«لو لم تكن بيروت لاخترعناها»، إنه عنوان المقالة التي كتبها الصحفي السوري كمال شاهين في السادس من شهر آب/ أغسطس 2020، إبان انفجار مرفأ بيروت، قال فيها: لا يكاد يوجد رمزٌ سوريّ إلا وحط رحاله في بيروت، إقامةً أو منفى أو عبورًا، لا بل إن كثيرًا منها بدأ هناك، حيث الكلمة يمكن أن تعيش وتزهر بعيدًا عن مقصّات النوايا والأفكار.

إنها «ست الدنيا» كما وصفها الشاعر السوري نزار قباني، والحسناء التي هام في عشقها الأديب السوري أدونيس، وقال: ليس لأحد أن يعلمني حب بيروت، في الوقت ذاته المرأة البسيطة التي تغسل ثيابًا وإذا بان فخذاها قالوا عنها عاهرة، كما قال الشاعر والمسرحي السوري محمد الماغوط.

بيروت نافذة السوريين إلى العالم قبل حربهم وبعدها، كما استقبلت أدباء سوريا، احتضنت مشرديها، وعابري الطريق، والمسافرين، والباحثين عن أحبتهم، وفتحت ذراعيها للحالمين بحياة أفضل.

استقبلت لبنان منذ بداية الحرب في سوريا في العام 2011 أكثر من مليون لاجئ سوري مسجل لدى «المفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين». وتقدّر الحكومة اللبنانية أن عدد السوريين الفعلي في البلاد هو 1.5 مليون شخص.

مدينة الجهات الأربعة

محمد إبراهيم صحفي سوري انتقل للعمل في بيروت في العام 2016، يصف يومه الأول لموقع إضاءات: تشعر وأنت تدخل إلى بيروت، أنك تمسك بالجهات الأربع، كل شيء في متناول النظر، الجبال والبحر، حتى خط الأفق يبدو أقرب ليناسب مساحة هذا البلد الصغير.

يشرح محمد، 30 عامًا، علاقته ببيروت: لم أكن جاهزًا نفسيًا للسفر، لكن ظروف الحرب في سوريا أجبرتني، كانت بيروت خياري الوحيد، بقيت فيها حتى منتصف شهر آب/ أغسطس الماضي، هذا الشهر الذي حمل مصيبة إلى المدينة، فجرها وشرد أهلها وكنت أنا منهم، غادرت بعدها إلى مدينة أربيل العراقية.

ويضيف: بيروت في داخلي كمحفظة تمتلئ بأغاني فيروز والتراث الرحباني، كنت مشتاقًا لزيارة شارع الحمراء، الشارع الذي كان ملاذًا للكتاب السوريين والعرب، لكنه تحوّل لمنغّص حقيقي، كونه مليئًا بأطفال سوريين، حفاة في الغالب لا يسترهم إلا خرق بالية من الملابس، يمتهنون بيع العلكة كمحلل للتسول، أو يتسولون بشكل مباشر.

بقيت بيروت كريمة مع محمد كما توقع منها، وجدت له ركنًا دافئًا وعملاً، ورغم جراحها، حملت حقيبته وودعته في مطار رفيق الحريري، يقول: كانت فعلاً بوابة العبور، لأنني لم أكن أستطيع السفر إلا من خلالها، لصعوبة السفر من مطار دمشق الدولي إلى أي وجهة في العالم، نتيجة العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، وتوقف خطوطها الجوية مع معظم الدول.

بلد الفساتين والقهوة

تبدأ قائمة مشتريات السيدة أنطوانيت بالنسكافيه والكوفي ميت وكريمات التجميل الأصلية، ولا تنتهي بقائمة أدوية الضغط والقلب وحليب الأطفال المفقود من أسواق وصيدليات سوريا منذ بداية الحرب، تقول: نعاني في سوريا من فقدان بعض السلع خاصة الأدوية وحليب الأطفال، لذلك بيروت وجهتنا الأولى.

وتضيف أنطوانيت التي تجاوزت الخمسين من عمرها: اختفت معالم الحداثة من بلادنا التي تعاني الويلات، وعجلة التطور العمراني متوقفة فيها، لا استثمارات خارجية في سوريا منذ بداية الحرب، أضحت تخلو من أي وكالة أو براند، تتمنى أن ترى برجًا عاليًا أو مطعمًا أجنبيًا.

أكثر ما أحبته أنطوانيت خلال زيارتها الأخيرة إلى بيروت، الفستان الذي اشترته من وكالة تركية في أسواق بيروت، وفنجان القهوة الذي احتسته في ستاربكس، إنها طقوس اختفت من سوريا تمامًا.

طريقنا الوحيد لكل شيء

الطريق بين بيروت ودمشق أقصر من الطريق بين دمشق وأي محافظة سورية، كما أنها همزة الوصل بين السوريين وأحبائهم في الخارج، بعد أن أُغلقت معظم السفارات الأوروبية في دمشق. هذه الكلمات الأولى للسورية روان السيد عند سؤالها عن علاقتها في بيروت.

تقول روان، 33 عامًا: زرتها لأول مرة في العام 2018، كانت وسيلتي لإتمام إجراءات لم الشمل (إحدى الوسائل المعروفة للهجرة) في السفارة الألمانية في شارع الرابية، قضيت ليلة كاملة في شوارعها، طليت عليها من الشباك، وكأنها طريقي الأول لوجهتي إلى أوروبا.

