قبل بضعة أشهر، قضت محكمة لبنانية بالإعدام على حبيب الشرتوني، الشاب اللبناني المنتسب للحزب السوري القومي الاجتماعي الذي قام بتصفية زعيم الفاشية اللبنانية التاريخي بشير الجميّل. خرج وقتها بعض المعلقين اللبنانيين ليصفوا الحكم بأنه يعيد الأمور إلى نصابها. ما هو نصاب الأمور الذي يجب أن تعود إليه؟ لا أحد يجرؤ على التصريح بدقة، لكن كثيرين لديهم ما يكفي من الصلافة والاحتيال ليقولوا إن الحكم دفاع عن القانون والدولة والديمقراطية؛ القيم التي ترفض الاغتيال السياسي والاحتراب الأهلي.

لم يجرؤ أحد من هؤلاء على أن يقول الحقيقة بوضوح، وهو أن الحكم يأتي ضمن موجة من محاولة استعادة الخطاب التطبيعي الذي حملته البرجوازية المارونية لهيمنته في لبنان. الأمر ليس لبنان وحدها فحسب بالتأكيد، فلبنان كان دومًا رغم ادعاءات نخبه، عربيًا حتى النخاع في صراعاته، وما تلك المحاولة البرجوازية المارونية سوى تمظهر لبناني لحركة التطبيع العربي التي تقودها ملكيات الخليج وحليفها المصري.

لقد كانت كلمات الدولة والسلم الأهلي وسيادة القانون في لبنان، كما في كثير من البلدان العربية، استعارة لا تعني في تأويلها الأخير سوى الإبقاء على هيمنة طائفية من نوع ما، سواء كانت تلك الهيمنة ذات طابع مؤسسي (الجيش في مصر والجزائر) أو عائلي (عائلات الحكم الخليجي) أو طبقي (البرجوازية الحليفة للغرب في كافة البلدان العربية) أو طائفي مذهبي (السنة قديمًا ثم الشيعة اليوم في العراق، والعلويون في سوريا، والمارون في لبنان)؛ وكلها يمكن أن تسمى حكمًا طائفيًا إذا ما أعدنا فهم الطائفية سياسيًا بوصفها حصر حق الفعل السياسي في جزء محدود من المجتمع (راجع إن أردت مقالتنا:لسنا طوائف) .

والمسألة ليست بالطبع كما يروق للتحليل الاستشراقي والعلماني – نعني هنا العلمانية بوصفها مقاربة لفهم الاجتماعي في ضوء ثنائية الديني/الدنيوي – أن يصوّرها: طائفة ما تحارب طائفة أخرى لأسباب ثقافية/دينية. الأمر لم يكن في الأخير سوى تغطية هيمنة نخب حليفة للغرب لديها مصالحها الاقتصادية والسياسية الخاصة، بغطاء أهلي. بعبارة أخرى، توظيف سياسات الهوية الطائفية لخدمة مصالح مادية تخص النخبة الكومبرادورية. فليس العيب بالتأكيد في جوهر المارون أو السنة أو الشيعة، كما أن الحل ليس في إصلاح الخطاب الديني لتلك الطوائف كما يزعم مستشرقون غربيون أو محليون.


احتيال برجوازي

يعود الخطاب البرجوازي اليوم ليرتدي ثوب الليبرالية. فتقمص شخصية الرجل الأبيض، التطلع إلى الحياة المعزولة عن الجمهور المحلي حيث الاحتفاء المفرط بأناقة فساتين السهرة غير المهجوسة بالحشمة العامية، والعلاقات الشخصية المنفتحة غير المحكومة بالتقاليد المحلية المتخلّفة، هي تطلعات برجوازية كومبرادورية متأففة من محيطها المحلي. وقد رأينا كل تلك المظاهر مؤخرًا تجتمع في الحديث عن مدينة الجونة؛ مدينة ساحلية بعيدة عن الزحام والجمهور، مهرجان سينمائي عامر ببزات وفساتين السهرة، لا مكان «للتحرش ولا النت البطيء» كما ذكرت إحدى روّاد المدينة على حسابها الفيسبوكي.

