للمدن العربية تحت الحكم العثماني تاريخ كبير من التطور والنمو امتد منذ القرن السادس عشر وصولًا إلى القرن العشرين مع فقد الدولة آخر مدينة عربية تحت إدارتها وحكمها على إثر هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وقد شمل هذا التطور الجانب العمراني الذي ساهمت السياسات العثمانية فيه بشكل مباشر وغير مباشر، مما جعلنا نتسلم هذه المدن مطلع القرن الماضي بشكل ومساحة مضاعفة عما كانت عليه نتيجة لهذا التطور الذي شهدته في القرون المذكورة.

وقد عملت سياسيات الإدارة العثمانية على خلق مناخ عمراني في الأقطار العربية خاصة في القرن السادس عشر فترة التأسيس للحكم العثماني داخل هذه الأقطار، وذلك إما بتوجيهات الولاة للتعمير والبناء، أو بتسهيل حركة التبادل التجاري بين هذه الأقطار والعالم الأوروپي، أو بين الولايات بعضها البعض مما خلق بيئة اقتصادية مستقرة ومزدهرة ساعدت على البناء والتشييد، ويتناول هذا المقال الحديث عن لمحات من تطور ثلاث مدن رئيسية في مصر العثمانية منذ القرن السادس عشر وصولًا إلى نهاية الثامن عشر حسب المعلومات والبيانات المتوفرة لكل مدينة، وهو جانب بحاجة لمزيد من الأبحاث والدراسات التي تغطي فترة تكتظ بالمادة الأرشيفية المحفوظة لدينا بداخل أرشيفات المحاكم الشرعية للدولة.


القاهرة

شهدت القاهرةُ تطورًا عمرانيًا كبيرًا في الفترة التي تقع ما بين الضم العثماني لها عام 1517 حتى مجيء الفرنسيين عام 1798، فقد سجّلت لنا كتبُ التراجم والرحلات أسماء ولاة ساهموا في هذا التعمير عبر تشييدهم للأوقاف في مناطق مختلفة بالمدينة مثل الوالي «سليمان پاشا الوزير» والوالي «سنان پاشا، والوالي» «أحمد پاشا الخادم» في القرن السادس عشر والرحلات التي قام بها الرحالة المسلمون إلى مصر والقاهرة مثل رحلة «محب الدين الحموي» في نفس القرن، بالإضافة إلى قيام أهل القاهرة أنفسهم بتشييد عمائر جديدة على مر القرون العثمانية، ونجد أن عمران المدينة قد زاد بشكل كبير طوال الفترة المذكورة، فيذكر «أندريه ريمون» في كتابه «المدن العربية الكبرى» أن المساحة المبنية للقاهرة المملوكية لم تزد بحال من الأحوال عن 450 هكتارًا، بينما بلغت هذه المساحة في عام 1798م (نقلاً عن خرائط وصف مصر للحملة الفرنسية) 660 هكتارًا؛ أي زاد حجم عمران المدينة أكثر من 50% مما كانت عليه قبل الدخول العثماني.

أما إذا أردنا ذكر هذا التوسع بالأرقام فلدينا إحصائية تشير إلى استحداث 141 مسجدًا ومدرسة وزاوية في الفترة من 1517م حتى 1805م، كما أن لدينا أرقامًا خاصة للمنشآت التجارية والاقتصادية دون المنشآت الأخرى من أسبلة وصهاريج ومساجد وزوايا تساعدنا على فهم التوسع العمراني والاقتصادي للمدينة في القرن العثماني الأول. فمنذ ضم القاهرة في 1517 حتى العام 1600 ارتفع عدد حمامات المدينة من 44 إلى 75 حمامًا، كما زاد عدد المدارس من 73 إلى 95 مدرسة، والوكالات التجارية من ثلاث إلى 104، والخانات من 11 إلى 28 خان، وتراجع عدد القيساريات من 37 إلى 14 فقط، فزادت درجة نمو بعض المناطق الاقتصادية إلى 100% في هذه الفترة.

أما قاهرة القرن السابع عشر فنجد لها وصفًا مفعمًا بالحركة، مليئًا بالتكايا والقصور والجوامع والمدارس والحمامات والعمائر الفخمة والحدائق والبرك والأسبلة في رحلة الرحالة العثماني الشهير «أوليا چلبي» المعروفة بعنوان «الرحلة إلى مصر والسودان وبلاد الحبش (1672-1680)»، [وهو المجلد العاشر من رحلته التي زادت عن أربعة عقود في أقطار الدولة العثمانية وخارجها]، فيصف الحياة الاجتماعية والاقتصادية وعمران القاهرة بشكل موسع، ونجده في العديد من المواضع يقارن عمائر القاهرة بالعمائر الكبيرة للعاصمة إسطنبول، فيأتي ذكره على الأزهر الشريف وعظمته، والمشفى القلاووني الضخم الذي لا نظير له في بلاد الإسلام، الحاوي بداخله على قسم لإنتاج الدواء يُرسل منه إلى أوروپا وإسطنبول. أضف إلى ما سبق أن منطقة «الأزبكية» الشهيرة بقلب القاهرة قد شهدت محاولات تعمير ناجحة تفوقت على المحاولات التي تمت في العهد المملوكي، وأصبحت في العهد العثماني من أجمل وأرقى أحياء القاهرة.


