اليوم بالتحديد – يوم بدأت قراءة الرواية التي نتعرض لها بالكتابة في هذا التقرير – كنت أتصفح الفيسبوك٬ قابلت فيديو لأحد البرامج الإنترنتية القصيرة٬ شاب يتجول في شوارع القاهرة ليسأل الناس أسئلة مختلفة ذات طابع خفيف ومضحك٬ بالصدفة يقابل رجلًا أسكتلنديًّا يرتدي التنورة الكاروهات المميزة لزيهم الوطني٬ بعد الكثير من المواقف المضحكة وبإنجليزية متعثرة يسأله «كيف وجدت مصر مختلفة عن باقي العالم الذي زرته؟» يجيب الأسكتلندي إجابة وجدتها وقتها لا تليق بالسؤال: «البشر كلهم متشابهون٬ كلنا في كل العالم بشر٬ في مصر، وأسكتلندا، والسودان، وأوغندا، ورواندا، وكيب تاون٬ كلنا متشابهون تمامًا، كلنا بشر».

في نفس اليوم بدأت قراءة الرواية التي نتحدث عنها اليوم٬ رواية «الوشم الأبيض» للروائي أسامة علام٬ أنا أؤمن جدًّا بالعلامات٬ وأشعر أحيانًا أنني أعيش دراما متقنة جدًّا٬ ولذلك بمجرد أن استغرقت في الرواية٬ حتى وجدت أن إجابة الرجل الأسكتلندي ذي التنورة الذي كان يتمشى في شوارع القاهرة، والذي أتاني عبر الشاشة صباحًا درامية جدًّا، وتليق بأن تكون افتتاحية اليوم الذي أقرأ فيه رواية أسامة علام.


تحت نفس الشمس

تحكي الرواية عن الدكتور أشرف المدني٬ طبيب الأمراض النفسية الأربعيني المصري المهاجر إلى كندا منذ ثمانية أعوام٬ والذي يقابل مريضًا استثنائيًّا يدعى جون سبستيان يؤمن أنه تناسخ لصانع وشم عاش في القرن السابع عشر٬ بل يؤمن أن أشرف نفسه تناسخ لصانع وشم آخر عاش في الحقبة نفسها.

للكثير من الأسباب تلمس رواية سبستيان وترًا في روح أشرف المدني، فيتورط في القصة مع شخوص آخرين٬ ليقابل مود بيير السمراء الفاتنة وأفراد أسرتها٬ ليصل في النهاية لحقيقته الخاصة التي لم يكن يعرف عنها أي شيء على الإطلاق.

الرواية هي رابع روايات أسامة علام٬ الطبيب المصري المقيم بكندا٬ والذي تتميز رواياته بمناقشة الكثير من الأبعاد النفسية للأبطال مع تاريخهم الشخصي أكثر من مجرد سرد لأحداث ووقائع تحدث لهؤلاء الأبطال٬ وقد تمكن في روايته التي نناقشها اليوم «الوشم الأبيض» من أن ينطلق من حدث يمكن أن يبدو عاديًا ليحكي سيرة أبطاله على اختلاف جذورها ومآلاتها.


فوق نفس التراب

البشر متشابهون للغاية٬ متشابهون لدرجة يمكن أن تثير الملل في بعض الأحيان٬ كل ما يحدث معك ومعي ومع كاتب الرواية ومع الشخوص الذين يكتبهم من نبت خياله٬ كلنا نتشابه تمامًا، كلنا نولد دون أي إرادة منا٬ نعيش أحداثًا مفجعة٬ على اختلاف الأسباب والتفاصيل٬ تلك الأحداث تطبع على أرواحنا وشمًا يميزنا٬ نعيش حياة صاخبة أو حياة هادئة محاولين مداراة حقيقة الفظائع التي شكلت شخصياتنا ونتهرب من الاعتراف بها٬ ونلصق وشم أرواحنا لأسباب غير حقيقية٬ ثم نرحل دون أي إرادة مرة أخرى.

تحدث أسامة علام في روايته على لسان شخصياته أكثر من مرة عن قوة العقل الجمعي٬ الذي أفنى كارل جوستاف يونج، العالم النفسي الشهير تلميذ فرويد، فيه عمره٬ العقل الجمعي باختصار مخل هو تراكم التاريخ الإنساني في داخل تلافيف مخك بشكل لا تعيه٬ ويحرك تصرفاتك دون أن تعرف.

وكأن التراب الذي خلقنا منه في البداية وسوف نعود له في النهاية يحتم علينا أن نكون متشابهين٬ في أحد أهم النقاط المفصلية في الرواية يتمدد أشرف على الأرض الترابية مع سيدة مسنة تنتمي لجنس الهنود الحمر٬ ليكتشف أنهم كبشر لا يختلفون عن بعضهم أبدًا، وكأنه لا داعي لكل هذا العدد من البشر ما دمنا جميعًا متشابهين إلى هذا الحد المروع.


كلنا بنجري ورا نفس السراب

في الرواية كل الشخصيات لديها هم مختلف تمامًا عن الآخرين٬ ومع ذلك فكلهم موصومون/موشومون بنفس الوشم المؤلم الذي يحرك خطوط حيواتهم حتى لو لم يفطنوا لذلك، وحتى لو عاشوا عمرهم كلهم يتظاهرون بالعكس٬ كلهم يعانون من الاغتراب المؤلم الذي يفصلهم جميعًا عن جوهر الحياة٬ ويحفزهم للجري وراء السراب الذي يرونه قادرًا على انتزاعهم من اغترابهم المزمن.

أشرف المدني يجري وراء سراب الاندماج في مجتمع المهجر الكندي حتى لا يشعر باغتراب الانفصال عن مجتمعه الأصلي رغم أنه لم يحبه يومًا، مود بيير تجري وراء سراب التفهم وتمثيل الرضا والحب لوالديها اللذين خذلاها على طول الخط٬ وجعلاها تعيش في اغتراب كامل عن قريناتها خجلًا من أهلها الموتورين٬ كارما ومريام اغتربا عن جوهرهما الحقيقي وكل منهما انطلق وراء سراب يؤمن به ما تبقى من قلبه٬ وفشلا بالطبع٬ وبالطبع والد أشرف الذي بزغ في نهاية الرواية ليعلن حتمية قدر أشرف في اغترابه وكأنه إرث ثقيل.

المعضلة الحقيقية للإنسان يعرضها علام في روايته من أكثر من منظور وأكثر من ثقافة وأكثر من خلفية٬ لتكتشف في النهاية أننا جميعًا نسخ مكررة لنفس الشخص بنفس الأقدار بنفس النهاية٬ مهما كانت شخصيتك وأيًا كان مكانك٬ أنت في النهاية إنسان٬ أنت ملزم أن تعيش قدرك كإنسان٬ وكأن السماء هي موطننا الأصلي الذي اغتربنا عنه عندما نزلنا الأرض٬ وأنه لا مفر من هذا الاغتراب أيًا كانت التفاصيل.