محتوى مترجم
المصدر
Open Democracy
التاريخ
2018/04/25
الكاتب
كريس كارلسون
يكشف المشهد الأخير في فنزويلا عن حالة يأس متزايدة. في مقاطع الفيديو على الإنترنت ترى الناس يطاردون الماشية في الحقول لذبحها لأخذ لحومها، بينما يلجأ آخرون لأكل الكلاب والقطط في شوارع كاراكاس.أصبحت الاحتجاجات المرتبطة بالأغذية ونهب المتاجر الأكثر انتشارًا، بينما يتدفق الآلاف عبر الحدود إلى البلدان المجاورة.على الرغم من كل هذا، غضّ مادورو والمدافعون عنه من اليساريين الطرف عن هذا الوضع. يزعمون أن الاتجاه العام للتقارير مبالغ فيه، وأن الوضع ناتج عن الحرب الاقتصادية التي تقودها الولايات المتحدة والتي تهدف إلى تدمير حكومة مادورو. يعترف آخرون بأن مادورو يستحق بعض اللوم، لكنهم يزعمون أنه مقيد بسبب انخفاض أسعار النفط والتخريب من المعارضة اليمينية. وكما يؤكدون، لا يزال دعم حكومة مادورو كحصن ضد الإمبريالية والنيوليبرالية هو الخيار الأفضل.مع ذلك، وفي حين سعت واشنطن وحلفاءها المحليين منذ زمن طويل للإطاحة بالحكومة الفنزويلية، فإن نظرة أقرب إلى الأزمة الحالية تظهر أن الحرب الاقتصادية المفترضة لا علاقة لها بها، ولا علاقة كبيرة بأسعار النفط المنخفضة.في الواقع، السبب الأساسي لزيادة الجوع واليأس في فنزويلا اليوم هو السياسات الحكومية السرية جدًا، الخاضعة لسيطرة الرئيس مادورو نفسه، والتي يمكن ضبطها بسهولة إذا ما رغب في ذلك. لكنها لا تزال قائمة، لأن المراقبين للحكومة يستفيدون منها بشكل هائل. بينما يصارع المواطنون الفنزويليون العاديون للبقاء على قيد الحياة يملأ مادورو وأصدقاؤه جيوبهم بدولارات النفط.بدلًا من الدفاع عنه، والتقليل من حجم الكارثة، ينبغي أن يفهم اليسار كيف وصل إلى هذه النقطة، وكيف كان من الممكن تجنبها.

