بينما يؤدي محمود المليجي مشهده العبقري والأخير من فيلم الأرض عام 1970، كان جمال عبد الناصر مفاخراً الجماهير بأن مصر حققت أعلى إنتاجية للقطن في تاريخها مذ بدأت زراعته في عهد محمد على.

أعلن ناصر الإحصائيات بلهجة ملؤها العزة، تلك العزة التي يُولدها الشعور بالقوة والاعتماد على الذات، ولو علم ما سيحل بمحصوله الأثير بعد وفاته لامتلأ صوته حزناً وأسى.

بدأت القصة عام 1953 عندما شكا أيزنهاور لعبد الناصر معاناة مزارعي القطن في ولايات الجنوب الأمريكية ممن لا يقوون على منافسة القطن المصري في الأسواق العالمية، طالباً منه تخفيض إنتاج القطن في مصر، لم يرد عبد الناصر من شدة ذهوله، وأدرك حينها أن القطن قوة عليه تعزيزها وهو ما حرص عليه بالفعل.

توفي ناصر، واتشح الذهب الأبيض بالسواد، فقد بدأت للتو معاناته مع من خلفوا ناصر في الحكم حتى الآن،لينخفض إنتاج القطن من 10.8 مليون قنطار عام 1970 إلى 1.4 مليون قنطار في 2017، كما تقلصت المساحة المزروعة من 3 ملايين فدان إلى 220 ألف فدان خلال نفس الفترة.

مع موافقة البرلمان بشكل نهائي على تعديل بعض أحكام قانون الزراعة، بهدف تقنين زراعة محاصيل معينة لترشيد استهلاك المياه، تملكني شعور بالخوف وأحسست أن الخطر يدب طريقه نحو الأرز وقصب السكر والذرة ناهيك عن القمح الذي يعاني بالفعل.


أوضاع القمح

الأرقام في ثوبها المطلق سلاح ذو حدين، ليس المهم هو الرقم، ولكن كيف يتم توظيفه وقراءته.

بالنظر إلى الشكل (1) سنجد أن مصر أنتجت 9.3 مليون طن قمح عام 2016، ولما كان الاستهلاك الفعلي 19.6 مليون طن في نفس العام، فإن ذلك يعني أن مصر تواجه عجزاً قدره 10.3 مليون طن وهو الفرق بين الإنتاج والاستهلاك، تغطي مصر هذا العجز باستيراد القمح من الخارج.

إلا أن ذلك العجز ينخفض، دقق جيداً في الجزء المتجه لأسفل من الرسم، ستلاحظ انخفاض العجز من 10.5 مليون طن عام 2010 إلى 10.3 مليون طن عام 2016، انخفاض بسيط لكنه إيجابي، يرجع هذا الانخفاض إلى أن وتيرة زيادة الإنتاج كانت أعلى من وتيرة ارتفاع الاستهلاك، ففي حين زاد الإنتاج بـ 29% بين 2010 و2016 لم يرتفع الاستهلاك سوى بـ 10.7% فقط، وهو ما يعنى أننا نسير في الاتجاه الصحيح وأن الاكتفاء الذاتي يلوح فى الأفق ولو من بعيد.

انتاج واستهلاك القمح فى مصر بين عام 2010 – 2016

ولكن هذه نصف الحقيقة، أما النصف الآخر يوضحه شكل (2)، فكما أوضحنا أعلاه ارتفع الاستهلاك بنسبة ضئيلة على مستوى الدولة ككل وعندما يقترن ذلك بزيادة عدد السكان من 73 مليون نسمة عام 2006 إلى 93 مليون نسمة في 2017 أي بنسبة 27%، فإن ذلك يعنى أن كل فرد في الدولة قد اقتطع جزءًا من استهلاكه من القمح ليطعم به أخاه أو ابنه او حتى جاره بل وربما شخص لا يعرفه ولا ينتمي إلى نفس القرية أو المدينة، وقد يضطر أحدهم إلى تقليص استهلاكه لا بوازع الخير ومشاركة ما عنده مع الآخرين، ولكن لأنه لا يقوى على الاستهلاك نظراً لارتفاع الاسعار وتراجع مستويات الدخول الحقيقية.

