ما طبيعة علاقة الدولة الحديثة بالمجتمع؟ الحقيقة أنه يبدو سؤالاً مُحرِجًا للغاية، خصوصًا إذا كان الكثيرون يعتبرون أن أبلغ إجابة ممكنة لا بدّ أن تستدعي تعبيرات لا أخلاقية. والأمر هنا يتجاوز التعبيرات التي انتشرت عمّا فعله الواقع بالخيال. لذا سنحاول استخدام لُغةٍ كلاسيكية مهذّبة للإجابة بإيجاز عن هذا السؤال.

«الدولة تخلق المجتمع». «الدولة تشكّل المجتمع». «الدولة تنظّم حركة المجتمع».

ما رأيك في هذه الإجابات الكلاسيكية؟ إنها حقيقية وصادقة بالمناسبة؛ لكنّها ناقصة. فـ«الدولة تخلق المجتمع» نعم، وتمارس عليه دورًا ألوهيًا وتستعبده. و«الدولة تشكّل المجتمع» بالطريقة التي تضمن انصياعه الدائم لها. و«الدولة تنظّم حركة المجتمع» في الاتجاهات التي، والتي فقط، تخدم مصالحها وتوفّر أسباب بقائها.

يتضح أن «الرقابة» بالأساس، أداة من أدوات الدولة للسيطرة على المجتمع ثقافيًا ولتنظيم حركته؛ حيث تحدّد السلطة للمجتمع ما ينبغي له أن يتعاطاه ثقافيًا

تفعل الدولة كلّ هذا من خلال «السُلطة» القائمة والفاعلة فيها، ظاهرة كانت أو مستترة، من خلال «مؤسساتها» التي تتوجّه بممارسة هذا الفعل نحو المجتمع. يدخل في هذا مؤسساتها العسكرية والبوليسية والقانونية والدينية والتعليمية والثقافية والتنموية والاقتصادية و… إلى آخره.

ومن بين المجالات التي تستهدف الدولة من خلالها سيطرة سُلطتها على المجتمع = المجال الثقافي. لذا تقوم مؤسسات الدولةُ وتشريعاتها بالعناية بشأن المحتوى الثقافي؛ إما بتنظيم «إنتاجه وتمويله ورعايته»، وإما بـ«الرقابة» عليه.

هكذا يتضح أن «الرقابة» بالأساس، أداة من أدوات الدولة للسيطرة على المجتمع ثقافيًا ولتنظيم حركته؛ حيث تحدّد السلطة للمجتمع ما ينبغي له أن يتعاطاه ثقافيًا مما لا ينبغي، ومتى يتعاطى ماذا، وبأيّ كَمّ. كلّ هذا حسبما ترى السُلطة القائمة، فما يكون مسموحًا به اليوم، قد يُحظَر غدًا، وما كان محظورًا بالأمس صارَ متاحًا اليوم، وهكذا. الأمر يتعلّق برؤية السُلطة لمصالحها القائمة، باسم الدولة، وكُلّه بالقانون الذي يؤمّن مصالح السُلطة الحقيقية وأسبابَ بقائها.

هكذا تقودُ الدولة قُطعان المجتمع.


المشكلة الأساسية مع الرقابة كفكرة، أننا نرفضها على أساس مقاومة مبدأ الوصاية ذاته.
مريم نعوم – كاتبة سينمائية

هل مارستَ الجنسَ الصحيح اليوم؟!

سؤالٌ لَن يكونَ مُستغرَبًا أن تجده مانشيتًا لصحيفة أو عنوانًا لتقرير تلفازي، أو استبيانًا في موقع إخباري، أو عنوانًا لفقرة ساخنة في برنامج «توك شو» مسائي. ولِم لا والحديث لا يتوقف عن نجومية السادة العناتيل، ومغامرات أحمد التبّاع، وفضائح بنات الليل وشبكات الدعارة والآداب، وقضايا الجنس في شبكات الإنترنت، وعلى القنوات الفضائية وشاشات السينما والكمبيوتر، والجنس في الأدب، والجنس في التعليم، والتربية الجنسية في المناهج، والفتاوى الجنسية، والجنس عند الشيوخ، والمراهقين، وأسرار ليلة الزفاف، والتحرّش الجنسي، والشذوذ بين الرجال، والسحاق بين النساء، والمتحوّلين جنسيًا، وحفلات الجنس الجماعية، والجنس عند الأديان، والجنس المقارن، وعن سرعة القذف وضعف الانتصاب والأمراض الجنسية والمشاكل الجنسية والاستشارات الجنسية والوصفات الجنسية.. إلى آخره!

