يعتبر مفهوم «الشمولية Totalitarianism» مفهومًا محوريًّا في التحليل السياسي لأوروبا والعالم في القرن العشرين. وقد جاءت دراسة فالح عبد الجبّار، المثقف والمناضل العراقي الذي عاش في لبنان عن المفهوم لتقف عند محوريته في تطور الفكر السياسيّ الأوروبيّ، ولعمل دراسة مقارنة في تاريخ المفهوم بين مختلف الاتجاهات النظرية في تناوله، وكذلك بين النماذج الاجتماعية له في مختلف البلدان. كتب فالح دراسته بالإنجليزية، وقد نقلها إلى العربية المترجم حسني زينة، وصدرت الترجمة عن معهد «دراسات عراقية» عام 2008.

يستعمل مفهوم «التوتاليتارية» لوصف ثلاثة أنظمة اجتماعية-سياسية مختلفة، تتشابه هذه الأنظمة في إمكانية إطلاق اللفظ عليها، وهي: إيطاليا الفاشية، ألمانيا النازية، وروسيا الستالينية. وأطلق اللفظ أيضًا على مجموعة من الدول غير الأوروبية، مثل: الصين في عهد ماو تسي تونج، وكوريا الشمالية تحت حكم كيم إيل سونج وخلفائه.

أما عن اللفظ، فهو من أفكار الفيلسوف الإيطالي الفاشي جيوفاني جنتيلي، وقد أعيد تعريف المصطلح فيما بعد على يد مجموعة من المفكرين الرافضين لهذا النموذج، وأشهرهم حنّة أرندت التي كان لها دور مهم في تحويل رؤية العالم لمفهوم «التوتاليتارية»؛ حيث كان مفهوم «التوتاليتارية» عند جنتيلي يعبّر عن النظام السياسي-الاجتماعي الأمثل للتعبير عن الذات القومية الإيطالية. أما أرندت فكان المفهوم عندها مرادفًا للشر والديكتاتورية المدمرة.

الفيلسوف الإيطالي الفاشي جيوفاني جنتيلي

ظهر اللفظ لأول مرة في إيطاليا، وكان غرضه وصف النموذج الفاشي للدولة، حيث كان جوهر الفلسفة الفاشية هو الدولة الشاملة، الدولة التي تقف فوق الأمة؛ تستوعب الأفراد، وتسيطر على المجتمع، وتتوسع إلى ما وراء الحدود. فالفاشية تكره الطريقة الليبرالية في الفصل بين السلطات وتوزيعها؛ تسعى لنظام واحديّ واتحاد كلّيّ بين الدولة والمؤسسات الاجتماعية والمجالات الخاصة. فهي تُخضع الجميع لها وتحت إرادتها. فالإكراه الذي تمارسه الدولة، يصبح ضروريًا وجوهريًا.

وتحديدًا، كانت رؤية الفاشية الإيطالية قائمة على رفض الفلسفتين المناوئتين: أولًا، رفض الليبرالية التي تمنع مؤسسات الدولة من التدخل في حياة الأفراد، وذلك من خلال التأكيد في المقابل على قوة الدولة وشمولها؛ وثانيًا، رفض الماركسية التي تقسّم الأمة إلى طبقات، بالتأكيد في المقابل على تماسك الأمة الجماعي والنقابية، أي أن المجتمع يتشارك في جماعات نقابية متلاحمة. وأخيرًا، تدخل الفاشية في عداء مع باقي الدول وترفض الالتزام بمعايير النظام والقانون الدولي؛ نظرًا لإيمانها بالنزعة التوسعية الإيطالية.

ومن المفارقات العجيبة، أن الدولة التي طبقت النظرية التوتاليتارية بشكل كامل تقريبًا كانت ألمانيا، رغم التوافق الفاشي والفلسفي في إيطاليا في فترة حكم موسوليني. فالمثال النازي الألماني كان الحالة المثالية التي نظّر إليها جنتيلي؛ حيث كان النظام الألماني ذا نزعة قومية عنصرية واضحة، وكان يدعو إلى الإبادات الجماعية لمجموعات اليهود، ويعادي النظم الليبرالية والأفكار الماركسية، ويركز على الدولة باعتبارها التجسيد المثالي لروح الشعب.

أما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن المفهوم قد اختفى تمامًا، وبدأت خطوات بسط الديمقراطية. وظهر المفهوم مجددًا عند محاولة بعض الدول تطبيقه مرة أخرى. ولكن هذه المرة كان يوحي بالشر، على يدي الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت والمفكّر الليبرالي كارل فريدريش اللذيْن غيّرا المفهوم رأسًا على عقب.


