في يوليو 2017 كان معدل التضخم العام في مصر هو 32.9 %، قالت الصحافة إن هذا المعدل هو الأكبر في آخر 30 سنة، لكن معظم المصريين كانوا يشعرون أن الأسعار قد زادت في أغلب السلع للضعف. لماذا إذن لم يعبر هذا الرقم عن الواقع الفعلي؟ وهل يمكن أن يختلف معدل التضخم الذي نشعر به باختلاف مواقعنا الاجتماعية ومستويات دخولنا؟

تسعى هذه المقالة لتسليط الضوء على الإجابات الجديدة التي عرضها الباحث المصري محمد سلطان، في كتابه «أكبر من أن ترى: عن الإدراك الاجتماعي للأزمات الاقتصادية»، الصادر عن دار المرايا، وفي ورقتهالمنشورة ضمن كتاب «في البحث عن مؤشرات اقتصادية بديلة» الصادر عن ذات الدار بالتعاون مع منتدى البدائل العربي للدراسات. ويركز المقال على مؤشرين من المؤشرات الاقتصادية هما التضخم ومعدلات الفقر ، محاولين أن نكتشف سويًا مقدار العوار فيهما.


الاقتصاد الأعمى أم «الاقتصاد الموضوعي»؟

ثمة ما يمكن أن نسميه الاقتصاد الأعمى، الاقتصاد الذي لا يرى البشر، الذي يتعامل معهم بوصفهم أجسامًا مصمتة لها ذات القدرة على التحمل. يتغاضى الاقتصاد الرسمي عن طبيعة تلك الأجسام، مواقعها الاجتماعية، وقدراتها المتباينة على تحمل الأزمات الاقتصادية، يتعامل مع كل ذلك بما يشبه العمى الكلي، أو ما يسميه الاقتصاديون «الموضوعية الكاملة».

على سبيل المثال، ينظر للتضخم في العادة كمؤشر معبر عن الزيادة في أسعار السلع والخدمات، لكن هل يستهلك الفقراء نفس نوعية السلع التي يستهلكها الأغنياء؟ هل يمكن أن يوضح لنا معدل التضخم العام – ما يعرف بمؤشر أسعار المستهلك «CPI» – كيف يعاني الفقراء؟

وتزداد حدة النقاش حول مدى فعالية المؤشرات الاقتصادية الحالية في أوقات الأزمات، إذ يتعمد الاقتصاديون في غالب الأحيان استخدام لغة اصطلاحية جافة لوصف الأزمات، تعتمد على ترجمة دقيقة حرفية للمصطلحات الاقتصادية الغربية، والتي تبدو خارجة عن سياق فهمنا .

مثلًا يطلق على الغلاء لفظ «التضخم»، الذي يشير بشكل جاف إلى مجرد الحجم أو الضخامة، بينما يعكس التعبير الشعبي للمصطلح الطبيعة الموضوعية للأزمة، الأسعار قد زادت والغلاء من «الغلو» قد حل.


تضخم الفقراء وغلاء الأسعار

يقترح سلطان استخدام ما يمكن أن نسميه «معدل تضخم الفقراء». لكي نفهم ذلك علينا أن نفهم أولًا كيف يتم حساب معدل التضخم الرسمي «مؤشر أسعار المستهلك».

لكي يصدر المسئولون رقمهم الموحد عن التضخم لا بد أن يحشروا المصريين في نمط إنفاق واحد، رغم اختلاف مستويات دخولهم. يتم حساب معدل التضخم بناء على الزيادات الشهرية أو السنوية في بنود الإنفاق المختلفة، الغذاء والسكن والوقود والملابس وغيرها . ومن خلال حساب متوسط الزيادات في تلك البنود ومقارنتها بالفترة الزمنية السابقة نحصل على معدل التضخم العام.

يفترض معدل التضخم هذا بالطريقة تلك ، أننا جميعا كمصريين ننفق المال على 12 بندًا للإنفاق ، 40% للغذاء، 6% على الصحة، 18% على الإيجار وهكذا. يقول المركزي للإحصاء، إن تلك النسب ليست جزافية وإنما نتيجة أبحاث ميدانية وأن تلك النسب تحدّث كل فترة.