اقرأ أيضًا: دروس في السياسة: تراجيديا المعارضة في فنزويلا


عصابة من اللصوص

الرئيس الفنزويلي «نيكولاس مادورو»
في قلب أزمة فنزويلا يوجد نظام مراقبة العملة، الذي بدأ في عهد هوجو شافيز كوسيلة للحد من الوصول إلى العملات الأجنبية وضمان ما يكفي من الدولارات لاستيراد البضائع ذات الأولوية. مثل المحاولات السابقة في أسعار الصرف الثابتة، وُجد بعض الفساد والتعسف من هذا النظام. والذي لم يحدث إلا بوصول مادورو إلى السلطة في 2013، حينئذ بدأت الأمور بالفعل في الانهيار.يقول «هيكتور نافارو» وزير شافيستا السابق، وزعيم الحزب الاشتراكي السابق:قال وزير المالية السابق لشافيز، خورخي جيورداني، الشيء نفسه، حيث يقدّر أن نحو 300 مليار دولار اختُلست بهذه الطريقة. كان نافارو وجيورداني لفترة طويلة من الدائرة المقربة لشافيز وركنان أساسيان لحكومته إلى أن انتقدوا مادورو في 2014 وتمت إقالتهم.كما حذر ماريو سيلفا، المختص بهذا الشأن منذ فترة طويلة، من هذا الأمر في 2013، مدعيًا أن مجموعة من المسئولين الذين يترأسهم نائب الرئيس ديوسدادو كابيلو في ذلك الوقت كانوا قد حازوا اليد العليا داخل الحكومة، ويستنزفون احتياطيات الدولة من الدولار.جعل هذا إقالة جيورداني في عام 2014 جديرة بالذكر، حيث كان المسئول الرئيسي عن الحفاظ على نظام العملة تحت المراقبة، وإجراء تعديلات دورية لتجنب الاختلالات الرئيسية. وبمجرد أن نُحّي جيورداني، سُمح للعملة بالارتفاع بشكل مبالغ فيه، مما أفاد كثيرًا «عصابة اللصوص» ومخططاتهم للصرف الأجنبي.يسير المخطط الأساسي على هذا النحو؛ أولئك القادرون على الوصول إلى العملات الأجنبية بالسعر الرسمي الذي تحدده الحكومة يحصلون عليها، ثم يلتفتون ببساطة ويبيعونها في السوق السوداء، أو يودعونها في حسابات مصرفية في الخارج. كلما زاد الفرق بين سعر السوق السوداء والسعر الرسمي، أصبح المخطط أكثر ربحية.منذ 2013، رفض مادورو إجراء أي تعديلات كبيرة على سعر الصرف، ما سمح للتضخم المتفشي باستمرار بتقليص القيمة الحقيقية للعملة. أصبح معدل ارتفاع الدولار في الشارع الآن أعلى بـ آلاف المرات من السعر الرسمي، مما خلق حوافز ضخمة للأنشطة غير المشروعة. مما أدى لاختفاء مئات الملايين من الدولارات في سلع لا يتم استيرادها أبدًا، وبنية تحتية لم تكتمل أبدًا، ومحافظ الشركات غير الموجودة. وبدلًا من استخدام الدولارات النفطية لدفع ثمن الاحتياجات الأساسية، يهرب المسئولون الحكوميون وشركاؤهم بها ببساطة، تاركين الفنزويليين العاديين للتعامل مع النتائج.برزت العديد من الأمثلة في الأشهر الأخيرة، فالقاسم المشترك هو أن المتورطين عادةً ما تكون لديهم علاقات وثيقة بحكومة مادورو، وهو عامل ضروري للحصول على الدولار بالسعر الرسمي. استفاد الرئيس مادورو ونائبه العيسمي من هذه اللعبة. ووفقًا للمدعي العام السابق، فإن شركة يملكها العيسمي منحت 120 مليون دولار لاستيراد الأغذية من المكسيك، بينما ذهبت 340 مليون دولار أخرى إلى شركة لها علاقات مع مادورو.

اقرأ أيضًا: فينزويلا حيث يفوق احتياطي الفساد احتياطي النفط

بشكل عام، استلمت الشركتان ما يقارب نصف مليار دولار بسعر صرف ليس سوى 1% من القيمة الحقيقية للدولار في ذلك الوقت. وهذا هو سبب أن مادورو والعصابة لا يهتمون بإصلاح العملة المشوهة، فهي تسمح لهم بتحويل كميات هائلة من الدولارات النفطية إلى جيوبهم.

تقييد الفقراء

مع اختلاس الكثير من عائدات الدولة من خلال نظام العملات، أو إرسالها إلى الخارج على شكل مدفوعات ديون، يوجد القليل من الأموال المتبقية لاحتياجات الفنزويليين العاديين. لكن بدلًا من إصلاح العملة، أو التخلف عن سداد الديون، كان الحل لمادورو هو فرض التقشف على البلاد.منذ 2012، خُفّضت الواردات بأكثر من 65%، حتى في ظل النقص المنتشر. وخُفّض الإنفاق الاجتماعي بشكل كبير، حيث بلغ إجمالي الصرف نسبة أقل من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بالسنوات النيوليبرالية في التسعينيات. كانت نتائج هذه التخفيضات متوقعة جدًا، ما تسبب في انهيار النظام الصحي، والنقص الحاد في الغذاء والدواء، وتزايد وفيات الرضع والأمهات، وآلاف الوفيات التي كان من الممكن منعها.خُفّضت الأجور بنسبة تزيد عن 90% منذ 2013، حيث قابل مادورو التضخم الكبير بارتفاع ضئيل في الأجور. وخفض الحد الأدنى للأجور الوطنية من حوالي 300 دولار في 2012 إلى أقل من 5 دولارات في 2018، ما جعل نصف سكان فنزويلا يجاهدون للحصول على 5 دولارات فقط في الشهر!كما هو متوقع، تسبب هذا في زيادة الجوع و سوء التغذية. يتدافع مئات الآلاف من الفنزويليين الآن على البلدان المجاورة بحثًا عن الضروريات الأساسية، في حين يحاول آخرون خوض رحلة خطيرة وغالبًا ما تكون مميتة بالقوارب إلى الجزر القريبة.في الوقت نفسه، يغادر العمال وظائفهم بشكل جماعي، حيث أصبحت رواتبهم ضئيلة. تعاني قطاعات الاقتصاد الرئيسية الآن من نقص حاد في الإمدادات، مما يؤدي إلى تفاقم أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخ فنزويلا.

