يقولون إن الحنين إلى الماضي Nostalgia فطرة متأصلة في النفس البشرية. وبهذا يفسرون ولع الإنسان باستشراف غرائب الماضي، والحفاظ على آثار الجدود، والتباهي بها في أحيانٍ كثر. أليس تُدفع المليارات سنويًا في سوق السياحة الأثرية خاصة إلى دول العالم القديم ذات الحضارات الماضية والآثار الباقية؟!.

لكن ما الذي يدفعنا بعد القفزات الهائلة التي خَطتْها وتخطوها البشرية في كافة نواحي الحياة وفي القلب منها العمران البشري والحضاري، فناطَحْنا السحاب، وقهرنا الجبال والبحار، واقتحمْنا الِقفار، أن تهتز قلوبنا وعقولنا متعةً وتأثرًا واشتياقًا عندما نخطو إلى معبد قديم، أو مسجد عتيق، أو قصر حجري يفصلنا عن آخر ساكنيه قرون وألفيات؟!.

هل تكفينا نظرية الحنين المتأصل، وتُلقِمُ هذا التساؤلَ السابق الحجةَ البالغة؟!.


الأمر أكبر من مجرد الحنين

أرى أن من غير المنطقي أن يكون التفسير الأوحد لهذا الشعور هو مجرد الحنين المجرد لكل ما هو ماضٍ، وإن كان لهذا ضلعٌ في الأمر ولا شك. لكن رأس الأمر هو الحاجة -بل الحاجات- التي لم تستطِع عمارتنا المعاصرة أن ترضيَها تمامًا، بل الأدهى من ذلك أنها في أحيانٍ كثر حرمتنا من بعض ما كان يتمتع به أجدادنا الذين تنسَّموا صفاء الطبيعة البكريّة، ونهلوا مواردها الفتيّة.

إذ كلما تقدمت البشرية في عمرانها خطوة، شعرنا أن الطبيعة والإنسانية تأخّرتا خطواتٍ. فرغم تقدم علوم وتطبيقات العمارة والهندسة والتخطيط والاستصلاح والتنمية، فإن البشر يتناسلون ويتكاثرون ويتزاحمون ويتقاتلون على مساحاتٍ قليلة من الأرض الصالحة للعمران؛ مما ابتلى الحياة المعاصرة بداء المدن المليونية، بكثافاتها، وتكدُّسها، وتلوثاتها، وإرهاقها للأعصاب والمشاعر والفطرة. وفي المقابل يتركون الكثير من صحاري هذا الكوكب عوانسَ لا مؤنس لها إلا حفنة من الحفارات والمناجم تستلِبُ من الأرض ما تبقى من مكنون نفائسها.

فلا عجب إذًا أن تظهر علوم الآثار، وأن يتخصص الكثيرون في تاريخ العمارة القديمة، وفلسفة العمران القديم، وألا يكتفي الإنسان بمجرد الحفاظ على آثار العمران الخالد من أجل أن تكون مزاراتٍ للسياح وعشاق التاريخ، إنما ليكون محصلة هذا السعي انطلاقًا نحو فلسفةٍ جديدة في العمران الإنساني تصل ما انقطع بين فطرية العمران القديم وإمكانات العمران الحديث، وتعيد الاتزان النفسي والبيئي لمدن الإنسان.


رحلة بطعم الحلم!

http://gty.im/509694567

تخيل أنك تركت شقتك الكبيرة المطلة على شارع رئيسي مزدحم ومكسو بضجيج السيارات والمارة، في مدينة حديثة هي عاصمة بلدك (وهذا الوصف السابق يعني أنك من الأقلية الأوفر حظًا التي لم تقطن شقة صغيرة، بمنطقة شعبية متهالكة سيئة التنظيم، أو حيٍّ ناءٍ عن الخدمات والمصالح) وانتقلت معي آنيًا عبر حدود الزمان والمكان إلى واحد من أهم الآثار الخالدة التي حافظت على شموخها وكمال بنيانها، لتصحوَ عيونُنا على جمالِ قرونٍ سبعةٍ لم يزده تقدم العمر إلا نضارةً وشبابًا. نحن الآن في جنوب أسبانيا الحالية، وعلى مرمى بصرنا تتكئ على أرائكَ من جبال غرناطة مدينة ملكية، وحصن حصين، كانت حاضرة هذه البقعة لأكثر من قرنيْن. إننا الآن على مشارف قصر الحمراء Alhambra.

