فيلم «The Elephant Man»: الحالة العجيبة للإنسان
منذ أيام انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي أخبار حادثة جرت في منطقة الدقي بوسط القاهرة، رجل مشرد سرق زجاجة مياه غازية من ثلاجة أحد المحلات في قيظ القاهرة القاتل، فقبض عليه صاحب المحل والعاملون فيه، وضربوه حتى فارق الحياة بين أيديهم، كان مبررهم للفعلة أنهم لم يقصدوا قتله، وإنما كانوا حسب قولهم «بيأدبوه» على فعلته النكراء.
منذ ما يقرب من الأربعين عامًا صدر فيلم «الرجل الفيل The Elephant Man»، الذي يحكي قصة حياة جون ميريك الذي يعاني من تشوهات خِلقية جعلته أقرب للمسخ، يستعرض الفيلم حياته التي قضاها في مآسٍ متصلة، والتي انتهت بموته، جون ميريك شخص حقيقي وليس وليد خيال مؤلف الفيلم، الفيلم بطولة جون هارت وأنتوني هوبكنز، ومن إخراج ديفيد لينش، رُشح الفيلم لثماني جوائز أوسكار، وحصل على جائزة البافتا لأفضل فيلم.
جوزيف ميريك
جوزيف ميريك أو «الرجل الفيل»، شخص حقيقي عاش في القرن الثامن عشر في إنجلترا، كان يعاني من مرض يدعى «متلازمة بروتيوس»، والتي جعلت ملامحه مشوهة، وأصابته بتضخم في جمجمته ونتوءات في عظام جسمه، عاش جون ميريك حياة مأساوية بعد فقده لأمه في عمر الحادية عشرة، وكان الناس يعاملونه على أنه مسخ، حتى عثر عليه أحد العاملين بمجال السيرك، فأخذه ليستعرضه للجماهير على أنه وحش ممسوخ.
قابله طبيب يدعى «فريدي تريفيس» وقرر أن ينقذه من حياته المأساوية تلك، فعمل على إيوائه في أحد المستشفيات بلندن لتوفير حياة كريمة له، ليبدأ فصل جديد أقل قسوة من حياته التي عاشها يعامل فيها على أنه مسخ، ثم انتهت تلك الحياة بوفاته في عمر الثمانية والعشرين عامًا.
جون ميريك في فيلم ديفيد لينش لا يختلف عن جون ميريك الحقيقي، ولم يحتج صناع الفيلم لإضفاء خطوط درامية غير واقعية على حياته، فحياته مأساة تراجيدية كافية جدًّا لصنع فيلم يحطم الأعصاب، فقط استطاع لينش أن يقربنا من جون ميريك الإنسان بعيدًا عن حالته المرضية، وفي اقترابه هذا يضعنا جميعًا كإنس تحت المجهر الذاتي، يجعلك ترى نفسك الحقيقية على شاشة قاتمة لا تحمل أي ألوان، أبيض وأسود فقط، ويمحو كل المساحات الرمادية التي تعيش فيها الإنسانية.
في الفيلم نرى صاحب السيرك، والطبيب وزوجته، والممثلة الحسناء المشهورة، وموظفي المستشفى الذي أقام فيه جون ميريك، لا بد سوف تجد نفسك في أحد شخصيات الفيلم، فأي الشخصيات أنت؟
مشاعر متناقضة
في الحادثة التي تحدثنا عنها في البداية، تجد نفسك متعاطفًا تمامًا مع الضحية، الرجل المشرد العطشان الذي يريد أن يتبرد من حر الشارع الجهنمي، تقرأ التعليقات على الخبر فتجد آخرين يتعاطفون أيضًا معه مثلك، ولكنهم يتحدثون عن أن القتلة لم يقصدوا قتل الرجل، هو سرق ومن الطبيعي أن يشعر صاحب المال بالظلم، لم يقصد قتله، هو فقط أراد أن ينتقم منه، يتغير شيء ما في قلبك، تجد نفسك تحدثك أنه لم يقصد قتله فعلًا، ربما كان على حق في ضربه.
تعليقات أخرى تدعو للمتوفى بالرحمة، وأن يغفر الله له سرقته لأنه كان محتاجًا، مذيلين تعليقهم بأنه لو كان محتاجًا بالفعل لسرق زجاجة مياه، ولكنه طمع فسرق زجاجة مياه غازية فاستحق العقاب، ربما هو ليس محتاجًا لهذه الدرجة، وليغفر الله له ولقتلته على حد سواء. الإنسان في هذه الحادثة يتجلى، الاختلافات الشاسعة بينهم تبزغ بوضوح، بل اختلاف الأفكار داخل نفس الشخص تتصارع، الحياة ليست أبيض وأسود فقط، نحن نعيش على الرمادية.
