نعرف جميعًا الفيتامينات، أو نظن أننا نعرف. لا يختلف اثنان منا في أنها مواد مفيدة جدًا للجسم، ولكي نحافظ على صحة أجسامنا، لابد أن نتناولها بشكل يومي، إن لم يكن في الطعام، فمن خلال أقراص الفيتامينات التي تُباع في الصيدليات.

الفكرة السابقة في مجملها ليست خاطئة، لكنها ليست صحيحة ١٠٠٪. سنعرف هذا وأكثر، من خلال جولة خاصة مع واحد من أهم الفيتامينات، وأكثرها شهرة، وكذلك أكثرها إثارة للجدل هذه الأيام؛ إنه فيتامين د، والذي تتعلق به الكثير من الحقائق العلمية والطبية، وأيضًا الكثير من الأساطير التي لا أساس لها من الصحة.

من خلال بضعة معلومات واضحة وعلمية، سنضع الكثير من النقاط على الحروف فيما يخص فيتامين د.


إحصائية سريعة

يعتبر نقص فيتامين د من أكثر المشاكل الصحية انتشارًا حول العالم، بنسبة قد تصل إلى 50%، خاصة لدى الرضع والأطفال الصغار، وكبار السن. رغم زيادة الوعي بأهمية هذا الفيتامين، وتوافره في عديد من الأطعمة، والمستحضرات الدوائية، فإن بلدًا متقدمًا، ويمتلك منظومة صحية متكاملة، مثل الولايات المتحدة، يُصابُ أكثر من 40% من سكانه بدرجات مختلفة من نقص فيتامين د، ترتفع النسبة إلى أكثر من 70%- 80% في شرائح مثل الأمريكيين الأفارقة واللاتين. فتخيل ما هو الوضع عندنا في دول الشرق الأوسط والعالم الثالث!


فيتامين د لا يوجد في ضوء الشمس!

رسم توضيحي لحصول أجسامنا على فيتامين د، وتنشيطه في الكبد والكلى

تتصور بعض الأمهات خطأً أن فيتامين د يوجد في ضوء الشمس، وأن هذا هو سبب طلب الأطباء منهن بتعريض الأطفال للشمس. الصواب أن جسمنا يحتوي المواد الأولية لتكوين فيتامين د النشط، لكن تحتاج أن تحفزَها الأشعة فوق البنفسجية من النوع ب UVB الموجودة في ضوء الشمس، خاصة فترة الظهيرة ربيعًا وصيفًا.

لا يوجد رقم محدد لمدة معينة من التعرض للشمس يوميًا للحصول على الحاجة اليومية من فيتامين د (في المتوسط 400 – 800 وحدة دولية يوميًا حسب العمر، لكن بعض الدراسات ترفعها إلى 1000- 4000). كذلك تختلف كمية الضوء المطلوبة حسب نوع الجلد، فالملونون (السود – اللاتين … إلخ) يحتاجون كمية أكبر من أصحاب البشرة البيضاء.

لابد من الاعتدال في التعرض للشمس في هذا الوقت، لأن هذه الأشعة نفسها هي المسؤولة عن حدوث ضربات الشمس، وحروق الجلد عند التعرض الزائد لها، وكذلك تزيد فرص حدوث سرطانات الجلد. يمكن الاستعانة بكريمات الوقاية من الشمس متوسطة الحماية، وكذلك الاحتماء بالظل من حين لآخر، لتقليل خطورة التعرض للشمس.

الجلوس في المنزل خلف نافذة زجاجية مواجهة للشمس لا يغني عن أشعة الشمس المباشرة، وذلك لأن الزجاج يحجب الأشعة المطلوبة، كما أن تفعيل فيتامين د إلى النسخة الأكثر نشاطًا يتم بعد ذلك في الكبد ثم الكلى.


مصادر أخرى لفيتامين د

بعض الأطعمة تحتوي فيتامين د، كاللحوم الحمراء، والكبدة، وصفار البيض، والمشروم، وبعض الأسماك مثل السالمون والتونة والماكريل. كذلك يتم تعزيز معظم منتجات الألبان، لاسيما الخاصة بالرضع والأطفال، بكميات مختلفة من فيتامين د.

