تحتلُّ المآسي والمذابح مساحةً ليست بالهيِّنة من التاريخ الإنساني، وكان للأندلس الإسلامية نصيبها الوافر منها، ولتلك الأحداث الصعبة دروسٌ وعِبَر تتخطى الأزمنة والأمكنة التي وقعت فيها، ويحتاج اللاحقون للنظر إليها بالمزيد من التحليل والتمحيص، إذ يبدو أن الغفلة أو التغافل لهما السيادة في هذا الأمر، وإلا لما شهدنا تكرارًا مؤلمًا لمثل تلك الأحداث على مدار القرون يعيد فيه التاريخ نفسَه بأقبح ما فيه، فلا يَعتبر القتلة ولا المقتولون.

وإذا ذُكِرت وقائع القتل الجماعي من أجل تحقيق أهدافٍ سياسية حاسمة، فإنَّ  مذبحة القلعة التي نفَّذها حاكم مصر محمد علي باشا عام 1811م ضد خصومه المماليك، فسحق ما بقي من قوتهم بضربةٍ واحدة هي الرمز الأكبر لمثل هذا. لكن يبدو أن محمد علي لم يكن مبتكرًا فيما جنت يداه في تلك المذبحة، فقد سبقه في مشارق الأرض ومغاربها الكثيرُ من الراغبين في فرض سلطانهم بأي ثمنٍ مهما غلا ماديًا أو أخلاقيًا. 

في السطور التالية، سنعود إلى الوراء أكثر من ألف عامٍ قبل مذبحة قلعة محمد علي، إلى واقعة شبيهة بها، وقد تكون أقسى منها في بعض الجوانب، إذ لم يكن ضحاياها مقاتلون طامعون في السلطة كالمماليك، إنما مدنيُّون متمردون من سكان مدينة طليطلة الأندلسية، كان لهم بعض المظالم الواقعية- وكذلك بعض المصالح والمطامع المتباينة- في وجه طاغيةٍ كان يحكم الأندلس، ولا يعرف سوى السيف- والغدر- حلًّا لكل ما تستعصي عليه فيه السياسة.

طليطلة: قلب الأندلس وبؤرة أحداثها

 كان أهل طليطلة يكثرون الخلاف ونفوسهم قويّة لحصانة بلدهم، فكانت طاعتهم مُلتانة ..  فأعيا الحكمَ أمرُهُم
عبد الرحمن بن خلدون في تاريخه متحدثًا عن الخلفية التاريخية لوقعة الحفرة

تقع مدينة طليطلة في قلب شبه جزيرة أيبريا -إسبانيا والبرتغال حاليًا- وهي حاليًا مدينة إسبانية صغيرة، لكنها في الزمن الأندلسي الغابر كانت من كبريات مدن الأندلس، وأكثرها سكانًا، وأشدها حصانة، لوعورة المناطق الجبلية المحيطة بها، وكذلك لمتانة أسوارها التي لا تزال بقاياها إلى اليوم شاهدة على ذلك، ولذا فقد كانت قاعدة الثغر الأوسط للأندلس في مواجهة زحف جيوش الممالك المسيحية المتربِّصة في شمال الجزيرة.

كانت طليطلة عاصمة الأندلس قبل الفتح الإسلامي، وظلَّت بعده حاضرةً إسلامية كُبرى لما يقارب 4 قرون، ولم يكن من المبالغة أن يصفها ياقوت الحموي في معجَم البلدان بأنها من أجلّ المُدن قدرًا وأعظمِها خطرًا، وكان لسقوطها عام 478 هـ في قبضة الإسبان صدىً هائلاً في الأندلس وفي العالم الإسلامي قاطبة.

