على الرغم من معرفتي القديمة بالعلواني، ظلت علاقتي به تمر عبر اثنين من أقرب الناس إليه: الأول كان زوجته د. منى أبو الفضل، أستاذ العلوم السياسية، التي ظلت تأسرني بأسلوبها اللغوي الرفيع لأقف إجلالا أمام أعمالها عن الأمة القطب والنسوية الإسلامية والأنساق الحضارية المقارنة، التي لم تكن تتمتع دون أسلوب منى الرصين، بنفس ذلك البريق. أما الثاني فكان صديقه محمد أبو القاسم حاج حمد، المفكر السوداني الذي لولا العلواني بعد الله، لغيّبت إبداعه غيوم النقد المتعصب لأطروحاته. غير أنني اليوم أجد نفسي متحمسا للوقوف بين يدي أفكار العلواني إجلالا وإكبارا إيمانا بأن لدى العلواني ما يستحق أن يُسمع.


الطابع الحركي لشخصية العلواني

ولد طه جابر العلواني في الفلوجة بالعراق في 4 مارس 1935، وتتلمذ على الشيخ أمجد الزهاوي وقيل أنه كان واحدا من شباب الرعيل الأول للإخوان المسلمين في العراق، وأنه شارك في تأسيس الحزب الإسلامي، وهو الجناح السياسي للجماعة؛ ذلك قبل أن يخرج من العراق عام 1969 هاربا من حكم بالإعدام وراءه في العراق على إثر وثوب أحمد حسن البكر إلى سدة الحكم في انقلاب 1968. قضى العلواني العقد السبعيناتي متنقلا بين مصر التي حصل فيها على شهادة الدكتوراه في أصول الفقه من الأزهر عام 1973، والسعودية التي عمل فيها أستاذا لأصول الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود.

وعلى الرغم من ابتعاده عن الإخوان المسلمين في تلك الفترة، أو إبعاده بحسب البعض، لم يتخل العلواني عن طابعه الحركي. فقد قيل أن التجافي الذي حصل بين العلواني وبين مشروع الإخوان في هذا الوقت، ارتبط بزياراته المتكررة إلى إيران في السبعينات (من اللافت أن العلواني كان يعرف الفارسية). ولعله كان لتلك الزيارات المتكررة التي لا شك أنها تضمنت احتكاكا كبيرا بتجربة النخبة الإيرانية في ذلك الوقت التي امتازت بثرائها الثقافي ودورها التوعوي النشط، كتجربة «حسينية الإرشاد»، أثر كبير في أن يصب العلواني اهتمامه على العمل الثقافي والتعليمي بناء على أن قيراطا من العمل الثقافي والتعليمي والدعوي ربما يكون خيرا من فدان من عمل سياسي يفتقد إلى الحكمة والاحترافية.

لاحقا رحل العلواني إلى الولايات المتحدة، مصطحبا همومه الحركية، حيث شارك مع الشهيد إسماعيل الفاروقي عام 1981 في تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي، والذي عرضه العلواني كما صرّح على بعض المؤسسات الباكستانية لتقوم بدعمه إبان حكم محمد ضياء الحق؛ ليخلف الفاروقي عام 1988 في رئاسة المعهد وذلك حتى عام 1996. وحتى بعد أن أعياه المرض عن الحركة الدءوب، وفقد رفيق دربه د. منى أبو الفضل، التي كان يتمثل في وصفها ببيت الشعر الشهير: «ولو كل النساء كمن فقدنا .. لفضلت النساء على الرجال»، ليبقى وحيدا في القاهرة، لم يترجل الفارس، بل حوّل مقر سكنه إلى بقعة تنوير في قلب القاهرة، بل إن العلواني الذي كان قد جاوز ربيعه الخامس والسبعين، استطاع أن يتعاون مع الحركات الثقافية الشبابية التي أنجبها الربيع العربي في مصر كـ «معرفة» و«شيخ العمود»، وكان «عمود العلواني» واحدا من آخر آثاره الطيبة التي لا تنتهي.