لكن إذا دققنا في شرائح الإنفاق التي يرصدها بحث الدخل والإنفاق في مصر سنجد أنه يرصد أكثر من 20 شريحة إنفاق، تبدأ من أسر لا يتخطى إنفاقها الشهري 10 آلاف جنيه سنويًا، إلى أسر يتخطى إنفاقها 100 ألف جنيه في السنة، فكيف إذن يعبر معدل تضخم واحد عن هذا التفاوت؟

فبحسب المعدل العام للتضخم، فالأسر توجه حوالي 40% من إنفاقها على بند الغذاء، لكن إذا نظرنا للشريحة الأولى من الإنفاق، الأقل من 10 آلاف جنيه سنويًا، سنجد أنها وبحسب الأرقام الرسمية تنفق 56% على هذا البند، وبالتالي سوف يتأثر هؤلاء بصورة أكبر بالزيادة في أسعار الغذاء .

غالبًا ما ينفق الأشخاص تحت خط الفقر معظم دخلهم على بند الغذاء، وهو ما لا يظهر في المؤشر العام للتضخم، لأنه في الغالب -بحسب محمد سلطان – يغطي المساحة ما بين 3300 جنيه شهريًا من الدخل و5000 جنيه. وبالتالي لا يخبرنا بشكل دقيق عن كيف أثرت زيادة الأسعار على من دون الـ3300 جنيه شهريًا، وما فوق الـ5000 جنيه شهريًا .

يعبر هذا القصور عن حاجة ماسة في تصميم مؤشرات تقيس التضخم بناء على مستويات وشرائح الدخل والإنفاق المختلفة، نحتاج مثلًا أن نقيس معدل التضخم لمن هم على حدود خط الفقر، ومن هم أسفل هذا الخط.

وبحسب الباحث، ففي 2015 كان معدل تضخم الفقراء ومعدل التضخم العام متقاربين. كان هذا قبل قرار التعويم والتضخم الانفجاري الذي أنتجه هذا القرار فيما تلى نوفمبر 2016، والذي زادت على إثره الفجوة بين معدل التضخم العام ومعدل تضخم الفقراء، كما نرى في الشكل التالي:

المصدر: خط التضخم العام وتضخم الغذاء من بيانات الجهاز المركزي للإحصاء

ليست تلك المشكلة مشكلة مصرية فقط، لكنها مشكلة أكبر في طريقة نظر الاقتصاديين للمؤشرات الاقتصادية وكيف تنعكس على الفئات الاجتماعية المختلفة.

يقترح «إنجوس دايتون»، وهو اقتصادي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2015 عن مجمل أعماله لإيجاد مؤشرات بديلة لقياس الرفاهية واللامساواة في الاقتصاد،تصميم معدل تضخم خاص بالفقراء، يسميه معامل القوة الشرائية للفقراء وذلك لأن نسب الإنفاق للفئات المتوسطة والعليا لا تتشابه مطلقًا مع نمط إنفاق الفقراء.

لأن ما يحدد حجم نسب الإنفاق في الحسابات القومية يمكن أن يكون سعر السلعة نفسها وكميات استهلاكها العامة وليس نسبة إنفاق الفقراء عليها. لهذا يمكن أن تظهر السلع الرفاهية أو المعمرة في الحسابات القومية بأوزان نسبية مبالغ فيها لمجرد أن أسعارها مرتفعة مقارنة بالسلع الاستهلاكية التي يتركز إنفاق الفقراء عليها.


السقوط من الفقر للجوع

الفرق بين معدل تضخم الجوعى ومعدل تضخم الغذاء ومعدل التضخم العام الرسميين في الفترة من يوليو 2009 إلى يوليو 2017
الفرق بين معدل تضخم الجوعى ومعدل تضخم الغذاء ومعدل التضخم العام الرسميين في الفترة من يوليو 2009 إلى يوليو 2017

على الجانب الآخر من أرقام ومعادلات الأزمات الاقتصادية، ثمة نسبة الفقر. تزيد نسبة الفقراء كلما زاد التضخم وإذا أضفنا لذلك أن للتضخم تأثيرات متباينة على الفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة كما أسلفنا، فسنجد أنفسنا أمام معضلة أخرى، كيف يمكننا قياس الفقر في المجتمع؟

بحسب البنك الدولي فإن معدل الفقر هو عند مستوى دخل 1.9 دولار يوميًا، يعني ذلك حوالي 950 جنيهًا للفرد شهريًا، وهذا يعني أن أسرة مكونة من أربعة أفراد يجب أن يتجاوز دخلها الشهري 3800 جنيه من أجل أن تعبر فقط خط الفقر .

وبغض النظر عن دلالة هذا الرقم الكبيرة والتي تشير إلى وقوع قرابة نصف المجتمع تحت خط الفقر، وبعيدًا عن تعقيدات حساب الدخل الحقيقي في مصر لزيادة مساحة الاقتصاد غير الرسمي، دعونا فقط نركز على الأرقام الرسمية التي تقيس الفقر في مصر .

