في 8 أغسطس/ آب 2020 أعلنت سلطات موريشيوس حالة الطوارئ البيئية بسبب تسرب نفطي ضخم يهدد شواطئ الدولة بأكملها. التسريب النفطي سببه ارتطام سفينة يابانية، ترفع علم بنما وتحمل 3800 طنًّا من النفط، بالشعاب المرجانية في بوانت ديسني المُدرجة على قائمة المحميات البحرية العالمية.

ازدادت الأمور سوءًا بسبب ارتفاع أمواج البحر وتدهور حالة الطقس ما عرقل عمليات معالجة التسريب. فرنسا من جانبها أرسلت طائرات عسكرية تقوم بنقل براميل النفط غير المتصدعة من ظهر السفينة، لكن الأحوال الجوية حالت دون استمرار تلك العملية. كما غرَّد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بأنه سيرسل فرقًا ومعدات إضافية لحماية التنوع البيئي المُهدد في موريشيوس.

اقرأ أيضًا: كل ما تريد معرفته حول كارثة تسرب الوقود في روسيا

أمَّا اليابان، المالك الحقيقي للسفينة، فقد قدَّم نائب مدير الشركة المسئولة عن الناقلة اعتذارًا عن الحادث، واكتفى بإبداء أسفه الشديد عما حدث. موريشيوس لم تقنع بالاعتذار ولا بالمساعدات الفرنسية البسيطة فطالبت الأمم المتحدة بالتدخل بشكل فوري لإنقاذ شواطئ البلاد التي تحتوي على حيوات برِّية كثيرة مهددة بالانقراض، لكن الأهم أن تلك الشواطئ هى عصب اقتصاد موريشيوس.

العرب هم من اكتشفوها

موريشيوس دولة صغيرة الحجم، 2500 كيلومتر مربع مساحتها فهى الدولة رقم 169 من حيث الحجم بالنسبة لدول العالم. كما أنها دولة قليلة السكان، يبلغ عدد سكانها 1.5 مليون في أقصى التقديرات، وهم مزيج من ديانات مختلفة وثقافات متعددة، فيها صينيون ومصريون ولبنانيُّون وإنجليز وأفارقة، وجميعم ثنائيو اللغة يتحدثون الإنجليزية والفرنسية بطلاقة. واللافت أن 50% من سكان الجزيرة يتبعون الهندوسية، و30% مسيحيون، و16% مسلمون، والبقية ملحدون ومذاهب أخرى.

نسبة الهنود الضخمة تأتي من استيراد أصحاب المزارع لأكثر من 500 ألف هندي بين أعوام 1835 حتى 1845. السر وراء ذلك أنه لحظة إلغاء العبودية قرر العديد من العبيد العاملين في المزارع الفرار من العمل والذهاب لمدن أخرى، خاصةً أن الحكومات البريطانية فرضت عليهم ضرائب ضخمة لأجل تعويض الخسارة المادية جراء تحريرهم، ما دفع البقية الباقية للفرار، فاضطر أصحاب المزارع للجوء للهنود. فزاد بذلك عدد الهنود من صفر إلى ثلث عدد السكان في عشرة أعوام فقط.

كما أن اللغة العربية تُدرس في المدارس الابتدائية والثانوية منذ عام 1980، إذ تم الاتفاق بين جمهورية مصر العربية وجمهورية موريشيوس على إرسال المدربين المصريين إلى موريشيوس لتدريب معلِّمي المرحلة الابتدائية، ولا تزال هذه الاتفاقية قائمة حتى الآن.

تتألف الدولة من جزيرة موريشيوس كجزيرة رئيسية بجانبها عدد جزر أصغر حجمًا يكونون معًا الدولة. من الناحية الجيولوجية فإن موريشيوس لم تكن موجودة قبل 8 ملايين عام، ونشأت بتتابع تراكم الحمم البركانية الناتجة من ثوران بركانها.