اقرأ: موقعة الزلَّاقة .. الأندلس تختار بين الجمال والخنازير

قبل السقوط بأقل من 3 قرون، عام 191 هـ = 807م، شهدت طليطلة واقعة مؤلمة حدثت في زمن أمير الأندلس الأموي الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، والداخل هو صقر قريش الشهير الذي فرَّ من قمع العباسيين في الشرق، وأسّس الدولة الأموية الأندلسية. أما الحكم، فرغم قدراته العسكرية، فقد كان الفارق في السياسة والحكمة بينه وبين أبيه وجده هائلًا، فاتَّسمت سنوات حكمه التي قاربت 26 عامًا (180 هـ – 206 هـ) بكثرة التمردات والاضطرابات والثورات، وكانت مدينة طليطلة من أبرز بؤر التمرد ضد الحكم.

يذكر د.محمد عبد الله عنان في موسوعته (تاريخ الإسلام في الأندلس) بعض الأسباب الوجيهة وراء ميل طليطلة للتمرد، فقد كانت المدينة الحصينة بعيدة نسبيًا عن العاصمة قرطبة، وكان سكانها بالأساس من المُولَّدين، وهم الأجيال التي نشأت من إسلام الكثير من السكان الأصليين من الإسبان والقوط، ولا سيَّما نتيجة زواج الفاتحين العرب والبربر بسكان الجزيرة المسيحيين. وكانت تلك الشريحة ترى أنها مُهمَّشة على الصعيديْن السياسي والاقتصادي بما لا يتناسب مع كونهم أكثرية في الجزيرة، إذ استأثّر الأمويون والأسر العربية بمعظم أدوات السلطة والثروة.

 كذلك كانت طليطلة ملجأً لبعض الثائرين من العرب والبربر، إلى جانب وجود الكثير ممن بقوْا على المسيحية من أهل الذمة، ولم يكن بعض المتعصِّبيبن منهم يحبون أن يستقر أي حُكمٍ إسلامي بالجزيرة، أملًا في عودة الحكم المسيحي إلى الأندلس مستغلًا تناحر المسلمين وضعفهم.

وإلى جانب الأسباب السابقة الخاصة بطليطلة، فقد كان هناك أسباب عامة في الأندلس ككل، إذ كان شيوع الاستبداد والتوريث السياسي وغياب الشورى في اختيار الحكام، سببًا مزمنًا في وقوع الشقاق والاضطرابات والمظالم، ومحاولة تداول السلطة على قاعدة التغلُّب بالسيف والتحالفات العصبية أو المحلية ضد المركز.

في العام الأول من إمارة الحكم، ثار في طليطلة متمردٌ يسمى عبيدة بن حميد. لا يُعرف على وجه الدقة هل كان خروجه بالأساس لمطمعٍ شخصي في الحكم أو لمظلمةٍ عامة أو كليهما، في جميع الأحوال، واجهه الحكم بجيشٍ كبير بقيادة عمروس بن يوسف- الذي سيلعب أدوارًا خطيرة فيما بعد في مذبحة الحفرة- الذي نجح بالخديعة فيما فشل فيه سيفه، فتمكَّن من مراسلة أعيان طليطلة، وتأليبهم ضد الثائر، حتى قتلوه، وعادوا للطاعة، لكن بعد بضع سنوات عادت المدينة للتمرد مجدَّدًا، لبقاء الظروف التي أدَّت للثورة كما هي، فلجأ الحكم بن هشام لعمروس بن يوسف الذي كان له تجربة سابقة في الحرب والخدعة لحل «قلاقل طليطلة» التي لا تنتهي.

وقعة الحُفرة: الذبح من أجل استقرار الدولة

أرسل الحكم رجلَه عمروس بن يوسف واليًا على طليطلة، وبعث العديد من رسائل الطمأنة إلى أعيان المدينة ومقدَّميها، وأكّد أن الوالي الجديد سيحرص على مصالحهم. وكان من دهاء الحاكم أن اختار عمروس بالتحديد، رغم أنه لم يكن من سكان طليطلة، إذ كان من المولَّدين، فشعروا نحوَه ببعض الاطمئنان، إذ شعروا أنه ليس غريبًا عنهم.

