في مايو/آيار 2015 ألزم القضاء الإداري الحكومة باتخاذ ما يلزم لحجب المواقع الإباحية عن مصر.

كان ذلك بمثابة «كلاكيت خامس مرة» منذ أول حكم في هذه القضية عام 2009، ورغم ذلك لم تُحجب المواقع الإباحية، في حين حُجب أكثر من 500 موقع آخر، وهو ما يدعو للتساؤل البديهي: لماذا لم تُغلق المواقع الإباحية بالطرق نفسها التي أُغلقت بها المواقع الأخرى؟

ربما تكون إجابتك عن السؤال حاضرة، وهي أن الأمر سياسي، بمعنى أن الحكومة أغلقت المواقع الإخبارية التابعة لـ «المغضوب عليهم»؛ لتضمن السيطرة على الإعلام، في حين تركت «الضالين» أو المواقع الإباحية؛ لإلهاء الناس، وفتح المجال لتفريغ طاقة الشباب بعيدًا عن تفريغها في الثورة والمظاهرات، وهي إجابة ليست بخاطئة، لكنها تغفل جوانب وأسبابًا أخرى قد تكون أكثر أهمية.

أسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك أستعجب

في التكنولوجيا دائمًا هناك بدائل، والحجب لم يكن تجربة ناجحة في أي دولة قامت به.
خبير تقني

يؤكد خبراء التكنولوجيا أن التكلفة المبدئية لحجب المواقع الإباحية قد تتعدى 100‏ مليون جنيه، ولن تتجاوز نسبة تطبيقه 25%؛ بسبب تقنيات بروكسي وvpn، القادرة على تجاوز الحجب، فضلًا عن أن المواقع تقوم بتغيير IP Adress الخاص بها عند تعرضها للحجب.

أما قانونيًا فإن قانون «مكافحة جرائم تقنية المعلومات» يسمح للسلطات المختصة بحجب المواقع الإلكترونية حال ارتكابها جرائم «تهدد الأمن القومي»، وربما هذا هو ما سهّل حجب المواقع الإخبارية التابعة لجهات تشملها قائمة تهديد الأمن القومي، في حين أن المواقع الإباحية ليست على القائمة ذاتها، وربما هذا هو ما دفع أحد خبراء أمن المعلومات إلى الدعوة لحجب تلك المواقع؛ لأنها قد تصيب مستخدميها ببرمجيات خبيثة وفيروسات، مما يمثل خطورة على أمن المعلومات بمصر.

إلى جانب ما سبق فإن التصريحات الحكومية لمواجهة الإباحية تناقض الواقع بطريقة «أسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك أستعجب»، فقد أعلنت وزارة الاتصالات استحالة حصر هذه المواقع؛ لأنها بالملايين، وأكد رئيس الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات أن «الجهاز ليس من سلطته تنفيذ الحكم بالحجب، إنما يختص بمراقبة المحتوى»، وبالرغم من أن التصريحين ينفيان القدرة على الحجب إلا أن الواقع يقول إن الدولة استطاعت حصر وحجب أكثر من 500 موقع من مواقع «المغضوب عليهم» حتى الآن، كما تمكنت من حجب الإنترنت أثناء ثورة يناير 2011، دون قانون يسمح أو تشريع يمنح.

كليشيهات

هناك العديد من العبارات تُقال عند التساؤل عن أسباب انتشار المواقع الإباحية، ومنها: ضعف الوازع الديني، وتدهور الأخلاقيات، وأننا مُحاطون بالإباحية في الأفلام والمسلسلات والإعلانات التجارية عبر كل وسائل الإعلام والإعلان، إلى جانب الكبت والحرمان الجنسي، وتأخر الزواج وصعوباته المالية والاجتماعية.

لكنها تبقى «كليشيهات» يمكن هدمها، فعلى سبيل المثال: تأخر الزواج ليس دافعًا للإباحية في ذاته، فضلًا عن أن أعدادًا ليست قليلة من المتزوجين «زبائن» لدى هذه المواقع، وكذلك فالدول التي لا تعاني حرمانًا جنسيًا تشاهد الإباحية بملايين المشاهدات، وليس أدل على ذلك من تربع «الأمريكان» على عرش مشاهدي المواقع الإباحية.

عقبات صنعتها الإباحية

ترتبط بالإباحية استثمارات من نوع آخر، كعيادات الأمراض الجنسية وأمراض الذكورة والعقم، وتأخر الإنجاب والضعف الجنسي، وأدوية المقويات الجنسية، ومصحّات العلاج من إدمان الجنس والإباحية، كل هذه الأعمال وغيرها ستفقد «سبوبة» بإغلاق المواقع الإباحية، وقد يخرج علينا من يقول إن هذه الاستثمارات «فاتحة بيوت ناس كتير» من موردين ومستوردين وعمال وأطباء وصيادلة، و«محدش يرضى بقطع العيش».