أمَّا التاريخ المعروف للجزيرة فبدأه العرب بكونهم أول من اكتشوفها وأطلقوا عليها «دنيا العروبة»، ثم أتاها البرتغاليون في القرن السادس عشر الميلادي وجلبوا إليها الأفارقة عنوةً من مدغشقر التي تبعد عن الجزيرة بحوالي 860 كيلومترًا للعمل في قطع الأشجار من غاباتها الكثيرة. عام 1710 ملَّ البرتغاليون منها فتركوها، وظلت 5 سنوات بلا وصاية أو محتل، لكن في عام 1715 بسطت فرنسا وصايتها عليها، وأطلقت عليها جزيرة فرنسا.

من الاحتلال إلى الاستقلال

استغل الفرنسيون الجزيرة كمنطلق لمهاجمة السفن البريطانية والمستعمرات الإنجليزية في الهند، لكن ظفر بها البريطانيون في النهاية. وفي عام 1833 حين أصدرت بريطانيا قرارها بتجريم الرق في مختلف ربوع الإمبراطورية البريطانية بدأت موريشيوس كفاحها لتحصل على استقلالها، ونجحت في انتزاعه عام 1968.

بعد استقلالها سيطر حزب العمل على مقاليد الحكم حتى عام 1982، ثم ذهبت السلطة إلى حزب موريشيوس العسكري عبر الانتخابات، وبعد عام واحد انسحب رئيس الوزراء من الحزب العسكري وأعلن عن انتخابات جديدة، كوَّن مع حزبين آخرين تحالفًا تحت اسم الحركة الاشتراكية العسكرية وخاض الانتخابات تحت لواء التحالف وفاز بالانتخابات عام 1983، وظلت الحركة مسيطرة على الحكم بالانتخابات الديموقراطية حتى آخر انتخابات أجريت عام 2019.

والسلطة في الدولة لرئيس الوزراء والبرلمان، أما رئيس الدولة فمنصب شرفي. وفي 2018 هزت أرجاء البلاد فضيحة نالت رئيسة الجمهورية، أمينة غريب، بسبب اتهامها بشراء مجوهرات ومنتجات شخصية قيمتها 25 ألف يورو ببطاقة ائتمانية أهدتها لها منظمة غير ربحية. قال محامي أمينة إنها سوف تستقيل رغم اعتراضها على الاتهامات، لكنها تراجعت عن الاستقالة في أواخر عام 2018 وقررت أن تبقى حتى يحكم القضاء في القضية. خاصةً أن أمينة اعترفت أنها قامت بإنفاق هذا المبلغ من البطاقة لكن دون قصد، وأثبتت التحقيقات أنها، قبل انتشار الخبر، تواصلت مع الهيئة مالكة البطاقة وسددت المبلغ من حسابها الشخصي.

بعيدًا عن التاريخ البعيد، ورغم صغر الحجم وقلة السكان وتنوع الأعراق فقد استطاعت موريشيوس أن تخلق دولةً ناجحة تتفوق على معظم الدول الأفريقية. فهى من أعلى الدول الأفريقية في سيادة القانون، والأولى على أفريقيا في مؤشرات التنمية وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، وصاحبة المرتبة 81 من أصل 182 دولة في النمو الاقتصادي، كما أن معدل إنتاجها المحلي يزداد بمعدل 5.4% سنويًّا منذ عام 1970 حتى عام 2010.

موريشيوس تخذل خبراء الاقتصاد

جيفري فرانكل، الباحث في جامعة هارفارد، يقول إن المعجزة في موريشيوس أن غالبية سكانها جاءوا من أعراق مختلفة لكنهم في اللحظات المفصلية المهمة اختاروا مصلحة الدولة التي يقيمون فيها على حساب مصالح الدول التي جاءوا منها.

هذا الامتزاج يمكن القول إنه هو ما يُشكل حضارة وثقافة موريشيوس، حتى لو كانت موريشيوس اليوم لا تملك هوية ثقافية محددة أو تراثًا حضاريًّا مميز لها. ربما أيضًا ما ساعد تلك الجزيرة الصغيرة على النمو أنها تبعد عن القارة الأفريقية ومعزولة عنها رغم انتمائها اسميًّا لها، فبذلك لا تصل إليها مشاكل القارة كما تستفيد باقتصاديات آسيا. كذلك فإنها لا تشهد صراعات قبلية أو نزاعات عرقية.

