عرفت «أحمد مكي» كمغني راب للمرة الأولى عندما استمعت إلى أغنية «جدعان طيبين» التي غناها في فيلمه «إتش دبور»، وعلى الرغم من أن الأغنية لم تكن تتبع أحد أهم قواعد الراب المتعارف عليها، وهي أن المغني يجب أن يكون هو كاتب الكلمات، فإن الأغنية لاقت استحسانًا كبيرًا، وأظهرت قدرات جديدة عند المخرج والممثل أحمد مكي.

من بعد تلك الأغنية جرت العادة أن يصدر مكي أغنية راب مع كل عمل سينمائي أو تليفزيوني يقوم به، كما فعل في فيلم «طير إنت» وفيلم «لا تراجع ولا استسلام» ومسلسل «الكبير أوي»، وغيرها من الأعمال، وقد كانت جميعها أغاني جيدة مرتبطة بمغزى العمل وسياقه الدرامي المصاحبة له، ومن هنا فرض مكي نفسه على ساحة الراب في مصر والوطن العربي، وأصبح الجميع ينتظر أغاني أعمال مكي كما ينتظر الأعمال نفسها.

بالإضافة إلى الأغاني التي صاحبت أعماله أصدر مكي عدة أغانٍ أخرى بشكل منفرد، مثل أغنية «كل زمان» وأغنية «فيس بوكي» التي ظهر في أولها وهو يغني أغنية «الحاسة السابعة» من ألبومه الذي سيصدر لاحقًا بعنوان «أصله عربي» كإشارة منه لهذا الألبوم، وإعلانًا منه عن قرب موعد صدوره.


أصله عربي

صدر ألبوم «أصله عربي» عام 2012م بعد انتظار وترقب من كل محبي أحمد مكي، وقد كتب مكي كل كلمات أغاني الألبوم ما عدا كلمات أغنية «مية مية كانت هتفرق في الوداع»، التي هي في الأصل قصيدة من كلمات الشاعر «مصطفى إبراهيم».

ظهرت في هذا الألبوم رؤية أحمد مكي الفنية تجاه فن الراب باعتباره فنًا عربيًا في الأصل، وهو الرأي الذي عرضه في أغنية «أصله عربي»، كما أوضح الألبوم أيضًا ما يريد مكي أن يفعله من خلال هذا الفن، وهو أن يحكي من خلاله تجاربه الشخصية، وأن يتحدث عن الشارع المصري وحكاياته وعن الطالبية وأيام زمان، وقد ظهر ذلك بوضوح في الألبوم، سواء بشكل مباشر من خلال أغنية «الراب يا بشر»، أو بشكل غير مباشر من خلال ملاحظاتنا لمواضيع الأغاني.

أعلن مكي في هذا الألبوم عما يريد تحقيقه من خلال الراب، واستطاع أن يحقق ما أراد؛ فقد حكى تجربته المثيرة مع أول فيلم من إخراجه، وهو فيلم «الحاسة السابعة» في أغنية حملت اسم الفيلم نفسه، واستطاع أن يعبر بشكل ممتاز عن تفاصيل تلك التجربة وما أثارته بداخله من مشاعر، وما بقي بداخله من أثر وما استفاده منها.

تجربة أخرى ليست شخصية هذه المرة استطاع مكي أن يعبر عنها في أغنية «قطر الحياة»، وهي تجربة الإدمان، وقد كان مكي موفقًا في تعبيره عن تلك التجربة بجوانبها المتعددة، كما كان موفقًا أيضًا في قراره تصوير هذه الأغنية بطريقة الفيديو كليب، حيث ساهم ذلك في إثراء تلك التجربة من خلال الصورة، فأصبحنا وكأننا نشاهد فيلمًا قصيرًا يحكي عن تجربة الإدمان الأليمة، ليس فقط من خلال كلمات الأغنية وتفاصيلها، بل أيضًا باستخدام الصورة المعبرة عن تلك التجربة.