وهناك فيتامين د كدواء، ومن أشهره نقط للأطفال، وأقراص للكبار … إلخ، لكن لا يتعاطاها سوى الشرائح الأكثر حاجة، والتي لا يُضمَنْ حصولها عليه بالكميات المطلوبة من المصادر الطبيعية كالتصنيع بمساعدة الشمس أو الطعام، مثل الرضع، والحوامل، ومرضى الفشل الكلوي المزمن، والمقيمين بالبلاد التي يقصر فيها النهار، ويقل فترات التعرض للشمس الفعالة، كأقصى شمال الكرة الأرضية، والمصابين بالفعل بأعراض نقص فيتامين د.

لا يوجد حتى الآن توصية معتمدة بإجراء تحليل قياس نسبة فيتامين د في الدم لعموم الناس للاكتشاف المبكر لنقصه، إنما يتم إجراء هذا التحليل للمصابين بالفعل بأعراض لها علاقة بنقص الفيتامين، وكذلك لاختبار كفاءة العلاج بفيتامين د. وهناك خلاف شهير في الأوساط الطبية في التركيز المثالي لفيتامين د في الدم، والذي يتم تشخيص نقص الفيتامين إذا هبط دون مستواه، البعض يتحدث عن 20 نانوجرام /مل، والبعض 30، وهناك من يرفعها إلى أكثر من ذلك. كذلك لا يوجد رقم محدد للتركيز الطبيعي الأقصى، وإن كانت مصادر عديدة تدور حول 100.


العظام وأشياء أخرى

فيتامين د حيوي جدًا للجهاز الهيكلي الذي يحمل أجسامنا، وأساسه العظام والعضلات. يساهم فيتامين د في زيادة نسبة الكالسيوم في الدم عن طريق زيادة امتصاصه من الطعام في الأمعاء، وكذلك تقليل هدره في البول. كما يزيد فيتامين د من عنصر الفوسفور، والذي يشارك مع الكالسيوم في بناء العظام، ونموها عرضًا وطولاً خاصةً في الأطفال. الكالسيوم أيضًا لا غنى عنه لانقباض عضلات الجسم، ومنها عضلة القلب، وأيضًا مهم لتجلط الدم لإيقاف النزيف.


الكساح ولين العظام

تقوس الطرف السفلي نتيجة نقص فيتامين د، قبل تلقي العلاج (يسار) وبعده (يمين).

تزداد قيمة فيتامين د في الرضع والأطفال الصغار، حيث نمو العظام على أشده، وبالتالي يصبح ضرر نقصه أفدح. يحدث مرض الكساح أو Rickets نتيجة نقص فيتامين د في الرضع والأطفال الصغار، خاصة المعتمدين كليًا على لبن الأم الفقير نسبيًا في فيتامين د، والذين لا يتعرضون للشمس. أهم أعراضه هو تأخر مراحل النمو الجسماني (الطول – الجلوس – المشي … إلخ)، وكذلك ضعف العظام، ومجموعة من التشوهات في نموها، من أشهرها اعوجاج الطرف السفلي عند الركبة، وتضلع الجمجمة (تصبح كصندوق بارز الزوايا)، وتضخم الرسغ والمعصم، ونتوءات على الضلوع … إلخ. لذا ينصح للرضع بعد سن شهرين بتناول نقاط فيتامين د بالفم، لضمان الحصول على احتياجات نموهم كاملة. ويتم علاج هؤلاء الأطفال بتناول جرعات أكبر من فيتامين د يحددها الطبيب حسب كل حالة، وكذلك الإكثار من الأطعمة المحتوية على الكالسيوم والفوسفور كمنتجات الألبان.

للوقاية من الإصابة بالكساح، لابد من ضمان حصول الأطفال على قدر مناسب من فيتامين د، وذلك بتعريضهم لحوالي 15 دقيقة من ضوء الشمس يوميًا (المقصود الخروج في مكان مشمس، ولا يلزم وضعهم في ضوء الشمس المباشر). كذلك الاعتماد على الأطعمة الغنية بفيتامين د مثل الألبان – وليس الزبادي -، وصفار البيض … إلخ.

يشيع نقص الفيتامين كذلك في كبار السن، حيث سوء التغذية، وكذلك محدودية الحركة، وبالتالي نقص التعرض للشمس بالخارج. كذلك يشيع لديهم الأمراض المزمنة في الكبد والكلى، واللذيْن تحدث فيهما الخطوتان الأخيرتان في الحصول على فيتامين د النشط. يؤدي هذا النقص إلى مرضٍ يسمى لين العظام osteomalacia. يقلل نقص فيتامين د، امتصاص الكالسيوم من الأمعاء والكلى، فيتم تعويض ذلك من الكالسيوم المخصص للعظام.

