يقسم علماء الديموجرافيا الأمريكيين الأجيال العمرية التي تشكل المجموع السكاني الفعال والمؤثر في الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المعاصرة إلى ثلاثة أجيال رئيسية، وهم بحسب مركز بيو للأبحاث:

1. الجيل X: وهم مواليد الفترة بين عامي 1965 – 1980.

2. الجيل Y أو جيل الألفية: وهم مواليد الفترة بين عامي 1981 – 1996.

3. الجيل Z أو جيل ما بعد الألفية: وهم مواليد ما بعد عام 1996.

نموذج تقسيم الأجيال العمرية وفقًا لمركز الأبحاث Pew

أدى تطور تقنيات وسائل الاتصال في النصف الثاني من القرن العشرين عبر أجيال تكنولوجية مختلفة بدءًا من الراديو، مرورًا بالتلفزيون وأطباق الستلايت، وصولاً إلى انتشار الحواسيب الشخصية المنزلية والاستخدام الواسع لشبكة الإنترنت، وانتهاءً في الوقت الحاضر بالحواسيب اللوحية والهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، إلى خلق فجوة ممتدة بين الأجيال العمرية بالمقدار نفسه الذي تطورت به تلك التقنيات، وإلى تغاير متسارع في أنماط التفكير والحياة والسلوك الاجتماعي.

يظهر هذا التباين بين الأجيال في منطقتنا، وفي العالم ككل أكثر ما يكون بين جيلي X و Y على وجه خاص، بسبب الطفرة التقنية المتعلقة بظهور الانترنت، فهذا الجيل الأخير بحسب الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات «هاني عواد»، قد كبر في سياقاته الاجتماعية المحلية، وسط ثورة اتصالات غير مسبوقة فتحت كل شيء على كل شيء، وهو ما أضعف المرجعيات الأخلاقية والقيمية المستقرة والسائدة، أو ما يسميه عواد «أخلاق الجماعة» ذات الطابع المحلي أو الوطني، وهو ما ترك بصماته بنهاية المطاف على علاقة هذا الجيل بالأجيال السابقة.

على العكس من جيل X السابق،لا يلتزم جيلا الألفية وما بعدها بشكل قوي بالمؤسسات والأعراف، بدءًا من مؤسسة الأسرة، مرورًا بالالتزام المهني بوظيفة محددة دائمة أو الاتجاه المبكر للالتزام بمؤسسة الزواج، وصولاً للارتباط العميق بالمكان والبلد الأم.

ينعكس هذا بشكل واضح في نسب وإحصائيات عديدة، كنسب حالات الزواج غير الرسمي والطلاق، حيث بلغت نسب الطلاق في مصر على سبيل المثال بحسب إحصاءات رسمية 44 %، وبلغ عدد حالات الزواج العرفي السنوية وفق آخر إحصاء قام به الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في عام 2014 نحو 88 ألف حالة، من بينهم 62 ألف حالة تمت بين المراهقين تحت سن 18 عامًا، هذا فضلًا عن نسب مشاهدة المواقع الإباحية التي وصلت إلى معدلات مرتفعة إلى حد بعيد في العالم العربي.

لا يتلزم كذلك أبناء كلا الجيلين حتى بالقواعد اللغوية، فالرسائل القصيرة التي يتبادلها أبناء هذين الجيلين لا تتبع القواعد النحوية أو الإملائية المعروفة، بل تتبع أنماط لغوية اختزالية ورمزية وضعها أبناء هذين الجيلين أنفسهم، استقرت بمرور الوقت.

عمَّق كل هذا من الفجوة العمرية بين الأجيال، بسبب انهيار لغة التواصل بين جيلي الآباء والأبناء، والتباين الكبير في أنواع الموسيقى وأنماط التفكير والسلوك بين الطرفين، وهو ما انعكس بنهاية المطاف في التنافر الواضح في الآراء السياسية بينهما، وهو ما تبدَّى أكثر ما تبدى بعد انفجار ثورات الربيع العربي.

من جهة أخرى انعكست أزمة الأجيال العمرية في الأوساط الاجتماعية لتيار الإسلام السياسي، ولا سيما في أبناء الجيل الثاني والثالث من جماعة الإخوان المسلمين، في الظواهر التي تحدث عنها وثائقي الجزيرة، فالظاهرة الأبرز التي تناولها العمل، ألا وهي ظاهرة انتشار الإلحاد تحت ضغط واقع من حالة ما بعد الربيع العربي، نلاحظ أنها ترتبط بشكل رئيسي بهذا الجيل من ذلك الوسط الاجتماعي، وفي هذا الظرف التاريخي تحديدًا.

