مجتمعٌ قوامُه أفرادٌ أحرارٌ، يُسهمُ كلٌّ منهم من خلال عمله فيه، في تحرير حيوات الآخرين وإغنائها، وهو البيئةُ الوحيدةُ التي يستطيعُ كُلُّ فردٍ فيها فعليًّا أن ينمو ويزدهر إلى أقصى مدى له

جون ديوي [1]


في مقال سابق تناولتُ جانبًا من اهتمام عيسى علي العاكوب بالدراسات الصادرة عن الرومي في الغرب، ونقله لصورة وافية لاهتمام الدرس الاستشراقي في فرنسا وألمانيا والهند ولندن بمولانا جلال الدين. في هذا المقال سأركز على عرض جهود العاكوب في نقل المتن المولوي الفارسي إلى اللغة العربية.

ترك مولانا نوعين من الآثار الأدبية الصوفية؛ آثارًا منثورة، وأخرى منظومة.أما المنثورةُ فهي: الرسائل، والمجالس السبعة، وكتاب فيه ما فيه. وهي الآثار التي سيعرض المقال لنقل العاكوب لها إلى اللغة العربية.


1- رسائل مولانا جلال الدين إلى العربية

خمسين ومئة رسالة من رسائل مولانا أنشأها مولانا أو حُررت بتكليف منه باللغة الفارسية، وهي اللغة الدارجة في أوساط المثقفين في قونية وقتئذ، وقد اعتمد العاكوب في ترجمته على نسخة العلامة المحقق توفيق سبحاني، وقد صدرت عن مركز نشر دانشكاهي في طهران عام 1992م.

تُظهر الرسائل البُعد الأخلاقي لشخصية مولانا جلال الدين الرومي، إذ يستعمل كل ما أوتي من أدوات التأثير؛ لكي يحلّ مشاكل الناس البسطاء، متمثّلاً بالخلق المحمدي الرفيع «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».

يهتم مولانا في الرسائل بأخلاق مخاطبه واعتقاده وعلاقاتِه الإنسانية، وعمل الخير الذي يصدر عنه وحالاته النفسية، ويقدّم له في مطالع الرسائل، عدا أسماء المقامات والدرجات، كل كلمة تناسب تشخيص هذه الأمور، يختارها ويكتب الوصف الحقيقي لمخاطبه.

نموذج من مقدمات الرسائل:

الرسالة الثامنة عشرة بعد المئة [إلى مظفر الدين أمير العالم جلبي، في رعاية احترام حسام الدين جلبي]

جعل الله رأسك أخضر، وشفتَك ضاحكةً على الدوام، وجعل قلوب أهل الدنيا مسرورة بك.

السرورُ الذي ليس معه عِثارٌ، والسُّكرُ الذي ليس معه خمارٌ، ملازمان لابن العزيز، فخر البنين، مظفّر الدين، أظفره الله على كلّ عدو من الجنّة والناس، وأيّده وسدده وأرشده، ووفقه لما يحب ويرضى.

نموذج من الرسائل:


2- المجالس السبعة

كذلك نقل لنا العاكوب كتاب «المجالس السبعة» وهو في الحجم أقل من الرسائل إلا أن له أهمية كبيرة، يعود إليه العاكوب كثيرًا في بحثه عن «المصادر الإسلامية لثقافة جلال الدين الرومي» وهو بحث يجتمع فيه المحب والعالم والناقد والأديب، فهو مختلف نهجًا وكتابة عن كثير مما يُكتب عن الرومي اليوم، وقد أعاد العاكوب طبعه في كتابه المجموع في مجلدتين «أوراق من دفتر الروح».

كُتبت بعض المجالس أو المواعظ ووالد مولانا جلال الدين لا يزال على قيد الحياة، وتبدأ المواعظ بتصدير عربيّ، متبوعٍ بمناجاة بالفارسية، فالمجلس نفسه يُقدّم تفسيرًا لمعنى آية من آيات الذكر الحكيم أو تفسير حديث نبوي شريف، أسلوب المواعظ باللغة الفارسية بسيط للغاية، لكن المقبوس من العلوم العربية والإسلامية يُظهر إحاطة الرومي بهذه العلوم، وتشتمل المواعظ على مقبوسات من أشعار سنائي والعطّار، وشعراء آخرين.

