بينما كانت حركات الميم أو الـ LGBT (ذوو الميول الجنسية المثلية Lesbian and Gay أو المزدوجة Bisexual أو المتحولة Transgender) تحتفل في 2015 بالحكم التاريخي للمحكمة العليا الأمريكية بمنح حق الزواج للرفاق من جنس واحد same sex couples، كانت كيم ديفيس، وهي كاتبة قانونية (منصب انتخابي في المقاطعات الأمريكية يوازي تقريبًا منصب العمدة في بعض البلدان)، تفجر جدلا إضافيًا أو تكشف عن وجه آخر للجدل الذي قد أثاره الحكم.

رفضت كيم الامتثال لحكم المحكمة العليا وتسجيل زيجات المثليين أو وضع توقيعها على وثائق زواجهم. أجبرت الحكومة كيم لاحقًا على عدم تعطيل الزيجات عبر الموظفين التابعين لها (نجحت كيم في ألا يكون توقيعها على الوثائق كما أرادت)، لكنّ حجاجها بقي بسيطًا ومزعجًا بقدر بساطته: لا ينبغي أن يجبرني أحد على أن أخالف ما أؤمن به، أؤمن بأن هذا حرام، فكيف أجبر على المشاركة فيه. الأمر بالنسبة إليها كان على حد تعبيرها: «جنة ونار».

اللافت في حجاج كيم أنه كان اجتماعيًا وحقوقيًا لا أخلاقيًا فحسب، إنها لم تخض جدل حول رأيها ورأي الآخرين في السلوك نفسه، ولكن حول حقها وحقوق الآخرين. فنحن حينما نتحدث اليوم لا نتحدث عن «أخلاقية ممارسة الجنس مع شريك آخر»، أو حق الأفراد في ممارسة ذلك السلوك دون أن يمنعهم المجتمع أو يعاقبهم القانون، وإنما نتحدث عن «حقوق المثليين»، أي أننا لسنا أمام سلوك نقيّمه أخلاقيًا، وإنما أمام جماعة هوية جديدة، اسمها «المثليين»، تطالب بحق ثقافي وقانوني.

من هنا ينبغي أن يكون الجدل بخصوصها جدلا اجتماعيًا ثقافيًا قبل الجدل الأخلاقي، ليس لأن أحدهما أهم من الآخر، ولكن لأن البداية بالجدل الأخلاقي والتركيز عليه تحجب الطبيعة الاجتماعية للموضوع.

إن الأطروحة التي يقدمها النقاش هنا هي أن الخطاب المطالب للمجتمع بالاعتراف/القبول بسلوك معين يراه أفراد هذا المجتمع أو جماعات معينة فيه سلوكًا محرمًا دينيًا أو شائنًا أخلاقيًا ولا يمكن قبوله قيميا، أمسى خطابًا ذا سلطة يفرض نفسه على الآخرين ويحرمهم ضمن شبكة علاقات قوة جديدة من حقهم الشخصي في تبني خيارات أخلاقية دون أخرى.

وقد فضّلت إرجاء النقاش في البعد الأخلاقي، ليس فقط لقصور المجال هنا، ولكن لأنه قد يحجب كما سبق أن أشرت الحجاج الاجتماعي هنا ويجعله مجرد غطاء أنيق للإدانة الأخلاقية للسلوك. لكن من الضروري هنا أن أؤكد أن تلك الأطروحة هنا تحرص على تأكيد رفضها في المقابل للتمييز الثقافي أو القانوني ضد جماعة هوية مفترضة يسميها المجتمع « الشواذ»، ويسميها أهلها: «المثليين».


خيانة الذات

ولدت حركات الميم من رحم الفكر النقدي والثورة الثقافية التي تلت الحرب العالمية الثانية. تمركز الفكر النقدي حول فرضية أن السلطة في المجتمع الغربي الحديث قد تغلغلت في الثقافة، وحوّلتها إلى أداة لتطويع الذات وتكبيل إبداعها الذي يهدد السلطة. عندما نسمي الممارسة المثلية مثلا: «الشذوذ»، فإن اللغة تسقطنا دون أن نشعر في ثنائية ممارسة طبيعية/ممارسة شاذة، أي تجبرنا على رفض الممارسة المثلية بل والتقزز منها بوصفها غير طبيعية، رغم أن تلك الثنائية لا تقوم على أي أساس عقلاني. فاللغة أضحت منظومة خطابية تفرض من خلالها السلطة قيمًا معيّنة على الأفراد دون أن يفكّروا فيها نقديًا [1].