يوضح شكل (2) انخفاض متوسط نصيب الفرد من القمح من 160 كيلو في العام في 2010 إلى 138 كيلو في 2016، أي أن انخفاض العجز الكلي جاء على حساب استهلاك المواطن من القمح، وقطعاً هناك من يموت جوعاً ولا يجد رغيف عيش يسد به رمقه، في الوقت الذي يموت فيه آخرون تخمةً، فالمتوسطات الإحصائية لا تفصح عن التفاوتات الكامنة في المجتمع.

وإذا طال قرار البرلمان بالحظر محصول القمح، فمن المتوقع أن يزداد الوضع سوءًا، لأن ذلك يعني أن الإنتاج سيقل، وعلى الدولة أن تعوضه بمزيد من الاستيراد أو مزيد من تخفيض ما يحصل عليه الفرد من القمح سنوياً.

متوسط نصيب الفرد من القمح بالكيلو


الذرة الشامية

الوضع فيما يتعلق بالذرة الشامية أكثر خطورة، ففي حين ارتفع الاستهلاك من 12.5 مليون طن في 2010 إلى 13.9 مليون طن في 2016، لم يحدث ارتفاع مماثل في الإنتاج، الذي بقي شبه راكد عند 7.7 مليون طن خلال نفس الفترة كما يتضح من شكل (3).

تزداد الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك عمقاً بمرور الوقت، أي إنتاجنا لا يكفي استهلاكنا، والدولة لا تعر ذلك انتباهاً.

اكتشفت الحكومة فجأة أننا سنواجه عجزاً مائياً خلال السنوات القادمة، إذن الحل بسيط وسهل: تقليص المساحات المزروعة بالمحاصيل كثيفة استهلاك المياه، دون التفكير في مردود ذلك على الأمن الغذائي، ودون محاولة استنباط سلالات جديدة من تلك المحاصيل تُقلل استهلاكها من المياه عند الحد الأدنى.

بإمكان مصر أن تُقلع جزئياً عن زراعة هذه المحاصيل على أن تستوردها مقابل ما ستصدره من محاصيل أخرى قليلة استهلاك المياه، وهو ما طرحه أحد نواب البرلمان بالفعل، ولكن هل هناك دراسات توضح الجدوى الاقتصادية لهذا القرار؟ ماذا عن تكلفة الاستيراد؟ هل تفوق تكلفة الإنتاج محلياً؟ وهل قيمة ما ستنتجه مصر من المحاصيل الأخرى قليلة استهلاك المياه – كالبصل مثلاً – ستغطي تكلفة ما سنستورده أم لا؟ أم أنه اقتراح عبثي تفتق عن ذهن لم يعهد حل المشكلات بأسلوب علمي؟

أما عن متوسط نصيب الفرد من الذرة الشامية، فقد انخفض من 68 كيلو عام 2010 إلى 54 كيلو في 2016 كما هو موضح في شكل (4).

متوسط نصيب الفرد من الذرة الشامية بالكيلو

الأرز على شفا جُرفٍ هار

حتى عام 2015، كانت مصر مصدراً صافياً للأرز، إلى أن قررت وزارة الري تقليص المساحة المزروعة بالأرز من مليون و300 ألف فدان عام 2015 إلى 724 ألف فدان فقط في 2017، بدعوى كثرة استهلاكه للمياه. وبعد أن كانت مصر تحقق فائض إنتاج يوجه للتصدير قدره 528 ألف طن عام 2010، بدأت تحقق عجزاً قدره 14 ألف طن عام 2016، وبدأنا في الاستيراد كما هو موضح في شكل (5).

عند تطبيق قرار البرلمان، فسيكون الأرز هو أول الضحايا، فهل نحن على أعتاب انهيار جديد لمحصول استراتيجي آخر على غرار ما حدث للقطن والقمح؟

فانخفاض الإنتاج يعنى إما ارتفاع جنوني في الأسعار، قد يؤدي إلى اضطراب اجتماعي وسياسي، أو اللجوء للحل السحري وهو الاستيراد، وفى كلا الأمرين شر مُستطير؛ فإما الجوع؛ وإما استنزاف الدولار لدفع ثمن الأرز المستورد، ثم ندخل في حلقة مفرغة من الطلب على الدولار والاستدانة.