خط الفقر المدقع، أو ما يسميه محمد سلطان «خط الجوع»، وفقًا للتعريف الرسمي لجهاز الإحصاء المصري، هو خط يميز مجموعة الأشخاص الذين لا يكفي كل دخلهم لتلبية حاجتهم الأساسية من الغذاء. هم محبوسون في بند إنفاق واحد ولا يستطيعون الخروج منه. وبالتالي فإن التضخم الحادث في أسعار الغذاء هو فقط ما يخصهم، وليس التضخم العام الذي يدخل في حسابه بنود إنفاق أخرى مثل الثقافة والترفيه والخدمات الفندقية والمطاعم، والإنفاق على صيانة المركبات الخاصة، وغيرها من بنود الإنفاق التي لا تخص الجوعى بأي شكل.

دائمًا ما تكون معدلات التضخم في بند الغذاء أكبر بكثير من معدلات التضخم في البنود الأخرى للإنفاق، لتأثره بعوامل متعددة، يعني هذا أن قدرة من هم على حدود خط الفقر تتأثر بشدة لأي ارتفاع في أسعار السلع.

بحسب آخر بحوث الدخل والإنفاق المنشورة في 2015، قبل عام من التعويم، والتي لم تظهر أرقامها حتى الآن بعد مرور أربع سنوات عليه، فإن نسبة من هم تحت خط الفقر المدقع 5.3% من سكان مصر، ونسبة من هم تحت خط الفقر هي 27.8% من سكان مصر هذا يعني أن المنطقة الصغيرة بين خط الفقر المدقع وخط الفقر القومي، وهي تقريبًا 10 آلاف جنيه سنويًا للأسرة، يوجد بها 22.5% من المصريين.

ولاستيعاب مدى ازدحام هذه المنطقة بين خطي الجوع والفقر تعالى نقارنها بالمنطقة العليا في خريطة توزيع الدخل. هناك أقل من 20% من الأسر موجودون في المنطقة بين مستويي دخل 55 ألف جنيه سنويا و7 ملايين جنيه. أي أن هناك مساحة تمتد لأكثر من 6 ملايين جنيه سنويًا يسكن بها عدد أسر أقل من عدد الأسر التي تسكن في المساحة الضيقة، العشرة آلاف جنيه الفاصلة بين خطي الجوع والفقر.

يمكن القول اعتمادًا على البيانات الرسمية أن هذه الـ10 آلاف جنيه هي ثاني أكثر المناطق ازدحامًا في خريطة توزيع الدخل المصرية. وأكثر المناطق ازدحامًا هي الـ10 آلاف جنيه التي تعلو خط الفقر مباشرة حيث يقبع في هذه المنطقة أكثر من 24% من الأسر.

التوزيع النسبي لفئات الدخل السنوي للأسر، مصر، اقتصاد
التوزيع النسبي لفئات الدخل السنوي للأسر، مصر، اقتصاد

بحسب سلطان، فإن ما تقوله البيانات الرسمية في الشكل السابق أن خطي الجوع والفقر إذا تحركا قليلًا يمينًا أو يسارًا، فإن أعداد ونسب الجوعى والفقراء ستختلف كثيرًا؛ لأن منطقتي تحركهما مكتظة بالشكل الذي يجعل من أي ارتفاع أو انخفاض طفيف في تقديراتهما المالية، أمرًا يمكنه أن يضيف أو يخفض الملايين في إحصاءات الجوعى والفقراء.

تشير هذه البيانات إلى الضرورة الملحة للتدقيق في نسب التضخم الذي نعالج بها تلك الخطوط إذا كنا نريد أن نرى ونقلص أحجام الفقر والجوع الحقيقي .

تستمر عجلة الاقتصاد في الدوران، وتستمر الصحافة في الكتابة عن معدلات النمو التي تحققها الحكومة تحت القيادة الرشيدة . يمدح الكثيرون الإصلاح الاقتصادي وإجراءات التقشف وينتقدها الكثيرون . لكن تبقي وحوش التضخم والفقر كامنة لا أحد ينتبه لها ولا لتأثيراتها المختلفة على الفقراء ومتوسطي الدخل وهم الفئة الأكبر. ونسعى لعلاج مشكلة لا نملك من الأدوات ما يمكننا به معرفتها، إذ تظهر أرقام الفقر والتضخم كأرقام دون دلالات حقيقية، لأنها في النهاية أرقام غير حقيقة .