مشروع العلواني: المقاصد العليا الحاكمة

التقيت العلواني وجها لوجه مرة واحدة في بيته بالزمالك. في هذا اللقاء حكى العلواني عن أحد المؤتمرات التي حضرها عن فقه الأقليات (كان للعلواني باع كبير في هذا المجال خاصة بحكم إقامته الطويلة في الولايات المتحدة، وبحكم الواقع المذهبي الخاص بالعراق). كان العلواني خائفا من ردة فعل الحضور متنوّعي المذاهب على كلمته التي كان ينوي أن يحدد فيها المقاصد الحاكمة كقيم مركزية لخطاب إسلامي جامع، وكان يبحث عن مساندين يمكن أن يتلقوا معه الصدمة. لكن النتيجة جاءت على خلاف ما تخيّل العلواني، حيث اجتمع الحضور في الحقيقة على كلمة العلواني.

كان مشروع العلواني المقاصدي مشروعا يعبّر بحيوية فائقة عن الحاجة الملحّة للأمة الإسلامية في سياق مأزق حضاري تعانيه تجاه الخارج وحتى في بنيتها الداخلية. فإيمان العلواني بمركزية القرآن التي أسس عليها مشروعه، وإعادة قراءة القرآن كوحدة بنائية واحدة أو كنسق لغوي مفاهيمي يفسر بعضه بعضا، مكّن العلواني من التخلُّص من الكثير من الأوزار التاريخية التي تعيق كل خطاب إسلامي حديث. أما التوقف عن المقاصد العليا للقرآن: التوحيد، والتزكية، والعمران، والأمة، والدعوة، فهو جدير بالوصول إلى ميثاق نظري وعملي للأمة سواء في علاقاتها الداخلية أو في مواجهتها الحضارية، خاصة مع الحضارة الغربية اليوم.

امتاز إيمان العلواني بوحدة الأمة بحميمية أنجبتها تجربته الحياتية، في الوطن بالعراق حيث كان العلواني مؤمنا بوحدة العراق ووحدة حركته الوطنية والإسلامية بشقيها الشيعي والسني، حيث جمعته علاقة قوية بالحركة الشيعية الشبابية ورموزها كـ طالب الرفاعي الذي قدمه العلواني لإلقاء كلمة في إحدى مؤتمرات الإخوان المسلمين في العراق، في وقت كان لدى العراق مرجعية شيعية بحكمة وإخلاص محسن الحكيم؛ ومن جهة أخرى في المهجر حيث الأقليات الإسلامية التي تبحث عن تماسكها الهوياتي ومعناها الوجودي تحت ضغوط مجتمع محيط وحضارة قوية.

لقد تمتع العلواني بطاقة نقدية هائلة، مكّنته على الدوام من تطوير نفسه ومشروعه، ومن خوض مراجعات جريئة سواء مع الفكر الإسلامي الحديث أو مع التراث الإسلامي الأصولي والفقهي، مراجعات من داخل النسق التراثي ذاته بما يضمن إمكانية تبيئتها في الأوساط الإسلامية وإمكانية العمل على تطويرها.


رحيل العلواني ونهاية الرحلة

في 4 مارس ولد العلواني، وفي 4 مارس بعد مرور واحد وثمانين عاما، رحل. لكن ليست هذه هي المفارقة التقويمية الوحيدة في رحيله. فأن يرحل العلواني اليوم، وهو أحد رموز الفكر الإسلامي الحديث ورائد إحدى تياراته الرئيسية التي استعادت ازدهارها بعد فشل مشروع الإسلام السياسي، في هذا الوقت الذي تعيش فيه السردية الإسلامية الكلاسيكية مأزقا نظريا وعمليا تاريخيا، هو مفارقة تستحق التوقف لديها. فبينما تزدهر اليوم أطروحات العودة إلى الدعوة، أو نقد الإسلام السياسي، ينبغي أن يكون لدى الجميع وعي تاريخي بالتحول البنيوي الذي يشهده الواقع العربي والإسلامي، والذي يسدل الستار على حقب فكرية بأكملها ويمهّد لخطاب مختلف جذريا يبتعد عن الثنائيات والإشكاليات والأجوبة الكلاسيكية لمشاريع الماضي.

يقول جوزيف بوبر أنه عندما يموت إنسان، يكون عالَم بأسره قد انحطم، ولعل ذلك لا يصدق في حال بقدر ما يصدق في حق رجل يؤرّخ رحيله لتحقيب فكري جديد.