فجميع الضيوف الذين ظهروا في ذلك العمل بهذا الخصوص نشأوا داخل تلك الأوساط بشكل أو بآخر، وهو ما يعكس بشكل أساسي تهاوي سردية الإسلام السياسي في عقل ووجدان هؤلاء، ومن ثم أدى ذلك إلى التأثير بالتبعية على مستوى الإيمان والممارسة الدينية.


ما بعد الأيديولوجيا

في زمن ما بعد السرديات الكبرى التي روت لنا السيرورة التي لا بد أن يقطعها الوجود الإنساني، وبعد أفول الأقطاب الكبرى القديمة المهيمنة كالدولة والأمة والأحزاب والمؤسسات، أو بتعبير آخر: في أكناف «الوضع ما بعد الحداثي» كما يصفه لنا فرانسوا ليوتار بتفصيل مسهب في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه، كان لا بد لتلك التحولات أن تترك أثرها على الأجيال الجديدة من التيارات الفكرية التاريخية في بلادنا كالتيار الإسلامي واليساري.

أدت تحولات المجتمع ما بعد الصناعي أو مجتمع المعلومات التي أعادت تشكيل البنى الاجتماعية في عالمنا الراهن نحو مجتمعات شبكية سائلة لا بنيوية ومتعددة المراكز، إلى إعادة تشكيل موازية للتنظيمات الأيديولوجية التاريخية في المنطقة كجماعة الإخوان المسلمين والأحزاب والتشكيلات اليسارية القديمة، وإلى فتح الأبواب أمام عصر جديد، ألا وهو عصر ما بعد الأيديولوجيا.

لعب الإنترنت دورًا كبيرًا في تفكيك البنى التنظيمية الصلبة، فالإنترنت كما يذكر أحد تقارير الاستخبارات الكندية التي استشهد بها الباحث والناشط اللبناني طوني صبغيني في كتابه «لعنة الألفية»:

يسمح بالتواصل والتنسيق من دون الحاجة لمصدر مركزي للقيادة، وهو يسهِّل التحركات المنسقة من دون بيروقراطية وبالحد الأدنى من الموارد.

وهو ما أدى إلى خلق نمط جديد من العمل السياسي والجماهيري كما شهدنا على المستوى الغربي في خلق حركات جماهيرية جديدة كحركة «احتلوا وول ستريت» والتشكلات الثورية في الربيع العربي.

على وقع الحركة الاجتماعية الجديدة، شهد التيار الإسلامي تحولات نحو ما أسماه عالم الاجتماع إيراني الأصل آصف بيات حالة «ما بعد الإسلاموية» التي تجاوزت المفهوم الذي قدمه بيات، وانطوت بدورها على سلسلة من التحولات العنيفة أدت بالعديد من الشباب الذين كانوا منتمين في السابق إلى التيارات الإسلامية، إلى الخروج بالكلية من طيف الإسلامي السياسي، بل منهم من صار يعبر عن إلحاده جهرًا في فضاء التواصل الاجتماعي.

بالتوازي مع العلمانية الفكرية، بدأت مظاهر العلمانية الأخلاقية في التنامي بين شباب ذلك الوسط الديني والاجتماعي، بدءًا من التدخين وليس انتهاءً بشرب الكحوليات، بالترافق مع تخلٍّ تدريجي عن الممارسة الدينية للشعائر والفروض.

في سياق مختلف، أخذ اليسار الجديد ولاسيما في مصر، منعرجًا حقوقيًّا واضحًا، ولا نقصد هنا حقوق الإنسان أو حتى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بل الحريات الفردية كحرية التحول الديني والإلحاد والحرية الجنسية وحقوق المثليين أو الشواذ، على نحو لا يختلف كثيرًا عن تحولات اليسار الثقافي والاجتماعي في الغرب ونزوعه نحو الصوابية السياسية «Political Correctness».