حسب رواية الأفلاكي، يقول مولانا: «لو بقيتُ في دياري لصنّفتُ كُتبًا وقدّمتُ مواعظ. ولكن لأن لأهل ديار الروم ولعًا بالشعر، يممتُ شطر الشعر مضطرًا». ومن أسباب انصرافه عن تقديم العظات ما قاله أيضًا: كنتُ زاهد دولة.. كنتُ واعظ مِنبر.. فجعل القضاء قلبي عاشقًا مصفّقًا. وبرغم أن مولانا ترك الوعظ بعد ملاقاة شمس تبريزي يظهر من القرائن أنه بعد ملاقاته شمسًا كان يعتلي منبر الوعظ مستجيبًا لرغبة علية القوم وطلب صلاح الدين زركوب.

نموذج من المجالس:

سيّدُ المرسلين مصباح السماوات والأرضين، صلى الله عليه وسلّم، كان في يومٍ من الأيام جالسًا وسط الأصحاب، التفت نحو حارثة وقال: يا حارثة، كيف نهضت اليوم من نومك؟ قال حارثة: نهضتُ مؤمنًا. مؤمنًا صادقًا، مؤمنًا حقيقيًّا، مؤمنًا من دون شكّ، ومن دون تقليد!

ذلك المكانُ الذي يجلسُ فيه الأحرارُ، جلسنا فيه؛ وذلك العمل الذي اختاره الأبرارُ، اخترناه.

رأينا أننا في عهده مئة نوعٍ من الوبال، فاشترينا أنفسنا منها جميعًا بحياةٍ واحدةٍ.

كان لنا جميعًا قصدٌ إلى رحمة الحقّ وغفرانه، والمنّة لله، أننا وصلنا إلى مقصودنا.

قال الرسول صلى الله عليه وسلّم: “إن لكل حقٍّ آية، ولكل حقيقة علامة؛ فما آية إيمانك؟”.

فقال: يا رسول الله، ابتعدتُ عن الدنيا؛ لأنني رأيتُ الدّنيا شكرًا للغرور، وحجابًا للنور. في النهار صبرتُ على الظّمأ، وفي الليلِ استيقظتُ، وفي هذه الساعة المحددة أرى عرش الرحمن بعين الظّاهر هذه وسَطَ الجنةِ يزور بعضُهم بعضًا، ويعانقُ بعضهم بعضًا، وأرى أهل النار بهذه العين يُعْولون، وأسمعُ صياحهم بأذن الظاهر.

قال الرسول صلى الله عليه وسلّم: (أصبت فالزَم): يا فتى، وجدت الطريق الصحيح. هذا الذي تراه تمسّك به؛ ابتغاء أن يغدو هذا الذي تراه مقامًا لك، ومُلكًا لك.


3- «فيه ما فيه»!

الخلقُ عيال الله فأفضلهم أنفعهم لعياله. (وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله). قبل أن يأخذ الأجلُ الموهوبَ، لا بد أن تعطي كل عطية جديرة بالعطاء. (هل أدلّكم على تجارة تنجيكم). إذا كنت الآن في هذا الوقت ههنا تتأذى وتتألم، فما أجمل رأس المال والربح اللذين ستراهما غدًا من ذلك الأذى والألم. فأكرم ذلك الضيف العُلويّ لكي تجده مضيفًا عندما تخرج من هذه الدنيا. أن تستعبد حُرًّا واحدًا بإحسانك خيرٌ لك من أن تُحرّر ألف عبدٍ.