من فريدريش إلى حنّة أرندت

عمل كارل فريدريش على صياغة مفهوم حديث للتوتاليتارية، فوضع مجموعة من السمات المميزة لجوهر النموذج التوتالياري، وهي:

أولًا: للدولة أيديولوجيا رسمية موحدة؛ وعلى كل من يعيش في هذا المجتمع تحت حكم هذه الدولة أن يخضع لها.

ثانيًا: للدولة حزب جماهيري واحد مؤلف من نسبة ضئيلة من مجموع السكان، مخلصين للدولة ولزعيمها.

ثالثًا: احتكار كامل للتكنولوجيا والإعلام؛ بغرض السيطرة على الدولة باستخدام العنف.

رابعًا: للنظام جهاز بوليسي إرهابي.

خامسًا: تقوم الدولة بالسيطرة الكاملة على الاقتصاد عن طريق إدارته مركزيًا.

وقد كانت تصورات فريدريش هزيلة من الناحية النظرية. فقد ابتدع ثنائية مفرطة البساطة؛ معتبرًا التوتاليتارية النقيض المباشر للديمقراطية. كما أن النموذج الذي قدمه يصف صفات ثابتة لنظام ديناميكي متغير.

حاولت الفيلسوفة الألمانية حنّة أرندت، وهي فيلسوفة ذات بصيرة تاريخية، القيام باستقصاء أصول التوتاليتارية. وقد التمست ذلك عبر تحليل التاريخ العام للتصنيع الأوربي، بالإضافة إلى التاريخ القومي للألمان والدول الشمولية. فدرست العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي نشأت عنها الحركات والأنظمة الشمولية.

الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت

ترى أرندت أن ظهور النزعة الإمبريالية عند الطبقات الحاكمة كان نتيجة لزيادة الإنتاج الرأسمالي، أي النزوع إلى احتلال بلدان جديدة لتصدير الإنتاج إليها والحصول منها على المادة الخام، وتنفيس الصراع بين الطبقات الثرية والفقيرة داخل تلك البلدان من خلال احتلال بلدان أخرى واستغلالها. كان ذلك بداية التكون الاجتماعي للظاهرة التوتاليتارية بحسب أرندت. ولكن مع زيادة الفجوة بين طبقات الشعب نتيجة لعمليات التصنيع وتراكم رأس المال، حدث انقسام وتصدع داخل البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع.

أي أن الحكومات والطبقات الحاكمة لجأت لحلول غير رأسمالية لحماية الدولة من الانهيار نتيجة الانقسام، فعملت على توحيد الجميع، خاصة الطبقات الشعبية، من خلال النزعة التوسعية للسيطرة على أقوات الشعوب الأخرى. وتولّدت عن ذلك الميول العنصرية والاستهتار بالقانون وأرواح المختلفين. شكّل ذلك أرضًا خصبة لظهور الدول التوتاليتارية التي نشأت جميعها من داخل النظام الصناعي الأوروبي.


ألمانيا، إيطاليا، وروسيا: «ما جمّع إلا أما وفّق»

يعتبر الثلاثي: ألمانيا النازية، إيطاليا الفاشية، وروسيا الستالينية، العائلة الكلاسيكية للتوتاليتارية. ولكن ببعض الفحص المقارن سيظهر لنا اختلافات بين هذا الثلاثي من حيث الأنظمة؛ أي أن كونها تندرج تحت مظلة مفهوم «التوتاليتارية» لا يعني أنها متطابقة. ولكن هذا لا ينفي وجود العديد من التشابهات الكثيرة والجوهرية بينهم.

في الحالات الثلاث الأشهر، هنالك عدة سمات مشتركة بينهم، وهي:

أولًا: تعبئة جماهيرية شاملة تقودها حركة أيديولوجية ناشطة خلال أزمة شاملة شديدة.

ثانيًا: تميزت الدول الثلاث بوجود منظمة عالية الانضباط من النشطاء المتفانين في العمل، الباحثين عن الحلم الأكبر للدولة وزعيمها.

ثالثًا: للدول الثلاث مسحة «عسكرتارية» (حكم عسكري)؛ إذ يكون للحزب جناح مسلح، وقوة مسلحة تمثل قوته.

رابعًا: تُكنّ هذه الدول الاحتقار والعداء التام للنظرية الليبرالية في الدولة، وتنظر للمفهوم الليبرالي على أنه خيانة للقومية.

خامسًا: كان هذه الحركات تدخل معارك ديمقراطية للفوز بمقاعد وتمثيل داخل الحكومة أو البرلمان، قبل أن يقوموا بإنهاء كافة الأشكال الديمقراطية فيما بعد، والقضاء على أي مساحة للحريات.