نحن الآن داخل ردهات أحد قصور هذا الأثر البديع، تحتضنُنا حوائط من الزخارف البديعة، وتُظِلُّنا سقوف عالية من الزركشات الفريدة، لنخرج عبر باب قوسي إلى ممر خارجي طويل عبارة عن جنةٍ خضراء تظلها السماء، وتجري من تحتها الأنهار!، وتصطف على جانبي الممر قطوفٌ دانية هي لوحة بديعة من الألوان والعطور. ينتهي الممر إلى سلم نرتقيه إلى برجٍ عالٍ مطل على الخارج. تبدو بيوت المدينة الحديثة عند السفح متراصةً كطابورٍ من الأقزام، بينما باقي المشهد عبارة عن سجادة طبيعية من المروج والأشجار تكسو المحيط كله.

تخيل معي بعد أن نستكمل جولتنا في كل شبر من هذا المكان، الذي ستجد كل ما فيه استثنائيًا جمالاً وروحًا عما اعتدت، أن هناك آلافًا مؤلفة من أجدادنا عاشوا حياتهم كاملة في مكانٍ كهذا!.

ما أقسى المقارنة بين عمراننا الكئيب الجامد، المشبع بضوضاء المدن المصطنعة، وأدخنة عوادمها، وأسقفها الخرسانية السميكة التي تعزلنا عن مسرى أرواحنا إلى السماء، وعمرانٍ يلتحم بمادة الطبيعة التي نبتنا منها جميعًا، ويتمثل في تفاصيله أحلامُ ومعاني وأفكار مبدعيه، ويمزج في توازنٍ غير مفتعل بين ضخامة محدَثات الإنسان من الحجر والصور، والحفاظ على روح الطبيعة ورونقها الأصيل. فلا يُشعِرُ الإنسان بغربته عن الفطرة، ولا يحجب أسماعه عن موسيقى الحياةِ ووحيها.

هل اتّخَذتَ الغابَ مثلي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ منزلاً دونَ القصور؟!ْ وتتبَّعٔتَ السواقي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتسلَّقتَ الصخورْ هل تحمَّمْتَ بعطرٍ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ وتنشَّفْتَ بنورْ وشربتَ الفجرَ خمرًا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في كؤوسٍ من أثير
أعطني الناي وغنِّي … غناء فيروز

هل كل ماضٍ مبارك، وكل حاضرٍ مأزوم؟!

http://gty.im/185708745

لاشك أن هذا يعد من التعميم غير الموضوعي. فالغالبية العظمى من جدودنا لم يُتَحْ لهم أن يسكنوا في بيوت شامخة كمعابد أثينا ذاتِ الأعمدة، أو شاسعةٍ كجَنبات معبد الكرنك، أو مُحاكيَة للفردوس كقصور الحمراء، أو على اتصالٍ مباشرٍ بالسماوات العُلى كساحات مساجد القاهرة العتيقة، أو مطرزة بالزخارف البارعة كجدران وسقوف أيا صوفيا، …إلخ.

والكثير مما وصلنا من آثار العمران القديم تشي بما طبع أيامها -وكل أيام الإنسان- من تفاوت يتجاوز في أحيانٍ كثيرة حد التناقض. فأزقة القاهرة القديمة شديدة الضيق التي يكاد يتصافح الجيران عبر نوافذ بيوتها شديدة التلاصق هي نقيض تام لقصور أمرائها، بل لمساجدها الجامعة، شامخة البينان، سامقة الأسقف، شاسعة الساحات والصحون، شاخصة الأبصار إلى البروج، ذائبة المآذن في السماء.

وفي المقابل، هناك عذرٌ قوي للعمران الحديث قد يبرر غاباته الخرسانية الفارعة، فالاتساع الأفقي طالما كانت تحدُّهُ العوائق الطبيعية، وكذلك نقص المساحات. ولذا فرض الواقع مع تقدم الزمن، وتكاثر البشر، أن نتوسع رأسيًا بعمائر عديدة الطوابق، وناطحات للسحاب، وإن جاء هذا كثيرًا على حساب اتصالنا بطبيعتنا، وأكٔسَبَ محيطنا قدرًا فجًا من الاصطناع وإن بدا فعالاً. فالتكييف الصناعي مثلاً لن يعوض أبدًا متعة وعذوبة النسيم الطبيعي البارد في صحن مسجدٍ مفتوح، أو داخل حصنٍ باقٍ من العصور الوسطى من خلال فتحات تهوية مُمَؤضَعةً بعناية وبفن لتتلاءم مع تيارات الرياح الطبيعية في المكان، …إلخ. وكذلك الإضاءات الحديثة الباهرة في أسقفنا القريبة، لا تداعب العيون، وتدلك الأعصاب كضوء الشمس المتسلل من المشربيات القديمة، أو كإضاءة النجف المزخرف البديع المعلق من سقف مرتفعٍ في قصرٍ عتيق.