أمرٌ آخر أفرزته واستغلته الإباحية، وهو أن متابعي هذه المواقع يفتحون نوافذها للمتعة، وإشباع الغريزة، وتفريغ الكبت الجنسي، وهو ما يُكثر استخدام تقنيات تخطي الحجب مع تلك المواقع، على عكس المواقع الإخبارية التي تصيب أخبارها ومقالاتها وتقاريرها بالاكتئاب واليأس والإحباط.

عقبات أخرى أنتجتها الإباحية، وهو أن معظم هذه المواقع مجانية بلا تسجيل دخول أو بيانات، وتصفحها قد يكون أسهل من تصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وتضم مجتمعات تواصل خاصة بها، فضلًا عن أن الإعلان على هذه المواقع أسهل من إعلانات «جوجل» و«أمازون»، وهو ما يساعدها على جلب ممولين كُثر، وكل ذلك يزيد انتشارها وصعوبة حجبها، إلى جانب أن هذه المواقع تنشر الثغرات التكنولوجية والبرمجيات الضارة، والتي صارت صناعة ضخمة متطورة، ويُنفق عليها الملايين، ويقف خلفها عمالقة تقنيّون يستغلون الإقبال على المواقع الإباحية لاختبار برمجياتهم وتطويرها.

فوائد الإباحية

يتبنى الكثيرون من اليسار الليبرالي وجهة نظر تقول إن منتجي الإباحية ليسوا رجال أعمال، لكنهم يطلقون العنان لحياتنا الجنسية من القيود التي تفرضها الدولة، وقد انعكست هذه الرؤية في فيلم The People vs Larry Flynt، الذي صوّر الملياردير الناشر للإباحية بالمقاتل من أجل حرية التعبير.
Gail Dines أحد مناهضي الإباحية.

مبدئيًا نحن لا ننشر ذلك كدعوة لمشاهدة هذه المواقع، إنما كعقبة من عقبات حجبها، وهو ما يُروّجه صانعو الإباحية بأن مشاهدتها ليست إدمانًا، ولا تؤثر سلبًا على الصحة، وليس بينها وبين المشكلات الجنسية رابط مباشر؛ فضلًا عن التباين في ردود أفعال وسلوكيات مشاهديها.

كذلك يروّجون لدراسات وتجارب تفيد بأن مشاهدة المقاطع الإباحية تُحسّن الأداء الجنسي والسلوكيات الجنسية، وتزيد المتعة الزوجية، وتوفّر منفذًا آمنًا للسلوكيات الجنسية، وتساعد الذين يعانون من الإثارة الجنسية وحدّة الشهوة بعيدًا عن اتهامهم بالمرض أو الاختلال الجسدي.

ويعوّلون كثيرًا على استخدام الأفلام الإباحية في التثقيف الجنسي، وزيادة التوعية الجنسية، متغاضين عن التأثيرات قصيرة وطويلة الأجل لمشاهدتها، وهو ما يمكن أن نطلق عليه «باطل يُراد به باطل»؛ لأن التثقيف الجنسي يبدأ بثقافة طبية وجسدية وتشريحية، وأمور أخرى لا توفرها الأفلام الإباحية التي تلعب على الرغبة والمتعة والجموح الجنسي، بلا وعي أو تثقيف أو تعليم.

ولا يحيطون كلامهم بغلاف دعائي يحافظ على استثماراتهم، بل يؤيدون كلامهم بأبحاث وتقارير وآراء لمتخصصين. ويمكنك الاطلاع على تقرير نشره موقع salon الأمريكي تحت عنوان: لماذا يجب أن تشاهد الاباحية؟، اعتمد فيه على ذكر دراسات وأبحاث، وتقارير علمية وأمنية، وآراء لمتخصصين؛ لعرض جوانب مفيدة للإباحية، مؤكدًا أن انتشار الإباحية يقابله انخفاض حاد في الاعتداء الجنسي على النساء، وأنه لم تثبت أي علاقة سببية بين زيادة المواد الإباحية والجرائم الجنسية، كما ذكر التقرير أن من فوائد الإباحية الشعور بالرضا الجنسي، وزيادة الخصوبة، وتحسين العلاقة الزوجية، والتخلص من التوتر الجنسي، والمساعدة على زيادة التركيز والنوم بشكل أفضل، وتحسين ثقة الفرد بنفسه، والتقليل من تقلصات الدورة الشهرية وتوتر العضلات والإصابة بالتهابات المسالك البولية وسرطان البروستاتا.

واعتبر التقرير أن الإباحية تستهدف «إحداث تغيير ثقافي مجتمعي» للطريقة التي يتم تمثيلنا بها ككائنات ذات رغبة جنسية، واصفًا الإباحية بـ «الجنس الآمن»؛ لأنها لا تنقل أمراضًا جنسية، ولا تُنتج حملًا، ولا تعد زنًا حقيقيًا، ويمكن استخدامها كوسيلة مساعدة لممارسة الجنس بين الزوجين وتعزيز العلاقة الحميمة بينهما، كما أن كثرة مشاهدتها تساعد على «تطبيع» الحياة الجنسية، وشيوع الحديث عن الجنس دون خجل، مما يساعد على استخدام الجنس في الإيجابيات دون السلبيات، ويغيّر النظرة إلى الرغبات الجنسية ويسهّل معرفة الميول الجنسية، ومعالجة الجامح منها أو المحرم.