إِنِّي قَدِ اخْتَرْتُ لَكُمْ فُلَانًا، وَهُوَ مِنْكُمْ، لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ إِلَيْهِ، وَأَعْفَيْتُكُمْ مِمَّنْ تَكْرَهُونَ مِنْ عُمَّالِنَا وَمَوَالِينَا، وَلِتَعْرِفُوا جَمِيلَ رَأَيْنَا فِيكُمْ
الحكم بن هشام في مراسلاته لأعيان طُليطلة بعد تعيين واليه الجديد عمروس

في أشهرٍ قليلة، نجح عمروس في استمالة أهل المدينة وأعيانها، وكان يجاريهم في المجالس الخاصة في انتقاد الحكم ومظالم الأمويين، ويدَّعي أنه لن يلبثَ أن يثور عليهم بعد ما يعُد العدة لذلك. ثم شرع في بناء قلعةٍ حصينة على أطرافِ المدينة أخبرهم أنها من أجل نقل الجُند خارج المدينة كي لا يزاحمون أهل طليطلة، ولكي يدافعوا عنها من الخارج ضد أي خطر، فرضي أهل طليطلة بذلك، لا سيَّما وقد اشتكوا غيرَ مرة من تجاوزات العسكر وتحرشاتهم بالناس في طرقات المدينة.

في تلك الأثناء، كانت المراسلات تترى بين عمروس والحكم في قرطبة، واكتمل التدبير، فأرسل الحكم جيشًا بقيادة ابنه وولي عهده عبد الرحمن للإغارة على أطراف الدويلات المسيحية في الشمال، وفي طريق عودة الجيش توجَّه تلقاء طليطلة، فاستقبله الوالي عمروس، وأعيان المدينة بحفاوة، وبادلهم عبد الرحمن بن الحكم الحفاوة بمثلها أو أكثر، فاطمأنُّوا أكثر وأكثر، ودعوه للاستراحة بالمدينة قبل إكمال طريق العودة إلى قرطبة.

وفي اليوم الموعود- وفيما يُذكَّر واقعة الزفاف الأحمر الشهيرة في مسلسل لعبة العروش ذائع الصيت- دعا عمروس أعيان المدينة، وأبرز قادتها إلى وليمة فاخرة على شرف عبد الرحمن بن الحكم في القلعة الجديدة، وللتعبير عن فتح الدولة صفحةً جديدة مع طليطلة وأعيانها.

إحدى لقطات حلقة «الزفاف الدموي» في مسلسل «لعبة العروش»

 دبَّر عمروس أن يكون الدخول من باب، والخروج من باب بعيد، وكان المُنظِّمونَ يُدخلون المدعوِّين ضمن مجموعاتٍ صغيرة بحجة تجنب الازدحام، وكلما دخل فوجُ، لم يظهر بعدها، وإلى الأبد. إذ كانوا يُقتادون إلى حافة حفرةٍ كبيرة في الداخل، فيضرب الجنود أعناقهم ثم يُلقون بالجثث فيها، بينما غطَّت ضوضاء الطبول والموسيقى على صرخات المغدورين.

استمرَّت المذبحة بضع ساعات من النهار قبل أن يتفطَّن الباقون من أعيان المدينة لغياب نظرائهم الذين توجَّهوا للوليمة مبكرًا، فتسلَّل البعض إلى مقربةٍ من باب الخروج المفترض، فلم يلاحظوا خروجَ أحد، فبدأ الشك يتصاعد في النفوس، ثم تجلَّت الحقيقة المرة، وسُرِّبَت تفاصيل الواقعة، وباتت المدينة المكلومة أشنعَ لياليها وقد فقدت المئات من سادتها ومُبرِّزيها.

اختلفت تقديرات المؤرخين في عدد ضحايا مجزرة الحفرة، إذ وصل بها البعض إلى 5 آلاف، وهو التقدير الذي مال إليه ابن الأثير في الكامل في التاريخ. أما أقل التقديرات فلم يهبِط  بالعدد عن بضعة مئات من الضحايا. ولا شكَّ أن تلك المذبحة المُروَّعة قد كسرت شوكة المدينة الحصينة المتمردة ولو إلى حين، وإن لم تضمنْ للحكم عهدًا مستقرًا كما كان يتمنى، إذ سيقضي السنوات الـ 15 الباقية من حكُمه وعمره في قمع سلاسل لا تنتهي من الثورات والتمرُّدات.