لكن رغم عيوب العمارة الحديثة، فقد تمكنت من استيعاب التكاثر العددي البشري الاستثنائي في العصور الحديثة، وذللّت بإمكاناتها المزيد والمزيد من عراقيل الطبيعة، فشقت الأنفاق في أعماق الجبال وتحت البحار، وعلقت الجسور في أحضان السحاب، …إلخ.


تواصل الماضي والحاضر هو الحل

لا مفر من أن نسلُكَ مساريْنِ متوازيَيْنِ ومتكامليْن.

الأول:الحفاظعلىالمواقعالتاريخية القائمة Historic Preservation، ويبدأ هذا بغرس الوعي بواجب الحفاظ على الذاكرة منذ نعومة الأظفار في المنازل والمدارس، …إلخ. ثم يجب الاستعانة بمؤسسات احترافية تضم خبراء متنوعين في علوم الآثار والهندسة والتاريخ والحضارات القديمة والفن الحديث والقديم والتخطيط، …إلخ، يقومون بعمل مسحٍ متجدد لتحديد كل ما يحمل أثرًا من إبداع الماضي وأنفاسه، فيتم تقنين وتنظيم الحفاظ عليه، ويتم توثيقه تصويرًا ورسمًا، ويتم ترشيد النشاط السياحي فلا يستنزف المواقع التاريخية، بل يضيف إليها بزيادة الموارد التي يتم استثمارها في الحفاظ على هذا التراث النادر، وحبذا لو تم استحداث تخصص دراسي وعملي يُعنى بعلم وفن الحفاظ على المواقع التاريخية.

الثاني: تطوير فلسفة جديدة للعمران الحديث، تعوضنا عما فاتنا من مزايا عمران الأجداد. ولعل المدن الجديدة التي تنشأ في قلب الصحراء بعيدًا عن التجمعات الحضرية التقليدية الكبرى تكون هي قاطرة التغيير الشامل الذي نبشِّر به، فالإنشاء من العدم أيسر من محاولة تعديل ما هو قائم، كما أن توافر المساحات يتيح الكثير من الفرص.

ولابد ألا يقتصر ما نريد من العمران والتخطيط على الشوارع المتسعة، وزيادة مساحة الحدائق والبحيرات الصناعية داخل المدن فحسب، بل لابد أن يصل التغيير إلى داخل بيوتنا، فتزداد مساحة النوافذ من الحوائط فتتيح مجالاً أوسع للهواء والنور الطبيعيّيْن، وترتفع الأسقف فلا تخنق الأفق القريب، ويكون بقلب كل بيت -أو على سطحه- فناءٌ مزورع متصل بالسماء (كالصحن المفتوح في الجوامع القديمة)، ولابد أن يتم التركيز في الإخراج الفني والديكوري على الإكثار من العناصر الطبيعية (كالرسوم النباتية، وصور المناظر الطبيعية)، وإحياء فنون الزخرفة التي تميزت بها الحضارات التاريخية (الإسلامية – البيزنطية – الفرعونية … إلخ)، ومزجها بالعناصر الحديثة، ليشعر الساكن بالألفة التاريخية، واتصال حنينه بواقعه، فلا يكون كما قال الشاعر:

أمسيْتُ في الماضي أعيشُ كأنما ــــــ قطع الزمانُ طريقَ أمسي عن غدي!

ستحقق هذه الفلسفة الجديدة المزيد من الخلود للعمارة التاريخية بإحيائها ونشر مبادئها، وكذلك تعيد إلى مساكننا وظيفة السكن والسكينة، كما تخفف كثيرًا من غلواء ضغوطات الحياة المادية المعاصرة على حواسنا وأنفاسنا ولا وعينا. المحصلة أنها ستكون عمارة إنسانية بحق.

أسبوع العلوم المصري