في هذا الإطار، جاءت حركات الميم لتخرق أحد التابوهات الثقافية السلطوية للمجتمع الحديث راغبة بذلك في تحرير الذات الإنسانية الحديثة من نيرها، ونجحت بالفعل في تحقيق إنجازات متتالية. في الثمانينات مثلا، حُذِف الشذوذ الجنسي بوصفه اضطرابًا نفسيًا من دليل التشخيص DSM الذي تصدره رابطة الطب النفسي الأمريكية. لكن ما كان يحدث أيضًا هو أن الخطاب الجديد كان هو نفسه يتحوّل إلى سلطة خطابية جديدة تفرض نفسها على الآخرين، وتتهددهم حال رفضوا الإذعان لقيمها الجديدة بأن يصيروا موصومين «خطابيا rhetorical» بأنهم «عنصريون» أو «فاشيون».

تم توطيد السلطة الثقافية الجديدة لحركات الميم وقريناتها كالنسوية ومناهضة العنصرية والحرب، في الجامعة الأمريكية باسم اللياقة السياسية political correctness التي أرساها هربرت ماركوز، وهي سلطة خطابية أيضًا، تجعل من الشائن مثلا تسمية الأسود «زنجيًا»، أو التمييز بين النساء والرجال ولو بحجة الاختلاف الطبيعي بينهما، أو وصف المثلي بأنه «شاذ»، وانتقلت تلك اللياقة بسلاسة من الجامعة إلى الميديا والمنابر الثقافية المختلفة بحيث لم تعد موضوعًا للنقاش [2].

وعلينا هنا أن نلاحظ مثلا أن كيم ديفيس لم تخسر المعركة القضائية فحسب، بل كانت موضوعا للنقد في الصحافة وللسخرية في برامج التسلية كـ Saturday Night Live، أي أن انتصار ذلك الخطاب لم يكن انتصارًا قانونيًا فحسب بحال، بل كان ثقافيًا أيضًا بوضوح.

لم تكن تلك الحركات تحقق سلطة رمزية فحسب عبر نجاحاتها الثقافية والقانونية، بل كانت أيضًا تحقق سلطة مادية عبر علاقات مباشرة بين نشطائها ونشطاء منظمات المجتمع المدني وبين مؤسسات رسمية ورجال أعمال يوفّرون التمويل والدعم المعنوي وأحيانًا المباشر لتلك المنظمات ونشطائها.

وهكذا، تحوّلت الحركات النسوية وحركات التحرر الجنسي هي نفسها إلى أدوات لترويج الخطاب النيوليبرالي الرأسمالي في الهجوم على دولة الرفاه (الدولة التي توفر ضمانا اجتماعيًا لرعاياها) بحجة كونها دولة سلطوية بجهازها البيروقراطي الضخم، وتشجع ثقافة أبوية وذكورية بدعمها الأسر التقليدية من الجنسين ذات العائل الذكر [3]. وإذا كان صحيحًا أن دولة الرفاه كانت مأزومة على كل حال، إلا أن دعم البديل النيوليبرالي ليس مبررًا أيضًا على كل حال، خاصة من قبل حركات تتحدث عن تحرر جذري [4].

هكذا أضيفت إلى مآزق حركات التحرر الجنسي مأزقًا خاصًا بعلاقتها بالتحرر المادي من نير الرأسمالية، وبدت العلاقة بين المكونين للحركة التحررية، المكوّن الثقافي النخبوي المطالب بالحصول على الاعتراف الاجتماعي بالأقليات الثقافية، والمكوّن المادي المطالب بإعادة توزيع الثروة والتحرر الطبقي، علاقة متوترة، على الصعيدين النظري والعملي. فنظريًا، لم تنجح محاولات إنتاج خطاب واحد يتسق فيه المكوّنان معًا كعنصرين منسجمين رغم تطورها في تشكيل خطاب واضح، ويظهر ذلك في الجدل بين نانسي فريزر وجوديث بتلر في منتصف التسعينات [5].

وعمليًا، ظهر الفصام بين الطبقة العاملة والطبقات الدنيا ماديًا بوجه عام، وبين النخبة الثقافية لمثل تلك المنظمات، بوضوح في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، وفي موجة صعود اليمين الجديد بشكل عام، حيث انحازت الجماهير إلى اليمين الذي بدا أكثر تركيزًا على حماية الطبقة العاملة من النخبة الليبرالية [6].

نحن هنا حيال عملية ممتدة من الفرز والتموقع الاجتماعي انتقلت في إطارها تلك الحركات من حيز الثورة الجذرية إلى حيز المأسسة والاندراج في الأجندة الرسمية. عندما تطالب تلك الحركات اليوم باعتراف الآخرين بها، فليس من الممكن الزعم بنفس القدر أن مواقف الآخرين نابعة من مصالحهم وسلطتهم وعلاقات القوة التي يقبعون على رأسها، بل على العكس، هم مطالبون اليوم بأن يقبلوا بمصالح وسلطة آخرين، وأن يندرجوا في علاقات قوة مفروضة عليهم.