إن عملاً هامًا من أعمال الرومي يُقال إنه تُرك دون عنوان أو كان عنوانه «فيه ما فيه» جعل كاتبًا مصريًا كجمال الغيطاني يفتتن بالعنوان البديع وحده فتنة تفوق ما أسعده من قراءة نصوص الكتاب، التي نقل منها أجزاء مطولة في مقاله عن الكتاب بعد أن ترجمه العاكوب ونشره، لا يقلّ الكتاب بالفعل أهمية عن «المثنوي» -الذي أخبرني أحد طلاّب العاكوب في سوريا أنه قرأ له (مختارات) مترجمة منه، لكنني لم أعثر عليها للآن رغم حرصي على جمع كل ما كُتب عن الرومي بالعربية منذ بداية الاهتمام به في الشرق- ظن الأستاذ العاكوب أن الكتاب قد تُرجم للمرة الأولى، لكنه قد تُرجم في مصر في أطروحة جامعية في قسم اللغات الشرقية، كما صدرت ترجمة له عربية عن المجلس القومي للترجمة، إلا أن عمل العاكوب وترجمته يفوق ما قُدّم في مصر، وهي ردّة قد تُحزن العاكوب نفسه الذي كتب دراسة عن «أنين الناي» أشرنا إليها في بداية هذه الورقة يقارن فيها بين ترجمة سورية لنص هذه الأبيات وترجمة مصرية، كان الإتقان وحُسن التقديم من حظّ الترجمة المصرية.

فيه ما فيه، أو أحاديث الرومي تقدّم سجلاً لواحدٍ وسبعين حديثًا ودرسًا قدّمها مولانا الرومي في مناسبات مختلفة، يناقش مولانا في هذا الكتاب مسائل أخلاقية وصوفية، ويفسّر بعض الآيات والأحاديث، وسيجد القارئ للكتاب تشابهًا بين بعض ما ورد فيه من قصص وأفكار وما جاء على نحو أوسع وأعمق في كتابه (المثنوي).

نموذج من كلام مولانا في كتابه «فيه ما فيه»:

-لم يفتح المصطفى صلوات الله عليه مكة والبلاد المحيطة بها لأنه كان محتاجًا إليها، فتحها في سبيل أن يعطي الحياة لجميع الناس ويكرمهم بالنور، هذه كفّ معودة على أن تعطي ما هي معودة على أن تأخذ! الاولياء يحتالون على الخلق لكي يعطوهم العطاء، لا ليأخذوا أي شيء منهم.

– في حضرة الحق لا مكان لاثنين.. من أنا .. أنت تقول أنا.. وهو يقول أنا .. فإما أن تموت أمامه وإما أن يموت أمامك حتى لاتبقى الثنائية!

أما أن يموت هو سبحانه فأمرٌ غير ممكن لا في الواقع ولا في التّصور كيف ذلك وهو الحي الذي لايموت؟ إن للحق من اللطف والرحمة أنه لو كان ممكناً أن يموت من أجلك لمات، حتى تزول الثنائية. والآن إذ الموت في حقه تعالى غير ممكنٍ، مُتْ أنت حتى يتجلى عليك، وتزول الثنائية عندما تربط طائرين حيين معًا، برغم وجود التجانس بينهما وتحول جناحيهما إلى أربعة أجنحة، لايطيران، لأن الثنائية قائمة، أما إذا ربطت طائراً ميتاً بطائرٍ حيٍّ فإن الطائر الحي يطير لأن الثنائية زالت.

إن للشمس من اللطف مايدفعها إلى أن تموت أمام الخفاش، ولما كان ذلك غير ممكن، فإنها تقول: أيها الخفاش وصل لُطفي إلى كل شيء، أريد أن أحسن إليك أيضًا، مُتْ أنت لأن موتك ممكن لكي يغدو لك حظ من نور جلالي، وتخرج عن خفّاشيتك، وتغدو عنقاء قاف القرب.


[1] نقلاً عن بحث ورقة غلا محيدر آسي، ديوي وإقبال في النفس والمجتمع الأخلاقيين، دراسة مقارنة في فكرهما، ترجمة العاكوب.