أشهر أعراض هذا المرض، وأخطرها، هو زيادة فرص حدوث كسور العظام عند التعرض لحوادث بسيطة، كالسقوط أرضًا في المنزل. كذلك يحدث ضعف في العضلات مما يسبب صعوبة في المشي والحركة. كذلك تكثر الشكوى من آلام متفرقة بالعظام خاصة في الفخذ والحوض والساقين. وإذا حدث نقص شديد في الكالسيوم، فقد تحدث اضطرابات في ضربات القلب، وتقلصات في اليدين والقدمين، وتنميل بالوجه.


وبالنسبة للأمراض الأخرى؟

أمراضٌ عديدة أثير الكثير حول علاقتها بفيتامين د، لكن حتى الآن لا يوجد دليل قوي علميًا على هذا بدراسات علمية منهجية، ومراجعاتٍ قوية.

من أمثلة هذه الأمراض، مرض التصلب المتعدد، وهو التهاب شديد في الأعصاب نتيجة استهدافها بنشاط غير طبيعي من جهاز المناعة، حيث وُجِد زيادة انتشاره نسبيًا في البلاد البعيدة عن خط الاستواء، وهي التي يشيع فيها نقص فيتامين د لانخفاض التعرض للشمس.

وهناك مرض السكري، والذي وجدت إحدى الدراسات انخفاض تركيز فيتامين د في الدم لدى نسبة من مرضى السكر بنوعيْه، لكن هذا لا يكفي لإقامة علاقة سببية بين فيتامين د والسكري.

كذلك الاكتئاب، والذي ربط البعض بين أول حرف في اسمه Depression، وفيتامين د، لا يوجد توصية علمية بعلاجه بتعاطي فيتامين د، رغم أن نتائج بعض الدراسات أظهرت نقصًا فيه لدى العديد من مرضى الاكتئاب.


فيتامين د والسمنة والريجيم

أظهرت إحدى الدراسات، زيادة نسبية في معدل نقص الوزن لدى المجموعة التي تناولت كميات من فيتامين د أثناء الحمية الغذائية، وأظهرت دراسات أخرى انخفاض فيتامين د نسبيًا لدى المصابين بالسمنة، وفسروا هذا بترسب فيتامين د – وهو من الفيتامينات الذائبة في الدهون – في الأنسجة الدهنية الكثيفة لديهم. لكن عجزت كل تلك الدراسات عن بيان علاقة سببية بين فيتامين د والسمنة، لذا فحتى الآن لا يوجد توصية علمية على نطاق واسع بتعاطي فيتامين د من أجل علاج السمنة، وبالتالي فلا مفر من الاعتماد الرئيس على الحمية الغذائية، والتمارين الرياضية، لكن يمكن اعتبار الحفاظ على المعدل الطبيعي من فيتامين د، من العوامل المساعدة في عملية إنقاص الوزن.

أما العكس فالأدلة عليه أكثر. يرفع إنقاص الوزن من نسبة فيتامين د بالدم، ويعزز نشاطه الإيجابي على العظام خاصة.


أخيرًا.. التسمم بفيتامين د!

فيتامين د, فيتامين دال, الاكتئاب, الكساح, لين العظام, هشاشة العظام.

يبدو العنوان صادمًا، لكن هذا التسمم يحدث فعلًا، وأشهر أسبابه هو تعاطي كميات كبيرة فوق الحاجة من أقراص فيتامين د على مدار أشهر، لذا يُنصَح بعدم تخطي جرعة 4 آلاف وحدة يوميًا من فيتامين د، إلا لضرورة طبية. جدير بالذكر أن تناول الأطعمة الغنية بفيتامين د، أو التعرض الدائم للشمس، لا يصل إلى درجة التسبب بهذه الحالة. وهناك أسباب أخرى للتسمم بفيتامين د مثل مرض الساركويدوسيس النادر.

أما أعراض هذا التسمم فتدور حول زيادة الكالسيوم في الدم، والتي تسبب ضعف العضلات، واضطرابات كهربية بالقلب، وارتفاع ضغط الدم، والهياج والاضطراب العصبي، والإمساك المزمن وقرح المعدة، وحصوات الكلى .. إلخ. وعلى المدى البعيد، قد تؤدي زيادة فيتامين د لتآكل العظام، وللفشل الكلوي.

لهذا وببساطة، لا تقرر أن تتناول أدوية فيتامين د وبدون داعٍ بدون استشارة الطبيب، لا يسبب نقصه كل هذه الأمراض التي تتداولها عادة صفحات فيسبوك الفارغة.