مجموعة من الأعذار

يشير مادورو والمدافعون عنه إلى عدد من العوامل لإلقاء اللوم في هذا الوضع، من الحرب الاقتصادية، إلى أسعار النفط المنخفضة، إلى العقوبات الأمريكية. لكن أيًا من هذه الأعذار لا تصدق. في الواقع، يتابع الرأسماليون ومهربو المواد الغذائية المتهمين بـالحرب الاقتصادية الحوافز التي وضعتها سياسات الحكومة، وغالبًا ما يكونون على اتصال مباشر مع بعضهم البعض. وتبين أن بعض أسوأ تجار المخدرات هم أفراد داخل الجيش.في هذه الأثناء تتحكم الحكومة وحدها في سعر الصرف وتخصيص دولارات النفط، مما يجعل هذه المشكلة سهلة الحل. لكن على الرغم من الدعوات المستمرة لإصلاحه، أصر مادورو على الحفاظ على نظام العملة، واستمر في تسليم الدولارات النفطية لأولئك الذين يبددون أموالهم. اقرأ أيضًا: لماذا تقف فنزويلا على حافة الانهيار؟ لم يؤدِ انخفاض أسعار النفط إلا لتفاقم ما كانت تتسبب فيه سياسات مادورو. وفي الوقت الذي انخفضت فيه أسعار النفط في أواخر 2014، تقلص الاقتصاد بالفعل لثلاثة أرباع متتالية، و انخفضت الأجور بالفعل بنسبة 80%، و الواردات بنسبة 25%. بدأ التضخم المتزايد ونقص المواد الغذائية وتشويه العملة في جذور الأزمة في أواخر 2012، أي قبل عامين من هبوط أسعار النفط.ينطبق هذا أيضًا على العقوبات الأمريكية، التي كان لها تأثير ضئيل إلى أن فرض ترامب عقوبات أوسع العام الماضي. بحلول ذلك الوقت، كان اقتصاد فنزويلا في حالة سقوط حر لأربع سنوات متتالية.بعبارة أخرى، من غير المنطقي أن نحاول توجيه أصابع الاتهام إلى الأمور التي لم تحدث حتى بعد أن كانت الأزمة جارية. الحقيقة هي أن سياسات مادورو دمرت اقتصاد فنزويلا أكثر بكثير من اقتصاد واشنطن أو المعارضة التي ما كان يمكن أن تحلم بها على الإطلاق.

دروس لليسار

ظهرت عصابة كانت مهتمة فقط بالحصول على إيرادات النفط، لصوص لا أيديولوجيون.
الرئيس الفنزويلي «نيكولاس مادورو»