سيكون إنجازًا عظيمًا إذا تمكن البلد من التوظيف الفعال لسكانه من دون انخفاض خطير في مستواه المعيشي الحالي. والحق أن توقعات التنمية السلمية هناك ضعيفة.
الخبير الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل جيمس ميد.

وقد خالفت موريشيوس توقعات المراقبين الاقتصاديين أكثر من مرة، فقد راهنوا مراتٍ عدة على أن اقتصادها سوف ينهار خاصةً بعد استقلالها، وحتى حين هبت الرياح المغايرة بسبب جائحة كورونا، لكنها في جميع الحالات كانت تثبت أنها تجربة استثنائية. وقد حافظت على حالة فريدة من المرونة الاقتصادية جعلت العديد من خبراء الاقتصاد يلقبونها بسنغافورة الصغرى.

الإنسان ثروة موريشيوس الأهم

الدولة التي كان نصيب الفرد فيها من الدخل القومي قرابة 600 دولار أثناء الاستقلال بات 6700 دولار اليوم. وحوَّلت اقتصادها المعتمد بشكل دائم وأحادي على إنتاج السُّكر إلى اقتصاد متنوع يعتمد على السياحة والمنسوجات والتكنولوجيا المتقدمة.

كذلك فإن موريشيوس توفر التعليم المجاني للجميع من المراحل الأولى حتى الجامعية، وتوفر حتى مصاريف انتقالهم من منازلهم إلى جامعاتهم ومدارسهم. كما أنها توفر الرعاية الصحية المجانية للجميع بدايةً من الفحوص الأولية حتى إجراء جراحات القلب مجانًا. أمور تبدو بسطية يمكن تنفيذها بقرار رئاسي واحد، لكنها في الحقيقة أصعب مما تبدو. تتضح تلك الصعوبة حين تعلم أن العديد من الدول الأوروبية الغنية لا تتحمل تكاليف التعليم الجامعي وتدعو الأهالي لتحمله.

كما أن الولايات المتحدة لا توفر الرعاية الصحية المجانية للجميع، بل جاهدت طويلًا لضمان قدرة الفقراء فحسب على الحصول على العلاج المجاني، تلك الضمانة التي يكافح دونالد ترامب والحزب الجمهوري لإزالتها. كذلك فإن خبراء الاقتصاد الأمريكيين يقولون إن رغبة الحكومة في تمليك قرابة 70% من السكان لمنازلهم كانت السبب في انهيار السوق العقاري الأمريكي، بينما في موريشيوس 87% من السكان يمتلكون مساكنهم ولم يؤدِّ ذلك لنشوء فقاعة عقارية.

ومن مظاهر تفرد موريشيوس أن قادتها يختلفون عن قادة معظم الدول ذات المساحة الصغيرة التي تحاول معادلة صغرها بالتسلح المبالغ فيه، لكن موريشيوس قررت أن المبالغة في الإنفاق العسكري إهدار للموارد، خاصةً أنها لا ترى ولا تصنع لنفسها أعداءً.

كما أنها أدركت نقص مواردها الطبيعية وعلمت أنه في غياب الثروات الطبيعية فإن سكان الدولة هم أهم ثروة لها، ما يفسر اهتمام الدولة بمجانية التعليم والصحة، كما أن التعليم الجيد الخالي من التمييز والمحاباة هو ما جعل أطياف الدولة المتفاوتة تتآلف وتتكاتف.

لتُقدم بذلك موريشيوس نموذجًا لدول العالم كاملةً أن الاهتمام ببناء الفرد وتطويره هو أساس النمو، وأن التعليم والصحة هما دعامتا التقدم، وأن الجيش الحقيقي الذي يرفع شأن الدولة ويدافع عنها هو الإنسان المُتعلم الواعي الشاعر بامتنانٍ وولاء لبلده على ما قدمه له.