ليحضُر الجنس في حياتنا. لا مشكلة في هذا؛ فنحن متفقون عليه. المشكلة الحقيقية تكمن في سؤالين خفيفين: مَن الذي سيُحضره؟ وما المساحة التي ينبغي أن يحتلها الجنس في حياتنا؟

السؤال المُؤزِم الذي يتخفّى وراء هذه المشكلة حقيقة هو: مَن الذي يحدّد إجابة هذين السؤالَين؛ الدولة القائمة بفعل الوصاية، أم المجتمع المفعول فيه؟

هنا تبرُز مشكلة «الرقابة» كوصاية تفرضها سُلطة الدولة الحديثة على المجمتع، وتحافظ على جعل المجتمع طفوليًا متحيّرًا محتاجًا إلى وجود هذه الوصاية. والمشكلة لا تتوقّف عند هذا الحدّ، وإنما تنتُج عنها مشكلة أخرى؛ إذ تتحوّل الرقابة في لحظةٍ من «آلية للسيطرة» إلى «آلية للإفساد»، مثلها في ذلك مثل كلّ أدوات الدولة الحديثة ذات الفعل المزدوج المتناقض.

تبرُز مشكلة «الرقابة» كوصاية تفرضها سُلطة الدولة الحديثة على المجمتع، وتحافظ على جعل المجتمع طفوليًا متحيّرًا محتاجًا إلى وجود هذه الوصاية

ثمّة نتيجة استقرائية لها شواهدها المتراكمة، تقول إن الدول في حال هزيمتها وضعفها تشدّد من قيودها الرقابية على الثقافة، وفي حالِ قوتها وانتصارها تخفّف من قيودها الرقابية تلك. ولكن ثمّة نتيجة استقرائية معاكِسة تمامًا، ولها شواهدها المتراكمة أيضًا، تقول العكس بالضبط. ما الذي يحدُث على الحقيقة إذًا؟!

الذي يحدُث أن السُلطة تتّخذ آنيًا ما تراه مناسبًا لمصالحها وأسباب وجودها وبقائها، فتشدّد على منع أمورٍ بعينها، ثم تعود وتصرّح بالسماح بالأمور ذاتها، هي هي. لا يرتبطُ هذا شرطيًا بكون الدولة في حالة قوة أو ضعف، بقدر ما يرتبط برؤية السُلطة ومصالحها، وفقط.

أين المجتمع إذًا؟! المجتمع مجرّد مفعول به يتلقّى ما يُلقى إليه من الثقافة، ويصبر على ما هو محرومٌ منه، حتى تأذن له السُلطة له فيه لأسبابٍ هي التي تعرفها. قد تُلقي إليه السُلطة بوجباتٍ دسِمة من الخرافات، أو من الفضائح، أو من الجنس… فقط ليلتهي بها، وليخفّ الصُداع التي قد يسببه المجتمع للسُلطة لشأنٍ أو لآخر.

اللافت في مسألة «الرقابة» تحديدًا، أن المبرّر الرقابي السُلطوي الجاهز دائمًا هو: (نفعلُ هذا لحماية المجتمع)! في حين أن الواقع يقول غير هذا تمامًا، الواقع يقول: (يحدُث هذا لحماية وتأمين السُلطات والأنظمة).

قد تتساءل: المفتَرض أنّ هناك قانون ينظّم الأمر. سأجيبك متهكّمًا: وإن يكُن؟!


الرأي العام عندنا لا يعرف كلّ شيء. وهناك أمور تخفى عليه. كانت هناك تعليمات رقابية يزيد عددها على الستين، موجودة منذ عصر الملك. بل تطبّق ضمن قانون رقابة صادر في ظل جمهورية، ولم يكن بوسعي أن أعرفها لأنها لم تكن منشورة، وفوجئت بوجودها عند تعييني في الرقابة.
مصطفى درويش – مدير سابق للرقابة على المصنفات الفنية

يرجع تاريخ الرقابة في مصر «الحديثة» إلي أيام الحملة الفرنسية، حيث كان أول رقيب على الصحافة الجنرال ديجوا. وشهدَت الوظيفة بعض التغييرات، وكان أبرز محطاتها تكليف الخديوي إسماعيل لـ«باولينو دارنيت» باشا بوظيفة الرقيب في 1879م ضمن أعمال قلم المطبوعات بوزارة الداخلية، وظلّت أعمال الرقابة تابعة لوزارة الداخلية بوصاية إنجليزية كاملة، حتى كانت ثورة 1919م، وظهور المعارضات الوطنية الممتدّة، وهو ما أسفر عن صدور تقرير (لا تفعل ذلك وخذ حذرك) سنة 1927م بالمحظورات والنواهي في السينما، ثم صدور القرار 42 لسنة 1928م، بمنع تصوير الأفلام الأجنبية التي تحمل إساءة لمصر إجمالاً.

