يبدو البحث عن فكرة جديدة مختلفة كليًا أمرًا صعبًا، لا سيما في ظل طوفان الروايات والكتّاب الذي تمتلئ به الساحة الأدبية في مصر والعالم العربي، ويبقى الرهان صعبًا على وجود كتابة مختلفة فارقة وسط هذا كله، ولكن يبدو أن الأمل لا يزال قائمًا، وأن ثمّة كتابًا استطاعوا أن يخترقوا السطحي والعادي من الأفكار والتصورات حول الكتابة الروائية ومشاريعها القائمة، واستطاعوا أن يقدموا أنفسهم إلى الوسط الأدبي بقوة من خلال أعمالهم الأولى.

ربما يظن القارئ منذ سطور رواية «أحمد صابر» الأولى «حياة رجل ميت» أنه يتناول عالم الأرواح والأشباح، وسينتقل بالرواية إلى قصة من قصص الغموض والتشويق التي أصبحت سمة الكتابة الشبابية في هذه الآونة، لا سيما بعد انتشار روايات الرعب والتي تتصدر قوائم الأعلى مبيعًا حتى الآن، إلا أن الرواية تنتقل من هذه الفكرة العابرة إلى مناقشة فكرة الحياة والموت بشكل عام.

تبدأ الرواية مع البطل الراوي الذي يبدأ حياة جديدة في بيت يخبره السمسار أن من سبقه فيه رجلٌ منتحر، وأن الناس يهابون هذا البيت لاعتقادهم أنه سيكون فيه جن وعفاريت، ولكنه يواجه الأمر ببساطة لنكتشف معه أسرار هذا البيت وحياة صاحبه.

أفكّر في الدفء والعودة إلى منازل حياتي العادية والعودة لحياتي القديمة، للمنازل المألوفة، لكنني أجدها متشابهة، أظل تائهًا في شوارع لا أعرفها، ولا تسعفني الذاكرة، مثل القطة الصغيرة عليَّ العودة، نتشارك أنا والقطة مصيرًا مشتركًا وهو الضياع! مأساتي مأساة القطة الصغيرة الرغبة في رؤية العالم، العبور بسذاجة من الباب المفتوح دون الشعور بخطر.. في نوفمبر 2011 خرجت من شارع محمد محمود بأكثر من مجرد اختناق بالغاز المسيل للدموع، بدأ الاحتكاك بالأحلام، أحلامٌ تتجاوز التخرج من الكلية وأن أكون فتى أحلام فتاة جميلة .. تضخمت أحلامي وأصبحت مهمومًا بالوطن، وبدأت الحياة تثقلني وبجانب الأحلام تزداد أيضًا خيبات الأمل.

هي رحلة إذن للبحث عن الحياة من خلال الموت، رحلة تستكشف عالم الموتى، بدون أشباح أو غموض أو إثارة، رحلة تستكشف عوالم مختلفة تقارب فيما بينها ساعيةً لمعرفة الحقيقة، تحضر «مصر» في الرواية وأحداث الثورة لكن على الهامش، تحضر لكي تعبّر أيضًا عن واحدة من طرق البحث وكيف تحوّل الحلم إلى كابوس!

لا يشغل «أحمد صابر» نفسه بالأفكار السياسية ولا يناقش في روايته قضايا اجتماعية أو رومانسية، رغم أن هناك حبيبة في قصته والقصة الموازية التي يتعرض لها، وهناك حديثٌ عن الغنى والفقر وطبقات المجتمع، ورغم أن البطل الشاب «إبراهيم» يأتي متأثرًا بانتكاسات الثورة وآلامها، ولكن البطلين في النهاية متوحدان في البحث عن معنى لهذه الحياة، واليأس الذي قد يودي بالبعض إلى الانتحار وكيف يكون الموت في هذه الحالة فرصة لإعادة استكشاف الحياة من خلال هؤلاء الموتى، أبطال الرواية وإن كانوا يعيشون حياتهم العادية، إلا أن صراعهم الأساسي ومحاولات بحثهم عن الحياة يبقى حاكمًا ومسيطرًا على كثير من علاقاتهم وتصرفاتهم مع الناس.

تتداخل في الرواية تقنيات السرد بين «تيار الوعي» الذي يعتمد على تداعيات أفكار الراوي الخاصة، وبين حكايات «المذكرات» التي يجدها البطل في هذا البيت والتي تنقل القارئ إلى عوالم مختلفة بل تنقل الرواية معها من الفكرة السطحية العابرة إلى أفكار أكثر عمقًا يناقش فيها الكاتب فكرة «تناسخ الأرواح»، وهل يحيا الناس حياة واحدة في زمان ومكان محدد، أم أنه من الممكن أن يعيش أكثر من حياة بأكثر من طريقة!

