبيّة من خليّة إلى أخرى، بعبارةٍ أخرى هي التي تشكّل ما يُعرف بالمشابك العصبيّة.

ما يميّز العصبونات حقًا هو تلك الاستطالات الهيولية التي تُسمى المحوار، وهي التي تشكل القسم الأكبر من المادة البيضاء.

تتألف الطبقة الخارجية من دماغنا مما يُسمى المادة الرمادية، وهي المسؤولة عن الإدراك والوظائف المختلفة، وهناك تتواجد أجسام الخلايا العصبيّة. أما في العمق فهناك تقع المادة البيضاء، التي تُشكل طريق البريد الخاص بين العصبونات المختلفة، فهي مشكلةٌ بشكلٍ أساسيّ من محاور الخلايا العصبيّة. حتى زمنٍ قريب، لم يعتقد العلماء أنّ هذه المادة تؤدي وظيفةً مُهمة، بل فقط كانت عبارةً عن أسلاك التوصيل الخاصة بالدماغ، ثم في عام 2005 وبسبب دراسة كلّ من سبورنز وهاغمان، استطعنا أن نعرف أنّ هذه المادة ليست مجرّد أسلاكٍ مبعثرة، بل كانت مرتبةً بشكل مخططٍ ثلاثي الأبعاد، كشارعٍ ذي اتجاهين ومصاعد نحو الأعلى والأسفل.

إذن، لفهم هكذا كيانٍ بهكذا تعقيد، لا بدّ من رسم خريطةٍ مفصّلة له. السؤال هو: هل هذا ممكن التحقيق؟.

في سبيل الوصول إلى هذا الحلم، قامت معاهد الصحة القوميّة الأمريكية (NIH) بتمويل مشروعٍ مشابهٍ لمشروع الجينوم البشري،مشروع الكونكتوم البشري.


كيف ندرس الكونكتوم؟

يمكننا تصنيف الشبكات الدماغية إلى ثلاث درجات حسب تعقيدها وحسب تقنيات تصوير الدماغ المتوافرة لدينا، وهذه النطاقات هي نطاق ماكروي، متوسط، وأخير ميكروي. يمكننا في النهاية أن نجمع خرائط الكونكتوم الناتجة من كلّ درجة للوصول إلى خريطة شديدة التعقيد وعالية الدقة للكيان العصبي لأي كائن، وتتراوح تلك الدراسة من كيانات ذات جهاز عصبيّ بسيط إلى جهاز عصبيّ عالي التعقيد كالقشرة الدماغية والمناطق الدماغية التي تحويها.

عندما نتكلم في أصغر نطاق، الميكروي، نتكلم عن مجال قياسٍ لا يتعدّى الميكرومتر، أي أننا نرسم الخريطة عصبونًا تلو الآخر، وهذا هو الهدف الذي يحاول دارسو العلوم العصبيّة الوصول إليه حقًا. ولكنّ العائق الأكبر هو العدد الهائل من العصبونات، فالقشرة الدماغية تحوي أكثر من 86 مليار عصبون، ترتبط تلك العصبونات مع بعضها بمئات التريلونات من المشابك، أرقام هائلة، تحتاج لقوة معالجة حاسوبيةٍ مخيفة.

في المستوى المتوسط، سنحصل على كونكتوم في دقّة مئات الميكرومتر، هنا تنتقل الخريطة من رسم العصبونات المفردة إلى تخطيط الشكل والوظيفة للعصبونات المتشاركة لتشكيل شبكةٍ محليّةٍ، والتي قد يصل عدد عصبوناتها إلى مئات أو حتى آلاف.

أما في المجال الماكروي، فإنّ الكونكتوم هو عبارة عن أنظمة الدماغ الكبيرة، والتي يمكن ترجمتها تشريحيًا إلى المناطق القشرية المختلفة والاتصالات المختلفة فيما بينها.

خريطة الكونكتوم على المستوى الخلوي

لا نمتلك حتى اليوم تقنيات التصوير الملائمة لملاحظة النشاط الدماغي على المستوى الخلوي، عصبونًا فعصبون، وجلّ ما باستطاعتنا الحصول عليه حاليًا هو تحليل مناطق معيّنة من النسيج الدماغي في الفقاريات، وذلك طبعًا بالتشريح المجهريّ بعد الوفاة.

تقدم لنا التقدمات الأخيرة في تخطيط الاتصالات العصبيّة في المستوى الخلوي الأملَ لتخطيّ صعوبات وإمكانيات التقنيات التقليدية. فباستخدام تقنيّة Brainbow وهي طريقة تقوم بعرض العصبونات بألوان مختلفةٍ معتمدةً بذلك على إنتاجها من البروتينات المضيئة (fluorescent)، فقد تم الوصول إلى أكثر من 100 لون مختلف للعصبونات الفردية، وتشكيل خريطة لاستطالات ومشابك العصبونات المختلفة مع بعضها البعض.

تقنية Brainbow

كيف نرسم هذه الخريطة إذن؟

تقنية Brainbow

إحدى الطرق التي نستخدمها هي تقطيع الدماغ إلى شرائح رقيقة وتصوير كلّ شريحة، ثم تحديد كلّ عصبون وملاحقة أثره والطريق الذي تتبعه استطالاته ومحاوره عبر الدماغ، لهذا نحتاج صورًا عالية الدقة وطرقًا أوتوماتيكيّة لتحليل هذه الطرق والاتصالات. للوصول إلى كونكتوم بشريّ كامل، قد نحتاج العديد من السنوات وربما العقود بواسطة التكنولوجيا الموجودة في أيدينا، لكن لا ضير من البدء طبعًا.

تتبع العصبونات في بيئة ثلاثية الأبعاد

حتى وإن لم نشكّل كونكتومًا كاملًا، فإننا بتخطيط أجزاءٍ من الدماغ فقط سنحصل على معلوماتٍ غزيرة ومعرفة كبيرة تساعدنا في التقدم في العلوم العصبية إلى الأمام. ورغم الصعوبات التقنيّة والحيوية التي نواجهها أثناء دراسة هكذا كيان، إلا أن العلم يعدنا ويبشرنا بالمزيد، وما زال هذا المجال بشكلٍ محدد، جديدًا نسبيًا، وتختلف غرابة الأفكار المطروحة من خلاله، من قراءة الأفكار إلى حفظ الكونكتوم بعد الموت، والعودة به إلى الحياة مرةً أخرى، نناقش ذلك مع رؤية أخرى للدماغ والكونكتوم، رؤيةٍ من طرف سبستيان سيونغ، في المقال القادم.

Footer
المراجع
  1. Connectome
  2. Human Connectome Project
  3. Sci Show- The Connectome