انتاج واستهلاك الأرز

والمفارقة، أن معالجة الوضع ربما لا تحتاج سوى تمكين مراكز البحوث الزراعية التابعة للوزارة الزراعة واستصلاح الأراضي وكذا معامل كليات الزراعة والعلوم في جميع جامعات مصر، من العمل على استنباط سُلالات جديدة قليلة استهلاك المياه، وهو أمر سبقتنا إليه كثير من دول العالم، ناهيك عن ضرورة توعية المواطنين وحثهم على ترشيد استهلاك الأرز والمياه في آن واحد.


الفول: بروتين الفقراء في خطر

من المعروف أن الطلب على الفول يرتفع كلما انخفض مستوى الدخل، كونه مصدراً رخيصاً للبروتين، وفى دولة يعيش ثلث سكانها تحت خط الفقر وفقاً لبيانات 2015 غير المُحدَّثة.

وفى ظل ظروف اقتصادية صعبة وارتفاع مستويات التضخم بشكل غير مسبوق خاصة أسعار اللحوم، ارتفع استهلاك الفول بنسبة 44% ليسجل 569 ألف طن عام 2016 مقارنة بـ 395 ألف طن عام 2010.

ومن ثَمَّ، تقتضي أبسط قواعد المنطق أن تشجع الدولة على التوسع في زراعة الفول وإنتاجه، لتلبية الطلب المتزايد، وأضعف الإيمان أن تظل المساحة المزروعة ثابتة إن لم تزد، إلا أن العكس تماماً هو ما حدث، انخفض إنتاج الفول في مصر بنسبة 50% خلال نفس الفترة، ليقفز العجز من 161 ألف طن عام 2010 إلى 450 ألف طن في 2016.

أي منطق اقتصادي يقضى
بخفض إنتاج الفول وتقليص مساحته المزروعة من 202 ألف فدان عام 2010 إلى 88 ألف فدان فقط عام 2015 في وقت يزيد فيه الطلب؟ بأي منطق يتم خفض الإنتاج المحلي وتلبية الطلب المتزايد من خلال مزيد من الاستيراد؟ بمنطق الحفاظ على المياه؟ لا أعتقد فالإنتاج ينخفض والمساحة تنحسر قبل أن تثور أزمة سد النهضة.
مساحة الفول بالألف فدان

قصب السكر

الأرقام تقول إن قصب السكر لا يعاني مشاكل جوهرية على مستوى الإنتاج، فقد ارتفع فائض الإنتاج من ألفي طن في 2010 إلى ثمانية آلاف طن عام 2016.

المشكلة الجوهرية التي يعاني منها المزارعون في صعيد مصر، هي التسعير غير العادل للمحصول، فقد كثرت شكاوى المزارعين خلال الفترة الأخيرة من ارتفاع تكاليف زراعة قصب السكر، فاستجابت الحكومة وقامت برفع سعر الطن من 620 إلى 720 جنيهًا، وعلى الرغم من ذلك ما زال الكثير من المزارعين يرون أن السعر الجديد لا يحقق لهم هامش ربح معقول، وهو ما يدفع الكثير منهم إلى عدم توريد القصب للحكومة، وبيعه بدلاً من ذلك لمصانع العسل الأسود بسعر أعلى.

أثار تعديل قانون الزراعة القلق في نفوس مزارعي قصب السكر من أهالي الصعيد، وحُق لهم أن يقلقوا كونهم ورثوا هذه المهنة ولم يعهدوا زراعات أخرى، خاصةً وأن محاصيل سبق ذكرها لاقت نفس المصير على يد الحكومات المصرية المتعاقبة.

وسبق أن برّر مبارك استيراد القمح بدلاً من زراعته محلياً، بأنه لا يريد أن يسبب خللاً في التركيب المحصولي، فالرقعة الزراعية محدودة، ومزيد من القمح يعنى قليلاً من المحاصيل الأخرى كالأرز وقصب السكر والفاكهة والخضراوات!