وصدر قانون الرقابة المصري المعروف في فبراير 947ام، عن إدارة الدعاية والإرشاد بوزارة الشئون الاجتماعية، وهو على غرار قانون الإنتاج الأمريكي لعام 1946م. وجاء القانون المصري التفصيلي في أتمّ صور وصاية الدولة على المجتمع والتحكّم فيما يُنتِجه ويتعاطاه ثقافيًا وفنيًا، متضمنًا أربعة أقسام تفصيلية: الأمن والنظام العام – الدين – الجريمة – الجنس.

وبعد انقلاب الجيش على الملك في يوليو 1952م، صدر قانون 427 لسنة 1954م، من القصر الجمهوري، لمنع الأحداث (تحت 16 عامًا) من دخول دور السينما وما يماثلها.

يرجع تاريخ الرقابة في مصر «الحديثة» إلي أيام الحملة الفرنسية، حيث كان أول رقيب على الصحافة الجنرال ديجوا

ثم صدر قانون 430 لسنة 1955م، الذي كتبه الدكتور عبد الرزاق السنهوري، وأصدرته وزارة الإرشاد القومي، ليحلّ محلّ قانون 1947م، والذي يعدّ ترجمة لميثاق هيس الذي ظهر في أمريكا عام 1933م. واقتصر القانون الجديد (22 مادة) على الجوانب العملية الإجرائية (الترخيص والتجارة والعرض والتظلمات وما شابه)، دون التطرّق للمحتوى قيميًا أو أخلاقيًا. وجاءت المذكّرة الإيضاحية للقانون لتبيّن الغرض من قانون الرقابة بأنه (المحافظة على الأمن والنظام العام وحماية الآداب ومصالح الدولة العليا). وفقط.

ثم جاء قرار 220 لسنة 1976م الذي أصدره د. جمال العطيفي، وزير الثقافة والإعلام حينها، ليعيد أغلب تعليمات قانون 1947م بالتفصيل.

وجاء قانون 38 لسنة 1992م، الصادر عن وزارة الثقافة، معدّلاً لقانون 1955م، في النواحي الإجرائية فقط، حيث ركّز التعديل على «تنظيم الإعلانات التجارية» ! وإن كان كسابقه = خاليًا من التطرّق للمحتوى الفنّي قيميًا وأخلاقيًا.

وانتهى المطاف إلى قرار رئيس مجلس الوزراء المصري رقم 162 لسنة 1993م، بشأن اللائحة التنفيذية لتنظيم أعمال الرقابة على المصنفات السمعية، والسمعية البصرية؛ حيث تضمّنت المادة الثامنة منه (مراعاة ألا يتضمن المصنف أو ينطوي على ما يمس قيم المجتمع الدينية والروحية والخلقية أو الآداب العامة أو النظام العام)، مع إلزام الإدارة العامة للرقابة على المصنفات بوزارة الثقافة بمتابعة الأمر. وألحق به في 1994م فتوى تنص على أن (الأزهر هو صاحب الرأي النهائي في ما يتعلق بتحديد الشأن الإسلامي في المصنفات السمعية والسمعية البصرية)، واستطردت الفتوى بأن (تقدير الشأن الإسلامي الذي يتخلل حماية النظام العام والآداب والمصالح العليا للدولة تكون سلطة تقدير هذا الشأن من ولاية الأزهر وهيئاته وإداراته حسب قانونه ويكون رأيه ملزمًا للجهات التي أنيط بها إصدار القرار).

وأخيرًا، وبرغم عدم صدور أيّة قوانين معدّلة للقوانين المنظّمة لعرض الأفلام السينمائية، تسوّغ كلامه = جاء تصريح رئيس جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، د. عبد الستار فتحي، بأنه لن تكون هناك رقابة على الأفلام التي تعرض على شاشات السينما، وسيتم استبدالها بالتصنيف العمري، مؤكدًا أنّ هذا ما تمّ التوصّل إليه عبر اجتماعات مطوّلة برعاية وزير الثقافة، د. جابر عصفور.