لا يصارح ذلك الخطاب نفسه والآخرين بأنه خطاب فرداني مترف، بل يربطه بقيم ليبرالية وديمقراطية لا يلتزم سياسيًا بها في المقابل. إنه تحرر دونما حرية إذا صح التعبير؛ تحرر اجتماعي من التقاليد دونما حرية سياسية. يفقد التحرر منطلقاته وغاياته القيمية ليصبح بحثًا مهجوسًا بالرفاه والمتعة والترقي الاجتماعي. هنا، يرحب النظام السياسي بالتحرر ويحتفي به، وتتم مقايضة الحرية السياسية بالحرية الجنسية. وفي الأخير، هكذا يتم تغليف الخطاب البرجوازي بغلالة ليبرالية زائفة.

ما علاقة كل هذا بزياد دويري؟ لا يمثل زياد دويري في الحقيقة سوى حلقة جديدة من تلك اللعبة. احتفاء بالشخصية البرجوازية المارونية – رغم أن زياد نفسه ليس مارونيًا – ومزاعم أخلاقية عن الالتزام بالعدالة لا تمتد لتشمل الالتزام بمواطنة تتجاوز الثقافات والطوائف لأن تجاوزها سيجعل الدويري في حرج قبول الذات الفلسطينية التي يود نبذها، ويمحو من الذاكرة ما تعرّضت له من مجازر، ليبقي على خطيئاتها وحدها في الواجهة.تلك العدالة نفسها لم تجعل زياد يرى في إسرائيل كيانًا إجراميًا قائمًا على القتل ونبذ الآخرين، عكس ما يفترض أن زياد يدعو إليه.


الفن والمجتمع

لدى الخيال الليبرالي فزع مستمر من فكرة المجتمع. أن يكون في حسابات الفرد وجود آخر تتقاطع دوائر حركتهما رغمًا عنهما، وينبغي أن يضع كل منهما الآخر في حسابه. من هنا أيضًا، ينشأ العداء لأي محاكمة اجتماعية لعمل فني. لا يجوز مثلًا أن نرفض عملاً فنيًا يزوّر التاريخ، فالفن ليس مسئولًا حتى أمام هذا التاريخ.

لا يميز النقاد الليبراليون هنا بين تزوير للتاريخ يتهم أفرادًا أو طوائف ويبرّئ أخرى، وبين إضافة مسار خيالي إلى سردية تاريخية لمناسبة الحبكة الدرامية دونما إسقاط أخلاقي لذلك التعديل. مثلًا، هنالك فارق بين أن أصنع عملًا ينسب إلى شخصية تاريخية جرائم ما من دليل على أنه ارتكبها، وبين أن أضيف إلى سردية تاريخية قصة حب تخلق الدراما ضمن الإطار السردي. هذا بالضبط ما يتكرّر في حالة دويري. فدويري يقوم بسرد تاريخ كامل من منظور يبرّر خطابًا ويرفض آخر، ويتهم ذاتًا اجتماعية بعينها ويبرّئ أخرى. لا يجوز لدويري بعد ذلك أن يدّعي أنه فنان مبدع لم يحظ الآخرون بإبداعه.

يقارن بعض المعلقين أيضًا بين حالة دويري وحالة نجيب محفوظ. ألم يدعُ محفوظ إلى التطبيع، فلماذا لم يحاكم المجتمع فنه؟ يتغاضى هؤلاء بالطبع عن أن تطبيع محفوظ لم يكن غالبًا في فنه، فليست هنالك رواية لمحفوظ بعينها تدعو إلى التطبيع رفض الجمهور مقاطعتها لنقيس حالة فيلم دويري بحالة روايات محفوظ. كذلك لا يميز هؤلاء المعلقون بين دويري الذي يمارس تطبيعه يوميًا أمامنا الآن، وبين محفوظ الذي غادر عالمنا. من قال إننا لم نكن لندعو إلى مقاطعة رمزية لمحفوظ لو أننا عاصرنا كامب ديفيد وما تلاها؟

إن المقاطعة حق اجتماعي لا يمت إلى قضية الحريات بصلة. فالمقاطعة لا تمنع دويري من ممارسة تطبيعه، ولا تمنعه من إنتاج أفلامه، لكنها تحافظ للمجتمع حق رفض تلك الخيانة، وحق معاقبة صاحبها اجتماعيًا دونما اعتداء.