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2013،وفى حديثه على قناة صدى البلد، أكد الدكتور «وسيم رشدي السيسي» أنه كان ثمة محاولة ناجحة لزراعة القمح في الساحل الشمالي، إلا أنهم فوجئوا بتعليمات وزير الزراعة يوسف والي بعدم زراعة القمح في العام التالي! الغريب أن اسم يوسف والي وأمريكا تردد كثيراً في العديد من التحقيقات التي ناقشت أزمة القطن في مصر!


التأثيرات المحتملة للقرار

انتاج واستهلاك قصب السكر

في مجتمع يغلب عليه الطابع الريفي كمصر، تحتل الزراعة مكانة خاصة، وتتركز حولها عادات الناس وتقاليدهم، بل وربما نظرتهم لأنفسهم وتصوراتهم عن الحياة والعالم، فالأرض عِرض، وحمايتها شرف والتفريط فيها عار، وإنجاب المزيد من الأطفال أمر مرغوب للمساعدة في أعمال الحقل والزرع.

تستوعب الزراعة 25% من إجمالي العمالة المصرية، بعد أن كانت هذه النسبة 31% في تسعينات القرن الماضي، وعلى مستوى العالم فإن نسبة العاملين في الزراعة تراجعت من 43% في بداية التسعينيات إلى 26% في 2017.

تختلف دوافع هذا الانخفاض من دولة لأخرى، فبعضها ناتج عن تحول من الزراعة إلى الصناعة، وبعضها ناتج عن تدهور في قطاع الزراعة دون تحول يذكر نحو الصناعة، والبعض الآخر نتيجة ميكنة الزراعة وإحلال الآلة محل الإنسان.

بالنسبة لمصر، فقد جاء انخفاض نسبة العاملين في قطاع الزراعة على خلفية انخفاض مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي من 14.5% في 2010/2011 إلى 11.7% في 2016/2017، أي أن مساهمة قطاع الزراعة تتراجع كنسبة من إجمالي إنتاج الدولة.

على كل حال، يبقى قطاع الزراعة مصدراً لقوت ربع عمال مصر وأسرهم، هذه هي العمالة المباشرة فقط، ناهيك عن العمالة غير المباشرة التي تعمل في صناعات مرتبطة بالزراعة كالمبيدات والصناعات الغذائية وصناعات النسيج وغيرها، ولا شك أن قرار البرلمان سيؤثر عليهم سلباً.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل أجرت وزارة الزراعة والبرلمان ووزارة الموارد المائية دراسات كمية دقيقة توضح الفئات المتضررة من القرار وكيفية تعويضها؟

وعلى خلفية هذا القرار، من المؤكد أن ترتفع أسعار هذه السلع على خلفية انخفاض المعروض منها، خاصة وأنها سلع أساسية يستهلكها المصريون بشكل يومي، وهو ما يضع ضغوطاً اقتصادية على الفئات متوسطة ومحدودة الدخل، فكلما انخفض مستوى الدخل وجهت الأسرة نسبة أكبر منه للطعام والشراب، كونه إحدى ضرورات الحياة، على عكس أصحاب الدخل المرتفع.

في هذا الصدد يشير بحث الدخل والإنفاق إلى أن الـ 10% الأقل انفاقاً في مصر وجهوا 48% من إنفاقهم للطعام والشراب في 2015، في حين أن الـ 10% الأعلى انفاقاً لم يوجهوا للطعام والشراب سوى 23% فقط، وبالتالي في حالة ارتفاع أسعار هذه السلع إثر انخفاض إنتاجها، سيؤدي ذلك إلى تكريس معاناة فئات عريضة من الشعب المصري.

والتعيس من اجتمع عليه الأثران، كأن يفقد أحدهم وظيفته بعد تسريحه من أحد مصانع السكر في قنا، وفي الوقت ذاته ترتفع أسعار السلع الغذائية من حوله!


*** جميع بيانات إنتاج واستهلاك القمح والفول والذرة والأرز وقصب السكر الواردة بالتقرير تم تجميعها من نشرة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.