بالطبع كل ما سبق «يطفح بالتدليس»، ويمكن رده، لكننا أوردناه كعينة بسيطة مما يتم ترويجه ودعمه بدافع الحريات حينًا، والفن حينًا، والثقافة حينًا، والعلم حينًا.

اقتصاديات الإباحية

تحولت الإباحية من صور عارية بمجلة «تحت السرير» إلى سلعة يمكن الوصول إليها، حتى صارت صناعة عالمية ضخمة، حققت عام 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية – أكبر حاضنة لمنتجي ومشاهدي الإباحية – إيرادات تتراوح بين 2 إلى 4 مليارات دولار، وعام 2018 ارتفعت الإيرادات إلى حوالي 90 مليار دولار، وهو ما يدل على أنها صناعة نامية ومتطورة.

وهذه التقديرات بدون حساب «متعلقات» الصناعة، مثل الألعاب الجنسية، ومتاجر بيع أدوات الجنس وأفلامه، ومبيعات صور نجوم الإباحية، وكلها أمور تولّد أيضًا إيرادات ضخمة، وترسّخ قوة هذا الاقتصاد، بحيث يتعذر اقتلاعه أو منعه.

من ناحية أخرى فإن الإباحية جزء من اقتصاديات أخرى، وهو ما يجعل أمر حجبها أو الخلاص منها أعقد؛ إذ لا يقتصر توزيع إيراداتها على المنتجين والممثلين، بل هناك مصممو مواقع الويب، والموزعون، وفرق التصوير والمونتاج والدعاية، وشركات صناعة الكاميرات ومعدات التصوير والإضاءة، وينفق هؤلاء الأشخاص أموالهم على شراء منازل وسيارات وأطعمة وملابس… إلخ، لذا فهم يساهمون في حركة التجارة وعجلة الاقتصاد.

هذا فضلًا عن دور الإباحية كمحرك ومطوّر للتكنولوجيا، وأدواتها ومستلزماتها وتقنياتها، وتقنيات تخزينها ونشرها على الإنترنت، وكل ذلك اختبرته وطوّرته الإباحية قبل وسائل الترفيه الأخرى، وهو ما جعلها صناعة عالمية ضخمة الاستثمارات، ولها جوائز عالمية لا تقل في شهرتها وإمكانياتها واحتفالاتها عن الأوسكار، ويقف ضد مناهضيها العديد من الشخصيات العالمية في مجالات مختلفة سواء كانوا مرتزقة أو مقتنعين بما يفعلون، من خلال تصريحات وكتابات على المواقع الإلكترونية والصحفية، ومؤتمرات وحملات مؤيدة للإباحية.

جانب آخر مهم من جوانب اقتصاديات الإباحية نلحظه من خلال ضخامة أحجام البيانات المتداولة على المواقع الإباحية، ومليارات المشاهدات والزيارات، ويكفينا هنا الإشارة إلى تقرير موقع PornHub لعامي 2016 و2018؛ للوقوف على ضخامة الصناعة، وضخامة نموها وتطورها في عامين فقط.

ففي تقرير PornHub لعام 2016، تمت مشاهدة مقاطع تبلغ مدتها حوالي 5246 قرنًا! من خلال حجم بيانات «يعادل 194 مليون USB بسعة 16 جيجابايت، تمتد لمسافة 11000 كم، وهو أكبر من محيط القمر».

وفي تقرير PornHub لعام 2018 كان حجم البيانات «أكثر من المستهلكة على الإنترنت بأكمله عام 2002، وتحتاج إلى 115 عامًا لمشاهدتها».

 

وبالرغم من ضخامة الأرقام والإحصاءات، إلا أن الأرقام الدقيقة لحجم الصناعة لا تزال محاطة بالغموض، ولم يُكتب سوى القليل عن أطراف هذه الصناعة، لكن المؤكد أن الإباحية أحد أكثر أشكال الوسائط استهلاكًا، كما باتت موضوعًا إخباريًا شائعًا، خاصة بعد اتهام فنانات إباحيات للرئيس الأمريكي ترامب بالتحرش الجنسي أو إقامة علاقة جنسية معهن.

تعد هذه الأسباب مجتمعة أقوى من قدرة أي نظام حاكم، وتجعل من الإباحية صناعة لا تُحجب، نحن لا نستثني مسئولية الحكومة المصرية عن حجب هذه المواقع، إنما فقط نعرض أجزاء من الصورة قد يغفل عنها البعض، فلربما ندرك أن إستراتيجية الحجب لم تعد تجدي نفعًا، وهذا الوحش النامي يحتاج إلى إستراتيجيات أقوى، في ظل أن الحجب قد يُعطل أو يقلل، لكنه لا يمنع.