هل أخذ وزير الثقافة برأي أيٍ من شرائح المجتمع – المتعاطِية للثقافة وليست المُنتِجة لها- في هذا الأمر؟ هل سمِع المجتمع أصلاً بأنّ هناك اجتماعات مطوّلة تتمّ بهذا الصّدد؟

وما قيمة رأي المجمتع في مثل هذه الأمور أصلاً؟ الرأي ما تراه السُلطات.


إننا غير مؤهلين لإلغاء الرقابة، لكن يجب أن يتحمل أفراد المجتمع والمبدع المسئولية كاملة فى الرقابة الذاتية.
طارق الشناوي – ناقد سينمائي

الكثيرون، وأنا منهم، ليست لديهم مشكلة حقيقية إزاء «الرقابة» ذاتها من حيث إلغائها أو إيجادها، وإنما المشكلة فيمَن يقرّر هذه الأمور: الدولة أم المجتمع؟ والمجتمع بأطيافه أم بشريحة المُبدِعين منه وفقط؟

إذا كانت الدولة ومؤسساتها هي التي تقرر وفقط؛ فممّا لا يليق بالمجتمع أن يُوضَع في تلك المكانة المَهينة من التلقّي الأعمى والوقوع تحت الوصاية المُطلقة من الدولة لتحدّد له ماذا يتعاطى ثقافيًا من عدمه. الأمر ستكون له آثاره الجانبية نعم، ولكنّها أمرٌ طبيعيٌ سُرعان ما سيكتسبُ المجتمع مناعته الخاصّة تجاهَها.

لا يليق بالمجتمع أن يُوضَع في تلك المكانة المَهينة من التلقّي الأعمى والوقوع تحت الوصاية المُطلقة من الدولة

وإذا كانت شريحة المُبدعين (صنّاع السينما في هذا السياق) هي التي تقرّر الأمر دونًا عن بقيّة المجتمع، ففي هذا السلوك ما يكفي من الأنانية والبرجماتية والوصاية والتسلّط على بقيّة المجتمع. الأمر ببساطة، أن تشترك شرائح المجتمع كلّها، بما فيها شريحة صنّاع السينما، في تحمّل مسئولية الرقابة الذاتيّة فرديًا ومجتمعيًا، وتبذلها وتفعيلها بشكلٍ مستمر.

ولكن ماذا إذا كانت سُوق الصناعة محكومة بسُلطويّات وتوجّهات وتوازنات وتربيطات؟

هنا تعودُ «سينما الدوجما» بمُعالجةٍ جديدة لتبرز من جديد على سطح الصورة.. كحلٍ يحمل رُوحًا تتسق مع نطرحه هنا.


إن السينما الموجودة في العالَم اليوم تخطو نحو الموت، فهي أخلاقيًا فاسدة، وجماليًا بحتة، وموضوعاتها مملّة، حتى حينما تبدو أفلامًا ذات قيمة، وحتى تلك التي تدّعي احتواءها على مجموعة من القيم والجماليات، والتي لاقت استحسانا من قبل النقاد والعامة بسبب براعة تنفيذها، فتلك البراعة تقوم بمحاولة التغطية على فساد صناعة الفيلم، وزيف الموضوعات المتناولة
ستيني آدامز – قراءة ثقافة الأفلام

الفن السينمائي بالأساس، هو فن الخِدَع والإيهام والإبهار الذي من خلاله يمكن السيطرة على أحاسيس المتفرّج وانفعالاته وأفكاره، بالإضافة إلى خلقها أجواءً خيالية قادرة على تقديم عالَم خارجي بديل تزوّد به متذوّقيها، فتصوّر لهم عالَمًا يتمّ فيه إشباع رغباتهم، و«التطهّر» من أثقالِهم التي تؤرّقهم، ولو لحظيًا.

ثمّة سُلطة يشعر بها صُنّاع السينما، وكلّ صنّاع الثقافة غالبًا، وهُم يعدّون ويقدّمون إنتاجَهم الفنّي. سُلطة يمارسونها داخل الوسَط، ويمارسونها أيضًا ويعرفون اتساع مداها خارج الوسَط، على المجتمع. والسلطات تتنوّع، ما بين سُلطة المُنتِج، وسُلطة المخرج، وسُلطة الموزّع، وهكذا.

كيف تقدّم السينما إذًا منتَجًا برؤية ومضمون، غير خاضعين لوصاية سُلطة الدولة الرقابية وسُلطة المتنفذّين في الوسَط؟! سؤالٌ شائكُ تشكّل «الدوجما» إجابة له تستحق التجربة.