الإسكندرية

فلمّا وصل إلى مصر شرع في تعمير البلاد وتأمين العباد … وإكرام العلماء والإحسان إليهم … وأنشأ عمارة جليلة حسنة، وأبنية عالية نفيسة وقفها في وجوه الخيرات، ومن محاسن آثاره حفر الخليج الذاهب إلى الإسكندرية، قطعَه وعمّره فعاد على أحسن ما يكون، وعمّر الثغر السكندري ومسجدًا وسوقًا.

البكري الصدّيقي في ترجمته للوالي العثماني «سنان پاشا» (1571-1572)

مدينة الإسكندرية كما رسمها الجغرافي العثماني الكبير «پيري ريس» في أوائل القرن السادس عشر.

اتخذت الإسكندرية موقعًا متميزًا على البحر المتوسط مكَّنها من الحفاظ على موقعها الهام طوال عصور متعاقبة، وقد حازت المدينة على أهمية خاصة فترة الحكم العثماني؛ فهي محور من محاور سياسة الدولة الشرقية طوال القرن السادس عشر، ومدينة يقيم فيها عدد كبير من الجاليات الأجنبية، ومقر لممثلي الدول الأوروپية في ولاية مصر بعد أن استطاعت الإدارة العثمانية أن تستعيد مكانة المدينة اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا، وحولتها إلى واحدة من أهم المراكز التجارية في الدولة بعد تعرضها في فترات الحكم المملوكي الأخيرة إلى تدهور وخلل كبير.

وعملت إسطنبول على الاهتمام بالمدينة منذ أن زارها السلطان «سليم الأول» بعد دخوله القاهرة عام 1517، وقد تم الأمر بشكل مُمنهج عبر مجموعة من الخطوات التي انتقلت بالمدينة إلى مرحلة جديدة من الازدهار التجاري بعدما تأثرت بشدة بعد اكتشاف طريق «رأس الرجاء الصالح»، فقامت الدولة بعقد معاهدات تجارية مع بعض الدول الأوروپية وعملها على إحياء الطريق التجاري عبر السويس والإسكندرية الأمر الذي ساعد على عودة المدينة لحيويتها منذ منتصف القرن السادس عشر، كما أن «قانون نامه مصر» الذي وضعته الدولة لتنظيم شؤون الولاية من جميع الجوانب قد شمل في جزئه المالي قوانين ساعدت على حماية موارد الإسكندرية المالية من الفساد الذي من الممكن أن يتطرق إليها نظرًا لأهمية المدينة بالنسبة للدولة.

أما عن عمران المدينة وعمائرها فللوقف فيه الدور الرئيسي والركن الأساسي لتنمية المدينة وتوسعتها [وهو الدور الذي لعبه في الحفاظ على ازدهار الحضارة الإسلامية عامة]، وتحتوي سجلات المحاكم الشرعية في مصر العثمانية على كميات ضخمة من وثائق الوقف التي تغطي جميع مناحي الحياة الاجتماعية والعمرانية والاقتصادية التي كانت تُنظر في المحاكم الشرعية، ومنها وثائق الوقف التي تخصّ الإسكندرية، والتي ساعدتنا على معرفة تطور الرقعة العمرانية للمدينة فترة الحكم العثماني، وتحويل الخرب فيها والخالي إلى مناطق تكثر فيها العمائر والمرافق الخدمية، كما تساعدنا هذه الوثائق بشكل أساسي على إعادة رسم خريطة كاملة وتفصيلية للبيئة العُمرانية المندثرة في المدينة باختلاف أنواع المباني وتنوعها، سواء بوصفها داخليًا أو خارجيًا.

وانقسمت الإسكندرية في العهد العثماني إلى جزء داخل سور المدينة ويعرف «بالثغر»، وجزء خارج السور ويعرف باسم «الجزيرة الخضراء» وهو الجزء الذي شهد محاولات بسيطة للتعمير قبل العهد العثماني، إلا أن تعميره الكبير بناء على ازدياد عدد سكانه هو الذي بلور شكله، وجعله يتخذ موقعًا واضحًا من المدينة في الفترة من القرن السادس عشر حتى نهاية الثامن عشر؛ فقد انتشرت في هذه الفترة فيما خارج سور المدينة وداخله المؤسسات التي أعطت للمدينة شكلًا أوسع، ولدينا بعض الأرقام التي تحصي هذا التوسع في الفترة بين القرن السادس عشر وستينيات القرن السابع عشر، فتم استحداث 35 مدرسة جديدة بالمدينة، بالإضافة إلى 14 جامعًا، و 15 زاوية، و 6 تكايا، و 20 سبيلاً.


رشيد

مدينة الإسكندرية كما رسمها الجغرافي العثماني الشهير «پيري ريس» في أوائل القرن السادس عشر.