رغم أن الرواية تتحدث عن راوٍ مصري باسمه وصفته، ويتحدث عن وسط البلد والقاهرة والزحام و«أحداث محمد محمود» بإشارات واضحة، فإن الرواية تبقى في صيغتها العامة قابلة لأن تكون معبرةً عن أي مكانٍ في العالم، وفيها شعور البطل باغترابه عن مكانه وزمانه، سواء كان ذلك البطل جنديًا ألمانيًا في الحرب العالمية، أو عاهرة في بلدةٍ غريبة، أو كاتبًا مغمورًا يسعى للنجاح ولكنه يفشل، أو حتى سمكة وجدت نفسها فجأة في شباك صيّاد، تتداخل تلك العوالم كلها وتتماهى ويتنقّل بينهم السرد بخفّة ليرسم عددًا من اللوحات التي تشكِّل عالم الرواية كله، وتضع القارئ في أسئلةٍ عديدة حول أصل الكون والحياة والصراع بين الخير والشر، وأيهما سيكون له الكلمة الأخيرة.

خمس سنوات كافية لأكون ما أنا عليه، وما أنا؟ لا أدري، تربطني بعض الأشياء بالحياة، أحدها سار، لكنه خيطٌ رفيع، ربما ينقطع في أي وقت، قراءة مذكرات مدحت جعلتني خائفًا، أن تدفعني وحدتي للجنون، ربما عليَّ الاتصال بأبي أخبره أني أحتاجه لا أحتاج ماله، أحتاج وجوده، قد يعوّض رحيل أمي، لا أشعر به يتصل ليسمعني وابلًا من الشتائم والمواعظ، هذا دوره في الحياة! بجانب الكتابة لديَّ هوايات أخرى مثل المشي بلا هدف في شوارع القاهرة للتفكير، أفكّر طوال الوقت بلا توقف، إلا عندما أقرأ وانقطع للقراءة لأيام.

أجاد «أحمد صابر» كذلك في رسم شخصياته بحيادية وبساطة فلم يغرق في سرد تفاصيلهم حتى لا ينشغل القارئ بالشخصيات عن حالة الرواية العامة التي تحمل الفكرة على عاتقها بشكل أساسي، وتمثِّل الشخصيات والأحداث عناصر ثانوية في بنائها، لهذا هو لا يهتم كثيرًا بتعريفنا بحياة البطل «إبراهيم» وتفاصيلها، هل هو من بيئة فقيرة أم غنية، لاسيما أنه يسافر إلى باريس بسهولة، ولكنه يعاني ويشعر بالاغتراب ويبحث عن معنى لحياته، وهذا هو ما تركز الرواية عليه، سواء في شخصية البطل أو قرينه صاحب المذكرات «مدحت»، أو الأجنبي «أندروا» وغيرهم.

أما الحوار فقد جاء متماشيًا مع الحالة، ويبدو فيه حرص الكاتب على أن يكون «بالفصحى» لكي يتلاءم مع أفكار الرواية بشكلٍ عام، ورغم عدم وجود حدود تميز بين شخصيات الرواية في الحوار -فالحوار يدور بينهم جميعًا وكأنهم من بيئةٍ واحدة- إلا أن هذا يبدو مقصودًا لأنه ـ كما ذكرنا ـ سيطرة الفكرة الأساسية في الرواية على رسم تفاصيل الشخصيات على هذا النحو.

في لقاءٍ معه على قناة النيل الثقافية يوضّح «صابر» أن هدفه من الرواية لم يكن الحديث عن «تناسخ الأرواح» في المطلق، وإنما كان هاجسه الأساسي توضيح فكرة أن مأساة الإنسان في الحياة ليست مقتصرة على شخصٍ بعينه أو كيفية بعينها يرى الواحد نفسه فيها، وإنما هي الحياة كلها سلسلة من المآسي والمواقف السودواية غير المنتهية، وكل ما علينا هو أن نعرف موقعنا ونحدد مواقفنا لكي نتمكن من مواجهة تلك الصعاب وتجاوزها بأقل قدرٍ من الخسائر، ولعل هذا ما جعله يركز بالفعل على عرض تلك الحكايات التي جاءت متصلة منفصلة في سرد الرواية وما نجح في عرضه وتناوله بشكل غير مباشر إلى حدٍ كبير.

تجدر الإشارة إلى أن «حياة رجل ميت» هي الرواية الأولى للكاتب الشاب «أحمد صابر»، وهي نتاج ورشة الرواية التي أقامتها «دار المصرية اللبنانية» في أكتوبر العام الماضي بإشراف الروائي «عمرو العادلي»، وهي مؤشر قوي إلى أن هناك مواهب شابة عديدة لا زالت في انتظار من يلقي عليها الضوء لتأخذ حقها في التعرف عليها، وإتاحة الفرصة للقارئ لاستكشافها، بعيدًا عن ضجيج الكتابات السطحية وبريق وهم الأكثر مبيعًا.