لم يؤذِ جون ميريك أحدًا، اختلافه أربك الجميع، حالته تختلف عن المشرد المقتول بالطبع، ويفصل بينهما قرنان من الزمان، ولكن الإنسان ما زال هو الإنسان، بمشاعره المتناقضة وقسوته غير المبررة، وخوفه من كل شيء، ومقاومته لهذا الخوف بالأفعال الجنونية، التي تخلو من الإنسانية، كان جون ميريك مختلفًا، مربكًا، نحن نكره الاختلاف ويخيفنا، يزلزل اتزاننا النفسي فنأتي بأكثر الأفعال وحشية، لماذا تدهس هذه الحشرة الغريبة التي تجدها تحت قدميك في الحديقة رغم أنها لا تؤذيك؟ لأنك لا تعرف كنهها، والإنسان عدو ما يجهل.
كان جون ميريك مربكًا لكل من تعامل معه، وبالأمس القريب كان المشرد السارق مربكًا أيضًا، إنسان وُضع في ظروف قهرية جعلته أضعف من الجميع، وبات لزامًا على الجميع أن يحددوا موقفهم منه، الأضعف منك دومًا يشعرك بمسئولية ما تجاهه، وأنت من تختار كيف تتعامل مع ضميرك في مواجهة هذه المسئولية، هل تأخذ الطريق السهل وتكره هذا الضعيف لأنه يضعك في مواجهة مع واجبك تجاهه لأنك إنسان، أم تختار الأصعب وتبذل جهدًا كبيرًا في ترويض قلبك ونفسك لتقبله وتتعاطف معه وتعامله بنبل، مع ما يترتب على ذلك من مسئوليات؟
أبيض وأسود
في أحد مشاهد الفيلم يمتلئ الكادر بوجه الطبيب الذي قام بدوره أنتوني هوبكنز، كان في هذا المشهد يستكشف حالة جون ميريك ويتفحصها عن قرب، تملأ الدموع عينيه وتركز نظراته على نقطة واحدة بعيدًا عن عين الكاميرا، كان ذلك أحد أصدق التعبيرات عن الألم الإنساني، وقد اقتنصها لينش ببراعة تضاهي براعة أنتوني هوبكنز في تجسيدها، هنا إنسان يتألم لأجل إنسان آخر، مشاعره واضحة تمامًا وغير قابلة للبس، بيضاء من غير سوء، رغم أنه قدم لجون ميريك الكثير، أهم ما قدمه كان الصحبة الإنسانية الطبيعية عندما كان يدعوه للشاي في بيته مع زوجته، ولكنه يعرف أن هذا لا يكفي في مواجهة كل الألم الذي أحاط بوجود ميريك الإنساني وما قاساه.
على الجانب الآخر هناك الموظف قاسي القلب الذي يتلصص على ميريك ويدعو أصدقاءه للاستمتاع بمشاهدة المسخ، يزعجونه ويهينونه ويسخرون منه، يوجهون له الإهانات ليسلوا أنفسهم، يضحكون ملء أشداقهم وبهيستيريا شديدة بينما يصرخ فيهم ميريك: «أنا لست مسخًا، أنا إنسان.» ولكنهم لا يلتفتون لندائه، هنا أيضًا كان أحد أهم مشاهد قسوة الإنسان، المؤذي رغم أنه لا شيء هنالك يدعوه للأذى، قاسٍ ومتنمر، أسود تمامًا.
بينهما الكثير من الشخصيات، ممثلة السينما التي تزور ميريك لتحدثه عن الفن وعن شكسبير، الممرضات اللاتي يراعينه لأن هذا هو عملهم الذي يتقوتن منه، مدير المستشفى الذي يفكر بطريقة عملية محضة في المريض الذي يشغل غرفة بشكل دائم، كلهم إنسان وكلهم يفضحهم ديفيد لينش عن طريق تعريضهم لجون ميريك ومأساته، أنت ترى جميع النماذج الإنسانية في هذا الفيلم، وتكتشف أن الحالة العجيبة فعلًا لم تكن حالة ميريك ذي العيب الخِلقي، ولكنه الإنسان الذي بإمكانه أن يتقمص كل الأدوار ويتبنى كل المشاعر.