تقع رشيد شرق الإسكندرية على مسافةـ 65 كم تقريبًا، وهي من أهم وأغنى الثغور المصرية التي حازت اهتمامًا كبيرًا وخاصًا في العهد العثماني، الأمر الذي جعلها مزدهرة اقتصاديًا وعمرانيًا طوال ذلك العصر، والذي نستطيع أن ندلل عليه بمجموعات هائلة من الوثائق المحفوظة في أرشيفات محاكم مصر الشرعية، والتي تغطي الحالة العمرانية والاجتماعية والتجارية للمدينة فترة الحكم العثماني، والتي تساعدنا بسبب وفرتها ودقتها الكبيرة على وصف أماكن العمائر التي اندثرت بمرور الزمن وأن نقوم برسم دقيق للمدينة في هذه المرحلة.

وتشير الأبحاث إلى أن مساحة المدينة في بدايات الحكم العثماني لها لم تتجاوز عدد 45 فدان، ومنذ القرن السادس عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر تطورت هذه المساحة وزادت لتصل في القرن السابع عشر إلى 55 فدانًا؛ لتقفز في نهاية القرن الثامن عشر إلى 85 فدان؛ أي أن المدينة قد ازدادت مساحتها إلى ما يقارب ضعف مساحتها عن بداية الحكم العثماني، ويرجع السبب في هذا العمران إلى ازدياد حجم السكان في المدينة سواء من أهلها أو من الأجانب المقيمين فيها بسبب الحركة التجارية الكبيرة الموجودة بها، مما أدى إلى استحداث مؤسسات جديدة بأنواع مختلفة لخدمة أهل المدينة مع ازدياد أعداد هذه المؤسسات بمرور القرون.

منزل الحاج «إسماعيل رمضان» الذي بُني في القرن الثامن عشر في العهد العثماني، وهو من الآثار القائمة حتى الآن برشيد.

أما عن شكل المدينة وعمرانها في العهد العثماني فللرحالة الأجانب الذين زاروها في القرن السادس عشر والسابع عشر وصف لها من حيث اتساعها وعمائرها وحجم التجارة الموجودة بها، وهي شهادة تضاف إلى ما لدينا من وثائق عن الحالة العمرانية المتزايدة للمدينة في هذه القرون، والتي ساهم في تنميتها الولاة العثمانيين والأهالي، ولإحصاء سريع لعدد العمائر الجديدة في القرون الثلاثة الأولى بناء على ما توصلت إليه [وهي أرقام قابلة للزيادة بمزيد من البحث] نجد أنه تم استحداث 7 مساجد وجوامع بالمدينة نجد لهم ذكرًا مُفصلاً في وثائق الأوقاف الموجودة لدينا، منهم جامع يُعرف باسم «جامع زغلول» أو «الجامع الكبير» ما زال باقيًا إلى الآن وهو من رموز المدينة، وهو جامع تم استحداثه على اﻷغلب في القرن السادس عشر أو ربما في الفترة المملوكية المتأخرة، وتم إضافة جزء آخر إليه في القرن السابع عشر لتفوق مساحته مساحة «الأزهر الشريف» في القاهرة آنذاك، كما نجد عدد الوكالات التجارية التي تتنوع بضائعها والتي وصلت إلى 14 وكالة جديدة، منهم وكالة وقف الوالي «سليمان پاشا الخادم» عام 1530، ووكالة وقيسارية الوزير «علي پاشا» والي مصر عام 1549، كما نجد 7 حمّامات عامة بالمدينة، ومستشفى واحدا كانت قائمة من العصر المملوكي، ولكنها قد اندثرت وخرجت عن الخدمة فتم إعادة افتتاحها للعمل مرة أخرة عام 1589.

أما عن أنواع العمائر الأخرى فنجد أن المدينة كانت ممتلئة بالصهاريج والمَعاصر والطواحين، وكانت أسواق الحرفيين والتجار فيها بالعشرات، وكَثُر بها الزوايا وتعددت بها خانات إيواء المسافرين، وهي بشكل عام بحاجة إلى مزيد من بحث؛ ليخرج إلينا مزيد من المعلومات التي نقفُ فيها بشكل أكثر دقة وتفصيلاً عن حالة المدينة حتى نهاية القرن الثامن عشر.

المراجع
  1. الإسكندرية ومكانتها الاستراتيجية في العصر العثماني، سيد محمد السيد محمود، الطبعة الأولى، مكتبة الآداب، القاهرة، 2006.
  2. الإسكندرية في العصر العثماني: الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ناصرة عبد المتجلي إبراهيم، الطبعة الأولى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2013.
  3. البشر والحجر: القاهرة في القرن السادس عشر، هدى جابر، الطبعة الأولى، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2010.
  4. رشيد: النشأة الازدهار الانحسار، إشراف جليلة جمال القاضي و محمد طاهر الصادق و محمد حسام إسماعيل، الطبعة الأولى، دار الآفاق العربية، القاهرة، 1999.