لا يعني ذلك أن تلك الحركات فقدت طابعها الثوري تمامًا، فتبقى تلك الحركات مع غيرها من حركات التحرر صمام أمان ضد الفاشية ونصيرًا لا غناء عنه للأقليات في مجتمع متنوع؛ لكن ذلك الطابع الثوري صار حضوره أقل ما يكون في مسألة تطبيع المثلية الجنسية بحسب الصورة التي رسمنا.


على الشاطئ الآخر

ينتقل هذا النقد الموجه إلى حركات الميم في السياق الغربي إلى السياق العربي رغم أن تلك الحركات لم تحقق الانتصارات نفسها في هذا السياسق. فحسب نقاد كجوزيف مسعد، تكون محاولة خلق هوية اجتماعية مثلية في المجتمعات العربية على غرار الهوية الاجتماعية المثلية التي تدافع عنها تلك الحركات في المجتمعات الأورو-أمريكية، هي تصدير إمبريالي للحروب الثقافية الغربية إلى مجتمعات ليست لديها تلك الثقافة القائمة على ثنائية مثلي/غيري homosexual/heterosexual؛ وهي جزء من أجندة ثقافية إمبريالية تبنتها الولايات المتحدة الأمريكية ومؤسساتها الرسمية وشبه الرسمية المدعومة من رأسالمال منذ السبعينات [7].

غير أن هذا الحجاج يغفل واقعة أن هذا التصدير الإمبريالي هو في جانب منه إفراز ضروري للاستدماج الذي تقوم به الرأسمالية للمجتمعات غير الرأسمالية، بما فيها المجتمعات العربية. وقد تضاعفت وتيرة ذلك الاستدماج بفعل الثورة الرقمية.

فليس ممكنًا اليوم عزل شاب عربي يعيش وسط قبيلة أو نجع عن ثقافة المجتمع الأمريكي ونقاشاته التي يعيشها افتراضيًا عبر أدوات كهوليوود ويوتيوب والسوشيال ميديا والفضائيات، أكثر مما يعيش ثقافته الفعلية، وأضحى بالتالي اعتبار استدعاء تلك الهويات والجدل حولها أمرًا مصطنعا برمّته، هو قصور تحليلي يفقد الحجاج قوته، وإن لم يفقده صلاحيته نهائيا.

يبقى هذا الحجاج نقدًا ذا وجاهة للنسخة العربية لتلك الحركات، حيث أنها في جانب منها تبدو كتطبيع لثقافة تابعة لا تحمل مع ذلك نفس الجدية الثورية والطموح التنموي الذي حملته تلك الحركات والبرجوازية التحررية تاريخيًا في المجتمعات الغربية.

يبقى إذن ضروريًا تكوين موقف واضح في هذا الجدل عربيًا، وعدم الاكتفاء بإدانته بحجة أنه مستورد، مع الحاجة بالضرورة أيضًا إلى أن يكون هذا الموقف موقفًا نقديًا يعي سياقات ذلك الجدل. فبإمكان المرء مثلا أن يكون قابلا بالمثلية، لكن ليس من الضروري أن يكون مناضلا في سبيل ذلك في مجتمع يرزح تحت ألوان من البؤس والقهر على نطاق أوسع ولا تمثل تلك المسألة مثار انقسام فيه.


نفي المجتمع

تطالب حركات الميم بالاعتراف recognition باعتباره الحل الأمثل للاختلاف وسياسة الهوية الأكثر عدالة للجميع. لا يعني «الاعتراف» مجرد غياب القهر القانوني لممارسي سلوك معين، بل القبول بوجود ممارسي هذا السلوك بوصفهم ذوي هوية مختلفة، بل والقبول بشرعية وجودهم بوصفهم يمارسون حقا من حقوقهم وسلوكا غير شائن.

ما ينبغي ملاحظته هنا أولا هو أن تلك الصيغة تفترض هوية مختلفة هي «المثلية الجنسية» أو نحوها، ومن ثمّ ترسخ الاختلاف بين أصحاب تلك الهوية وبين غيرهم من أفراد المجتمع، أي أنها تنقل معها في لاوعيها الثنائية المفترضة بوجود أفراد طبيعيين وأفراد شواذ، وهي التي قامت تلك الحركات لدحرها.