ما بعد المذبحة

لن تلبث طُليطلة أن تعود للاضطراب بعد سنواتٍ قليلة، ولا يملك الحكم لإعادة الاستقرار بها سوى الحلول الأمنية الصارمة. يجهِّز الحكم جيشًا كبيرًا مُظهرًا الرغبة في غزو الدويلات المسيحية في شمال الأندلس، ثم يعدل وجهتَه، وينقضُّ فجأة على المدينة على حين غرة فيعيد الإمساك بها بقبضتِه الحديدية، وينكل مجدَّدًا بأهلها. لكن سيشهد عصر الحكم لاحقًا ما هو أهم وأقسى.

بعد أقل من 11 عامًا من وقعة الحفرة، ستندلع ضد الحكم بن هشام ثورةٌ عارمة في ضاحية الربض – إحدى ضواحي العاصمة قرطبة – التي كانت معقلًا لطوائف من الحرفيين وأصحاب المهن، واشتهرت بمعارضتها لحكُمه.

أوشكت الثورة أن تودي بحكمه، لولا استخدامه أساليبه في القمع المتوحش، حيث تسللَ جنودُه إلى منازل الثوار المُحاصِرين لقصره، وقاموا بإحراقها وفيها نساؤهم وأطفالهم، فأُسقِط في أيدي الثائرين، وأخذ جيش الحكم رقابَهم، ثم أعملَ فيهم قرارات البطش، فأعدمَ المئات ونفى الآلاف من سكان الربض خارج الأندلس، وأزال آثار هذا الحي بالكامل من الوجود، وتجلَّل اسم الحكم بن هشام في التاريخ منذ ذلك الحين بلقب الحكم الربضي. يُقال إن الحكم قد أَسِفَ قبل وفاته على ما سُفِك في عهده من دماء، لا سيَّما في قمع ثورة الربض. لكن هل يعيدُ هذا الندم إلى الحياة أرواح الآلاف من الأبرياء لكي يقبلوا أو لا يقبلوا هذا الأسف؟

من مفارقات التاريخ، أنه بعد ثلاثة عقود فحسب من وفاة الحكم، دخل حكم الأمويين في الأندلس في فترة من الضعف والاضطراب استمرت أكثر من 60 عامًا، وستكون طليطلة من أهم مسارح التمرد خلال تلك الفترة. ولم تكد الأوضاع بعدها تستقر وتزدهر في عهد عبد الرحمن الناصر (300-350 هـ) وابنه الحكم (350-366 هـ)، حتى عادت للاضطراب مع تولي هشام المؤيد بن الحكم للإمارة وهو طفل صغير، فتصارع الأمراء حول الصبي، وانتصر أقواهم المنصور بن أبي عامر، والذي همَّش دور الأمويين كثيرًا، وكَبَتهم.

اقرأ: المنصور بن أبي عامر .. وقفات مع الرجل الذي ثار وحيدًا

اقرأ: الزاهرة .. مصير أقوى عاصمة إدارية في الأندلس

ورغم نجاح الأمويين عام 399 هـ في إشعال ثورة ناجحة ضد ابن المنصور المعروف باسم عبد الرحمن شنجول، فإن الأندلس دخلت في فتنة كبرى لمدة 23 عامًا، انتهت بتفتت الأندلس إلى أكثر من 20 دويلة فيما عُرف بعصر ملوك الطوائف، وكانت النقمة من الأمويين قد بلغت أوجَها في الأندلس لأدوارهم السلبية في فترة الفتنة الكبرى،  فقام أعيان قرطبة – العاصمة – بطرد الأمويين وإجلائهم منها بغير رجعة لا في المكان وفي الزمان، ولكن لهذا قصة أخرى.