وبالرغم من أوجه التشابه القائمة، فإن الأنظمة الثلاثة كان تختلف عن بعضها اختلافات واسعة. فالتوجه الجماعي الروسي كان يستهدف إقامة مجتمع لا طبقي، يرتكز على الملكية الجماعية والإدارة التعاونية للأصول الإنتاجية. أما الفاشيون والنازيون فكانوا يميلون إلى دولة قوية، تسيطر سيطرة كاملة على المجتمع وقواه، وتعمل على اقتصاد سوق يخضع لسيطرة الدولة.

ومن الاختلافات الأخرى كذلك الاختلاف الأيديولوجي. فكان الخطاب الماركسي في الاتحاد السوفيتي يسعى للتحرر من جميع القيود المكبّلة للحرية من خلال التحرر الاقتصادي، لأن الاقتصاد هو ما يكبّل الحرية الفكرية والتحرك السياسي. فكانت هذه النزعة التحررية تقف على النقيض التام من التراتبيات العنصرية التي كانت تؤمن بها الفاشية والنازية.


لفظ واحد ومنابع مختلفة

يمكن القول إن التوتاليتارية تصدر عن مستويين، الأول السياسي، والثاني الاجتماعي. يمكن أن نقول إنَّ الشرط السياسي للتوتاليتارية لا يمكن أن يولد إلا من ضعف الفصل بين السلطات داخل الدولة. كما تزامن صعود التوتاليتارية مع صعود الطبقات الدنيا للمشاركة في العملية السياسية، حيث كان لبعض تلك الطبقات ميول راديكالية تهدد السياسات الليبرالية. وهذا ما حدث في روسيا وألمانيا.

أما إيطاليا، فقد عرفت المؤسسات الليبرالية فيها تاريخًا أطول، فالموقع القوي الذي كان للتاج الباباوي والكنيسة والنقابات كان يمثل تحديًا للفاشية، حتى أن موسوليني أُجبر على الاعتراف بدولة «الفاتيكان» عام 1934. فكانت التعددية السياسية والاجتماعية أصعب من أن تزال بسهولة مثلما حدث في التجارب الأخرى.

أما عن المصدر الاجتماعي، فالظرف التوتاليتاري ينمو ويترعرع داخل حاضنة اجتماعية ذات ظروف خاصة، عندما يتم تفتيت المجتمع الجماهيري إلى ذرّات، أي يفقد الفرد أي حاضنة اجتماعية كالعائلة أو النقابة، ويصبح المجتمع المدني مجزأ وضعيفًا. وذلك ما حدث في ألمانيا، وأيضًا في إيطاليا. أما روسيا، فكان المجتمع المدني فيها أقل تطورًا ونضوجًا، ولم يمتلك لا المؤسسات ولا المقومات التي تساعده على مقاومة عملية الهيمنة الكلية من الدولة على المجتمع.


أخيرًا: ما هي التوتاليتارية؟

حنة أرندت

تعتبر «التوتاليتارية» كما ننظر لها: ظاهرة مركبة، فهي حركة اجتماعية شعبوية لتعبئة الجماهير. وتقوم على خطاب نخبوي وعبادة ثقافة أو قومية معينة. وبالطبع شكل من أشكال الحكم لها صفاته التي تميزه عن غيره من الأنظمة غير الديمقراطية.

وغير ذلك، فإن النظام الذي تنتجه السياسات التوتاليتارية يتطور وينضج، ثم يتداعى ويتهالك. ويتكون بداخله العديد من التناقضات والمعارضات على المدى الطويل نسبيًا. وبلا شك يولد عداء خارجيًا وتذمرًا داخليًا؛ منافسة لأعدائها الليبراليين، مما يضطرها دائمًا بأن تكون حاضرة وبقوة في عمليات التقدم الصناعي والعسكري، وإن فشلت في ذلك فلا بديل عن الكذب وطلاء الحقائق، أو الاستبداد والقهر. ونادرًا ما يمكن قياس فترة عمر الأنظمة التوتاليتارية، فاثنان من أقوى الأنظمة الشمولية أكثرها تقدمًا تم تدميرهما بقوة خارجية في الحرب؛ وهما ألمانيا وإيطاليا.

أما النظام الوحيد الذي أمكن قياسه بشكلٍ ما، هو النظام الروسي. فدورة حياته كانت أطول وأكثر إمكانية للدراسة؛ حيث تفككت الدولة «الستالينية» تدريجيًا بعد رحيل ستالين، بالإضافة لإصلاحات جورباتشوف في ثمانينيات القرن الماضي. فعلى الرغم من أن دولة ستالين عاشت نحو عقدين، فقد تطلّب التخلص منها وتفكيكها ثلاثة عقود، مثلما تطلب الوضع في ألمانيا بعد القضاء على النازية.