جوهر الدوجما ليس الإلهاء والإمتاع وجعل الإنسان والمجتمع مفعولاً بهما، وإنما جوهرها «القضيّة»، أي قضيّة، والشخصية بأبعادها الإنسانية المختلفة

على خلاف المعنى الأخلاقي والفلسفي للدوجما، المرتبط بالأصولية والجمود والحتمية والقولبة والقطعية.. يأخذ التطبيق السينمائي للدوجما طريقًا مغايرًا يقوم على التركيب المتداخل بين روح التمرّد على قوالِب السيطرة الجاهزة، وبين بعض القواعد المحدّدة سلَفًا كمرجعية أخلاقية وفلسفية. الدوجما متمرّدة من الناحية الإجرائية، ومحافظة من الناحية المَرجعية. قد تكون المرجعية هي «الضمير»، كما كان عند مؤسّسي الدوجما (دوجما 95)، وقد تكون المرجعية شيئًا آخر ذا قيمة أخلاقية وفلسفية لدى جمهور المتلقّين ولدى صُنّاع العمل على حدّ سواء. المهمّ أنّ مَن يحدّد هذه المرجعية التي يتمّ تنفيذ الفيلم السينمائي كوسيط جماهيري من خلالها، ليست هي السُلطة القائمة، وإنما طرفا التواصل عبر هذا الوسيط = الصُنّاع والمجتمع. بحيث إذا كانت هناك رقابة قائمة فتكون رقابة ذاتية مرِنة لا تقومُ على تحقيق مصالح السُلطة القائمة، ولا تقتصر على ما يراه صُنّاع العمل وفقًا لمصالحهم الخاصّة.

غير أنّ هذا يستلزم أن يكون كلاً من صنّاع العمل، وجمهور المتلقّين غير خاضعَين لرؤية السُلطة ووصايتها وتوجيهاتها بهذا الشأن.

سينما الدوجما، بهذه المعالَجة إذًا، نمَطٌ مُقاوِمٌ للسُلطةِ القائمة داخل الوسَط المُنتِج للمادة الفنّية، ونمطٌ متحرّرٌ أيضًا من سُلطة الدولة الرقابية التي تمارسها على مجتمع صنّاع السينما، وعلى المجتمع الأكبر ككلّ.

جذور الدوجما (التي أنشأها الدنماركيون لارس فونترير، توماس فنتربيرج، كريستيان لفرينج، سورن كراج جاكوبسن)، متأصلة في مجموعة من الحركات السينمائية السابقة عليها مثل «سينما الحقيقة»، و«السينما المباشرة»، و«سينما تحت الأرض».. إنها نوع من التمرّد والثورة على ما وصلت إليه صناعة السينما في هوليوود، ومحاولة ناجحة للتحرّر من سُلطة الآلة والتكنولوجيا والاستهلاك.

جوهر الدوجما ليس الإلهاء والإمتاع وجعل الإنسان والمجتمع مفعولاً بهما.. وإنما جوهرها «القضيّة»، أي قضيّة، والشخصية بأبعادها الإنسانية المختلفة. بدأت تلك السينما «فردانية» أرادت أن تنفذ إلى أعماق الإنسان، وتقتحم ذلك العالَم الغامض، وتكشفه بصورة صادقة.. ونحن بحاجة إلى أن يتم تطبيقها بصورة «مجتمعية» تنفذ وتكشف وتعالج، وإن بدت مادتها في بعض الأحيان صادمة، إلا أنها ستكون هي الحقيقة كما يراها المجتمع من نفسه بنفسه، وليس كما تريد أن تريها له السُلطة.

هل نرى قريبًا بُزوغًا لفجر هذه «الدوجما» الجديدة؟! نأمُل ذلك.

لا أعرف ماذا يحدث هذه الأيام، أسمع أن الرقابة الآن تسمح بأعمال والناس هي التي ترفض. المجتمع تغيّر.
الروائي العالمي نجيب محفوظ – مقالة «الرقابة ضرورة»
المراجع
  1. 1- سينما الدوجما – د. إيمان عاطف.
  2. 2- الرقابة على السينما.. القيود والحدود – حسين بيومي.
  3. 3- صناعة الواقع.. الإعلام وضبط المجتمع – محمد علي.
  4. 3- الرقابة على المصنفات بين الالغاء والتطوير – تحقيق على موقع الجزيرة الوثائقية.
  5. 4- السينما المصرية والإثارة – محمود قاسم.
  6. 5- المراقبة والمعاقبة – ميشيل فوكو.
  7. 6- مقالة «الرقابة ضرورة» – نجيب محفوظ.