كان لانهيار فنزويلا عدد من الدروس المهمة لليسار، لكن لنتمكن من فهمها يجب أن نلقي نظرة عادلة على ما حدث من خطأ. بينما من الواضح أن مادورو هو المسئول عن الكارثة الحالية، ساهمت سياسات شافيز الاقتصادية أيضًا بأساليب مهمة.تورط نهج شافيز الاقتصادي عمومًا في الاستيلاء على القطاعات الاستراتيجية، مع تصور أن ضعف الاستثمار من القطاع الخاص يمكن علاجه من خلال سيطرة الدولة. كثيرًا ما تصادر الشركات لمجرد نزوة، وتباشر الدولة مساعيها دون تفكير أو تخطيط دقيق. ما أدى إلى بيروقراطية متضخمة، وفساد متزايد، وتراجع طويل الأمد في القطاعات الرئيسية. غالبًا ما ينتهي الأمر بالمؤسسات المملوكة للدولة في أيدي البيروقراطيين الفاسدين الذين يضمونها لأملاكهم، ثم يستنزفونها.كان أحد الأمثلة الرئيسية لهذا في 2010، عندما شن شافيز هجومًا على الزراعة عبر مصادرة مئات المزارع والصناعات الغذائية. وبالنظر لأن هذه المؤسسات كان غالبًا رأس مالها لا يكفي وغير منتجة، وكان تدخل الدولة ضروريًا. لكن سُلّمت معظم الشركات إلى البيروقراطيين الذين لديهم القليل من الاستعداد أو الرقابة. وكانت النتيجة سوء الإدارة الكاملة، ومن ثم الانخفاض الحاد في إنتاج الغذاء.الدرس المستفاد هنا هو أن استيلاء الدولة على قطاعات رئيسية من الاقتصاد ليس بالضرورة فكرة ناجحة في البلدان الفقيرة ذات المؤسسات الضعيفة. يجب أن تأخذ هذه الأنواع من التدخلات في الحسبان قدرة الدولة على إدارة الشركات دون تشغيلها في الميدان، وخاصة في القطاعات شديدة الأهمية بالنسبة للاقتصاد الوطني. ربما كان أحد البدائل هو السيطرة على العمال، وفي الواقع، كان هناك تكاثر للمنظمات المجتمعية والعمال في عهد شافيز. لكن لم تفعل الحكومة هذا في معظم الحالات، وهنا يكمن درس مهم آخر لليسار.في حين أن زيادة قوة العمال والسيطرة على الإنتاج يجب أن تكون هدفًا لأي مشروع اشتراكي، لكي ينجح العمال والحركات الاجتماعية في بناء قوة تنظيمية مستقلة عن الأحزاب السياسية والدولة، في فنزويلا، كانت الحركة المجتمعية مبادرة ترعاها الدولة، مع المجتمعات المحلية بعد توجيهات حول كيفية التنظيم من أعلى. حُدّد مدى قوتهم وسيطرتهم على الإنتاج من قبل الحكومة، وليس العمال.حاليًا، تستخدم البلديات كآليات للرقابة و السيطرة وليس كآليات تحرر. يحصل الأعضاء على منافع ومزايا معينة من الحكومة، لكن بمجيء وقت الانتخابات أجبروا على التصويت لمرشحين حكوميين لتجنب فقدان تلك المزايا.أخيرًا، يوجد درس مهم حول مسألة الديمقراطية الليبرالية. على الرغم من تبرير شافيز لانتقاداته للديمقراطية التي كانت موجودة في البلاد قبل 1998، في محاولة لإصلاح هذا النظام، فإنه انتهى بخلق شيء أسوأ. وعلى الرغم من أن الدستور الجديد، والديمقراطية التشاركية الأعظم، والنظام الانتخابي النزيه كانت كلها من الإنجازات الرئيسية، في الوقت نفسه، كانت جميع أجهزة الدولة تقريبًا مجتمعة مع الموالين للحزب والإمعين الذين كانوا أكثر قيمة؛ لطاعتهم لا لكفاءتهم.أصبحت المؤسسات الجديدة الواعدة التي أنشأها الدستور ببطء أكثر قليلًا من الأختام للأوامر الصادرة عن السلطة التنفيذية. عندما مات شافيز وامتلكت عصابة اللصوص التابعة لمادورو اليد العليا داخل الحكومة، لم يعد هناك أي ضوابط على سلطتهم، فسمح لهم غياب المؤسسات المستقلة بإقصاء معارضين داخليين، وتحييد المجلس، وإجراء انتخابات مزورة، وتشكيل هيئة قوية جدًا تدير البلاد الآن كما يشاءون.بدلًا من جعل الديمقراطية الليبرالية أكثر ديمقراطية، يقصي نظام مادورو الآن الصحفيين، ويسجن قادة النقابات، و يقبض على النشطاء، و يقتل المجرمين، ويطلق قنابل الغاز المسيل للدموع على الفقراء والجوعى. جردت ما سبق من أنظمة انتخابية ناجحة الآن من جميع الضمانات التي كفلت إجراء انتخابات نزيهة، مما سمح لمادورو وعصاباته بإثارة كل شيء في مصلحتهم.يجب أن يكون كل هذا بمثابة درس مهم لليسار على الرغم من القيود الكبيرة للديمقراطية الليبرالية، فوجود بعض الضوابط والتوازنات أفضل من اللاشيء. لو سمح شافيز بدخول المؤسسات المستقلة، ووضع ضوابط على سلطة الرئاسة، فربما لم تكن فنزويلا في حالة الفوضى التي هي عليها اليوم.بينما تتجه البلاد إلى انتخابات أخرى مشكوك فيها، يجب ألا يدعم اليسار نظام مادورو الفاسد والاستبدادي، ولا يدعم المعارضة اليمينية الموالية للولايات المتحدة. يجب أن نوجه دعمنا وتضامننا مع الشعب الفنزويلي وحقه في تقرير مصيره بديمقراطية. وهو الحل الوحيد الممكن للأزمة.