الهوة المتنامية بين الجميع

في لقاء حواري قام به المذيع الأمريكي الشهير ديفيد ليترمان مع الرئيس الأسبق للولايات المتحدة باراك أوباما، بثته شبكة نيتفليكس، تحدث أوباما بكلام شديد الأهمية حول تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في الحياة السياسية:

كان لديَّ انطباع أن «تويتر» ‫هو الآلية التي يتم من خلالها ‫نشر الحقيقة حول العالم. ولكن إذا كنت تحصل على كل معلوماتك ‫من خلال خوارزميات يتم إرسالها عبر الهاتف، فإنها لن تقوم بنهاية المطاف إلا بتقوية التحيزات التي لديك من البداية. كانت هناك تجربة مثيرة للاهتمام، ‫لم تكن تجربة علمية كبيرة، ‫ولكن مجرد تجربة قام بها شخص ما ‫أثناء الثورة التي قامت في مصر. ‫في «ميدان التحرير»، ‫أخذ أحدهم شخصًا ليبراليًّا، وشخصًا محافظًا، ‫وآخر كما يسمونه وسطيًّا. ‫وأرسلهم إلى محرك بحث «جوجل». ‫وقام بالبحث عن كلمة «مصر». ‫للشخص المحافظ، ظهر في البحث ‫«الإخوان المسلمون». ‫وللمتحرر ظهر «ميدان التحرير». ‫وللوسطي ظهرت له عبارة ‫«أماكن لقضاء العطلة على نهر النيل». ‫ طبقاً لتحيزاتك، ‫كان يتم إرسالك إلى المكان المناسب. ‫ويتم فرض ذلك عليك أكثر فأكثر ‫مع مرور الوقت. ‫هذا ما يحدث مع صفحات «فيسبوك»، تلك ‫التي يحصل منها الكثيرون على الأخبار. عند مرحلة معينة، ستجد أنك تعيش في فقاعة. ‫هذا جزء من أسباب ‫الاستقطاب السياسي الكبير حاليًا. ‫وأعتقد أنها مشكلة قابلة للحل، ‫ولكني أعتقد أنها مشكلة يجب أن تحظى بوقت طويل من تفكيرنا. ‫تبدو وكأنها أداة ذات قيمة كبيرة ‫تحولت ضدنا.

بعيدًا وحسب الانقسامات الأفقية على المستوى العمري الماثلة في الفجوة بين الأجيال، فنحن اليوم أمام هوة ممتدة رأسيًّا أيضًا على المستوى الثقافي والاجتماعي، عبر استقطاب فكري وسياسي غير مسبوق، جعل من المجتمع السياسي المصري والعربي جزرًا منعزلة انقطع بينها التواصل والحوار والود.

يجري كل هذا الشقاق السياسي والطائفي وسط حالة من الانقسام الاجتماعي وصلت حد إقامة جدر مادية ماثلة بين السكان على امتداد العمران، على غرار «المنطقة الخضراء» في بغداد والجدار الإسرائيلي الفاصل في الضفة الغربية؛ إلا أنها في البلاد العربية غير المحتلة كمصر صارت عبارة عن جدر خراسانية بين الطبقات الاجتماعية.

صارت المجتمعات المسورة كضواحي «الرحاب» و«مدينتي» وتجمعات الكومباوند المنتشرة في «الشيخ زايد» و«6 أكتوبر» والمقطم، هي النمط السائد للمجتمعات العمرانية الجديدة، ونحن هنا لسنا أمام انفصال في أماكن العيش وحسب، بل حتى في التعليم، حيث يذهب أبناء سكَّان تلك الضواحي وغيرها إلى مدارس أجنبية، تعتمد مناهج ومقررات أجنبية ليس فقط في المواد العلمية وحسب، ولكن حتى في تعليم مادة التاريخ، حيث يُدرس التاريخ الفرنسي أو البريطاني أو الأمريكي في أروقتها عوضًا عن تدريس التاريخ المصري والعربي.

يتحول هذا النمط العمراني بمرور الوقت إلى نمط عالمي، حيث تنوي إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كما هو معروف بناء جدار خراساني على طول الحدود الممتدة بين الولايات المتحدة والمكسيك، على نحو يعيد العالم إلى عصر الإمبراطورية الرومانية التي قام هادريان، أحد أباطرتها، ببناء سور حجري ممتد على طول إنجلترا الحالية للفصل بين سكَّان الإمبراطورية المتحضرين والبرابرة الهمج خارج السور.

بالعودة مرة ثانية إلى منطقتنا العربية، تحول كل تلك الانقسامات الجيلية والسياسية والطائفية والاجتماعية بنهاية المطاف، دون تكوين تيار رئيسي في المجتمعات العربية، حيث صار للجميع سردياته الصغرى، على نحو انهار معه التضامن السياسي والاجتماعي العام الذي كفل لنا في لحظة أخيرة أن نرى مشهد «ميدان التحرير» خلال ثورة 25 يناير؛ المشهد الذي قد لا يعود مجددًا في مجتمعاتنا التي صارت مهددة في مرحلة ما بعد إخفاق الربيع العربي باحتمالات وخيمة ومؤلمة مثل اندلاع ثورات الجياع أو تفجر الحروب الأهلية.