نحن إذن لسنا أمام فرد يطالب المجتمع بعدم التدخل في حيزه الخاص، وإنما أمام جماعة هوية تواجه المجتمع بوصفه مجرد مجموعة من جماعات الهوية، وتطالب تلك الجماعات بالاعتراف بها أو قبولها. لكن تلك الصورة تتسبب في صراع هويات، إذ أن المسألة لم تعد الانسحاب من حيز خاص بهؤلاء الأفراد، وإنما مطالبة الآخرين بتغيير هوياتهم؛ من هنا ينشأ مثلا نقد للثقافة الإسلامية بوصفها ثقافة معادية للمثلية أو homophobic وكأن هذا ليس حقًا لأفراد آخرين أن يروا في سلوك معين أمرًا محرمًا أو غير أخلاقي ومشين [8].

يعيد هذا الخطاب أو تلك السياسات للهوية politics of identity خلق الجوهرانية essentialism التي حاول تفنيدها، فهو يفترض هوية مثلية جوهرية مقابل ثقافات أو هويات أخرى معادية للمثلية، ويطالبها بتغيير نفسها، رغم أن تلك الثقافات لا تنظر إلى المثليين بالضرورة باعتبارهم أناسا شاذين ذوي جوهر مختلف، وإنما تنظر إليهم باعتبارهم أشخاصًا عاديين قد يمارسون أحيانا وبشكل عرضي سلوكا خاطئا يمكن أن يمارسه أي شخص، ولا يمثلون بالتالي جماعة هوية مختلفة، كما أن مثلا من يمارسون النميمة لا يمثلون هوية مختلفة اسمها جماعة النمّامين. ليست كل ثقافة تحرّم المثلية بالتالي ثقافة فاشية تفرض تجانسًا اجتماعيًا تعتبر الخارجين عن معاييره أصحاب هويات مختلفة يجب إبادتهم.

يمكننا إذن القول بإمكانية التعايش بين القول بحرمة الشذوذ أو النظر إلى المثلية باعتبارها سلوكًا شائنًا وبين رفض التمييز الثقافي ضد جماعة هوية اسمها المثليين أو قولبتهم في صورة أشخاص منحرفين جوهريا، وكذلك بين القول بحرمة الشذوذ وبين المطالبة الحقوقية بعدم منع المثليين من ممارسة حرياتهم في حياتهم الخاصة، أي حماية حقوقهم الفردية بمنطق ليبرالي يفصل بين الحيز العام المحكوم ديمقراطيا وبين الحيز الخاص الذي لا يجوز انتهاكه وإن من قبل الأغلبية.

أما عندما تطالب جماعة معينة أفرادًا أو جماعات أخرى بتغيير هوياتها أو قناعاتها الدينية أو خياراتها الأخلاقية فإنها تمارس قمعًا خطابيًا ضدها وإن جاء متخفّيا في رطانة ثورية تتحدث عن مجتمع مفترض، سلطوي وأبوي وذكوري… الخ.


[1] لمدخل بسيط عن نظرية الكوير أو نظرية الشاذ يمكن الرجوع إلى: Annamarie Jagose, Queer Theory An Introduction, NYU press, 1997.[2] لنقد من اليمين لمفهوم اللياقة السياسية، يمكن الرجوع إلى: Allan Bloom, The Closing of American Mind, Simon & Schuster – New York, 1987.[3] لنقد يساري ثقافي لدولة الرفاه من ناحية تفضيلاتها الثقافية، يمكن الرجوع إلى: Nancy Fraser, After The Family Wage: Gender Equity and the Welfare State, Political Theory, Vol 22 No. 4, Nov 1994, pp 591-618.[4] عن العلاقة النظرية بين النقد الثقافي وبين النيوليبرالية، راجع: Daniel Zamora, Foucault and Neoliberalism, Polity, 2015 و Nancy Fraser, Fortunes of Feminism: From State-Managed Capitalism to Neoliberal State, Verso Books, 2013. ومن أجل مطالعة سريعة: Can We Criticize Foucault.[5] Nancy Fraser, From Redistribution to Recognition? Dilemmas of Justice in a Post-Socialist Age, NLR I/212, Jul-Aug 1995. و: Judith Butler, Merely Cultural, NLR I/227, Jan-Feb 1998.[6] تجدر هنا الإشارة إلى تصريح ستيف بانون: «إذا تمركز اليسار حول العرق والهوية، بينما واصلنا انشغالنا بقوميتنا الاقتصادية، سيكون بإمكاننا حينها أن نسحق الديمقراطيين».[7] جوزيف مسعد، اشتهاء العرب، الشروق – القاهرة، 2009. ومن أجل مطالعة سريعة، انظر: إمبراطورية الجنسانية.[8] تجدر هنا الإشارة إلى بيان حزب العيش والحرية – تحت التأسيس الذي أدان الثقافة الإسلامية المعادية للمثلية، وعزا إليها المسئولية عن هجوم عمر متين على نادٍ للشواذ في أولاندو بأمريكا.