عبَّر مكي أيضًا في هذا الألبوم عن اشتياقه لأيام طفولته، سواء بشكل كوميدي في أغنية «زمان» التي تحدث فيها بشخصية «بهيج» التي قام بأدائها في فيلم «طير إنت»، متذكرًا برامج الأطفال القديمة وأشهر برامج الكارتون، أو بشكل جاد كما فعل في أغنية «أيام زمان» التي عبر فيها عن اشتياقه لأيام الطفولة وما بها من براءة يفتقدها الآن في شبابه بسبب تأثيرات الحياة وظروفها.

تحدث مكي أيضًا عن الشارع المصري بشكل عام في أغنية «حلة محشي»، كما تحدث عن منطقته بشكل خاص في أغنية «منطقتي»، وعلى الرغم من أن موضوع هذه الأغنية مكرر، وقد قام الكثيرون من قبله بتقديمه، فإن مكي استطاع أن يقدم الموضوع برؤيته الخاصة مسترجعًا تفاصيل حياته الشخصية التي عاشها في حي الطالبية، ومعبرًا عن مدى حبه لهذا الحي الذي ولد وترعرع فيه.


وقفة ناصية زمان

في أغسطس/آب 2017، أصدر مكي فيديو ترويجيًّا أعلن فيه عن اقتراب موعد صدور ألبومه الجديد، وقد ظهر في الفيديو وهو داخل الاستوديو مع أصدقائه يغني جزءًا من أغنية «وقفة ناصية زمان»، التي ستصدر لاحقًا بشكل منفرد وبطريقة الفيديو كليب في ديسمبر من نفس العام.

تحمس الجميع للألبوم بعد هذا الفيديو، إلا أن النتيجة جاءت هذه المرة مخيبة للآمال؛ فعندما نستمع إلى أغنية «وقفة ناصية زمان» نجدها نسخة مكررة من أغنية «منطقتي»، لم يأتِ فيها مكي بأي جديد، بل كانت عبارة عن إعادة صياغة لما قاله من قبل عن منطقته، منطقة الطالبية، ولم يتوقف الأمر عند التكرار فحسب، بل إن مكي قد أخذ في هذه الأغنية منعطفًا آخر تمامًا!

فلم يعد يتذكر في أغانيه أيام طفولته وذكرياته، بل أصبح يتكلم بلسان الواعظ الناصح، وأصبح يحدثنا – وهو بالكاد قد أتم عامه الـ38 – عن مدى بشاعة حاضرنا وعن مدى حلاوة زمان ووقفة ناصية زمان، وكيف كان القوي لا يفتري على الضعيف، وكيف كان الرجال يدافعون على نساء منطقتهم.

كما يحدثنا أيضًا عن أن وقفات النواصي الآن لم يعد أحد يحبها لما بها من ألفاظ بذيئة بعد أن كان الجميع يحب وقفة ناصية زمان، لتشعر وكأنك لست أمام عمل فني، بل أمام رجل كبير في السن يتحسر على عصره، ويعطيك درسًا في الأخلاق الحميدة، ويخبرك كيف كان زمانهم جنة، وكيف أننا الآن نعيش في غابة بلا أخلاق!


آخرة الشقاوة

أعلن مكي منذ عدة أيام عن نيته إصدار الألبوم في شكل أغانٍ يصدر كل منها بشكل منفرد حتى تأخذ كل أغنية حقها في الاستماع، وبعد ذلك بيومين أصدر الأغنية الثانية من الألبوم بعنوان «آخرة الشقاوة»، وهي الأغنية التي جاءت مؤكدة للاتجاه الجديد الذي قرر أن يسلكه مكي في أغانيه.

لم تختلف أغنية «آخرة الشقاوة» كثيرًا عن سابقتها «وقفة ناصية زمان»، فقد جاءت هي الأخرى لتؤكد اتجاه الوعظ الذي من الواضح أن مكي قرر أن يسلكه في هذا الألبوم؛ فقد جاء ليحدثنا عن رحلة تاجر مخدرات، بداية من أيامه الأولى ومراحل تثبيت نفوذه إلى أن كبر هذا التاجر وتوحش «والقرش لعب معاه»، حتى انتهى به الأمر بطبيعة الحال مقتولًا على يد قوات الشرطة.

كان كل ذلك يتم حكيه من خلال وجهة نظر مطواة تحدثنا عن رحلتها من يد إلى يد، ومن مجرم إلى مجرم، وتعظنا وتحذرنا من أن نسلك طريق «الشقاوة»؛ لأن نهايته مأساوية في أغنية ربما نمتدحها إذا وصفناها «بالكليشيه».

أغنية ربما يمكنك توقعها بالكامل من مجرد اسمها، أغنية خالية من أي صور بلاغية وأي تفاصيل، تحدثنا بكل سطحية عن تاجر مخدرات لا نعرف عنه أي شيء وعن رحلة صعوده في السوق إلى أن يلاقي مصرعه في النهاية بطريقة بشعة، لتشعر هذه المرة أيضًا أنك لست أمام عمل فني، بل ربما أمام واعظ ديني، أو أنك تحضر خطبة دينية يحذرك فيها رجل الدين من سلوك طريق المعاصي والذنوب لأن عواقبه وخيمة.


متى يعود مكي الذي نعرفه؟

ربما كان من الأجدر بمكي أن يعبر عما أراد قوله في هاتين الأغنيتين في بوست على الفيسبوك، أو في موضوع صحفي ينشره في إحدى الجرائد أو المجلات، لا في عملين فنيين، وذلك لأن طريقة الوعظ والنصح تلك أبعد ما تكون عن دور الفن الحقيقي؛ فدور الفن الحقيقي ليس في أن آتي وأخبرك أن التدخين مضر بالصحة مثلًا، أو أن أخبرك أن طريق تجارة المخدرات طريق خطير غير محمودة عواقبه.

فهذه الطريقة الخبرية من شأنها أن تؤثر فقط على عقلك الذي في الغالب يكون على دراية بما يُحذَّر منه، والذي في الغالب أيضًا يمكنه أن يحدثك عن مخاطر أخرى أكثر من التي قد تُحذره منها، إنما دور الفن الحقيقي يكمن في مخاطبة الإحساس والشعور، يكمن في الوصول إلى ما لا يمكن الوصول إليه عن طريق المباشرة، يكمن في إثارة مشاعرك وعواطفك وتعميق إحساس أو شعور ما بداخلك، عن طريق استخدام أدوات الفن المختلفة من مجازات ودلالات وصور.

إذا أردت مثلًا أن تصنع عملًا فنيًا تحذر فيه من خطر الإدمان وعواقبه فلا يمكنك أن تخبر للناس عن ذلك بشكل مباشر وتحدثهم بأن الإدمان يسبب كذا وكذا، ولكن من الأجدر بك أن تصيغ مثلًا قصة شاب ما بكل جوانب حياته المختلفة، تحدثني فيها عن معاناته وأسباب تلك المعاناة، وكيف أدت تلك المعاناة إلى هذا الطريق، وكيف بدأ هذا الطريق وكيف انتهى به الحال.

وتحدثني أيضًا عما يشعر به من أحاسيس، كما فعل مكي نفسه في أغنية «قطر الحياة»، مستغلًا ما يتيحه له الفن من أدوات تظهر تارة في تفاصيل الكلام وصوره، وتارة أخرى في تفاصيل الصورة وجمالياتها، كما تظهر أيضًا في تفاصيل الموسيقى وما تحدثه من تأثير.

بدأ مكي مع الراب بداية ممتازة في ألبومه الأول «أصله عربي»، لكنه سرعان ما ضل الطريق فيما ظهر لنا من أغاني الألبوم الجديد التي تثبت أن مكي قد بدأ يسلك طريقًا آخر غير الذي سلكه في ألبومه الأول. فقد بدأ يسلك طريق الوعظ والنصائح لا طريق الفن والإبداع، وما زلنا في انتظار باقي أغاني الألبوم كي نجيب على السؤال المطروح:

هل يُكمِل مكي في هذا الطريق أم يعود مكي الذي نعرفه؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.