تكررت بعدها زيارة روان إلى بيروت لإجراء مقابلة في السفارة الألمانية، لتتمكن من السفر إلى زوجها، الذي غادر سوريا في بداية الحرب واستقر في ألمانيا، تقول: بيروت الطريق الطبيعي المرسوم أمامنا للهجرة أو الدراسة أو التسوق، تربطنا وحدة التاريخ والجغرافيا والمصير.

وتضيف: انتشار فيروس كورونا في لبنان بداية العام الماضي، وفرض الحجر الصحي، أغلق الطريق أمام العديد من السيدات السوريات المنتظرات للموافقة على أوراق لم الشمل، وانفجار مرفأ بيروت دمّر معهد غوته الذي يجري السوريون اختبارات اللغة فيه، بعد إغلاق المركز الثقافي الألماني في دمشق منذ العام 2011م.

شارع الحمراء في مدينة بيروت

لقاء على الطريقة الشيوعية

وسط بار أبو إيليا بشارع الحمراء في بيروت، التقى ماهر خطيبته هند، كان لقاءً على الطريقة الشيوعية، كما وصفه لموقع إضاءات، يقول: الجدران كلها حمراء، والرموز الشيوعية في كل مكان، تشعر وكأنك تزور لينين في منزله، اخترته لأنه المكان ذاته الذي ودَّعت فيه هند قبل سفري.

غادر ماهر سوريا منذ ثلاثة أعوام إلى أوروبا، لا يمكنه العودة لأنه متخلف عن الخدمة العسكرية الإلزامية، بينما بقيت هند لتكمل دراسة اللغة الإنجليزية في جامعة دمشق، يقول: قبل انفجار مرفأ بيروت بأسبوع واحد التقيت بهند، خططنا مسبقًا ليتزامن وصولي مع موعد تقديمها امتحان اللغة الإنجليزية الدولي «آيلتس» في بيروت، لعدم وجود أي فرع للمجلس الثقافي البريطاني في سوريا.

أما هند فحبها لبيروت مصبوغ بالروائح والذكريات والصور، تقول: لا يمكن أن أنسى تلك الرائحة، رغم أنني أصبت بفيروس كورونا، وفقدت حاسة الشم، لكن يبدو أن الروائح تبقى كالصور عالقة في الذاكرة، كلما شاهدت بيروت على التلفاز، عادت إلى أنفي رائحة أزهارها وشوارعها، وتذكرت خطيبي ماهر.

ترى هند أن لكل سوري علاقة وثيقة ببيروت منذ صغره، فهي أطلت يوميًا على صباحات السوريين عبر القنوات الفضائية اللبنانية، في الوقت الذي لم يكن لديهم سوى قناة فضائية واحدة، وهي أيضًا جارة دمشق التي غنت لها السيدة فيروز «أحب دمشق هوايا الأرقا أحب جوار بلادي».

تاريخ من الأذرع المفتوحة

ومنذ ستينيات القرن الماضي فتحت بيروت ذراعيها للسوريين، ومنهم المثقف السوري جورج طرابيشي، ورئيس تحرير مجلة «دراسات عربية» التي لعبت دورًا في تشكيل وعي جيل من السوريين، وفيها أيضًا عاش صادق جلال العظم ونشر كتابه «نقد الفكر الديني»، ولا تزال مكتبات بيروت إلى الآن مفتوحة أمام السوريين للحصول على الكتب الممنوع نشرها وبيعها في سوريا.

وعندما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي، كتب الشاعر السوري نزار قباني الذي عاش في بيروت، قصيدة «ست الدنيا يا بيروت»، نشرها في ديوانه «إلى بيروت الأنثى مع حُبّي»، طالب فيها بيروت أن تقوم وتواجه ظروف الحرب الصعبة، قال فيها: قومي من تحت الردم كزهرة لوز في نيسان.. قومي من حزنك قومي.. إن الثورة تولد من رحم الأحزان.

وفي مطلع التسعينيات تحوّلت القصيدة إلى أغنية شهيرة من ألحان جمال سلامة، وغناء المطربة اللبنانية ماجدة الرومي، وحققت نجاحًا واسعًا، لتصبح فيما بعد نشيدًا يتردد في المناسبات الوطنية، وبعد انفجار مرفأ بيروت في أغسطس الماضي، أعاد السوريون واللبنانيون مشاركة الأغنية على الإنترنت للتعبير عن حزنهم لما حل بها.

كوابيس بيروت

وثقّت الكاتبة السورية غادة السمان الحرب الأهلية اللبنانية، من خلال مجموعة من الروايات الطويلة، حملت اسم «كوابيس بيروت»، تم إصدار الطبعة الأولى منها في أكتوبر 1976 م، وهي مجموعة مذكرات كتبتها السمان من قلب منزلها في بيروت أثناء الحرب.

تمددتُ على الأريكة في الصالون، كان الظلام دامساً وجميع الأنوار مطفأة.. تعلّقت نظراتي بشقوق النوافذ المحكمة الاغلاق المفتوحة الزجاج. ظللت اتأمل شقوق النوافذ (القمريات) أي النوافذ الصغيرة المستديرة الملاصقة للسقف وتوجد في أكثر البيوت الدمشقية والبيروتية القديمة. كان الغرض منها إدخال مزيد من النور نهاراً إلى الغرفة الشاهقة الجدران، أما الآن بدت لي مثل أسلحة فتاكة.. هكذا تمددت وحيدة وخلف القمريات كانت الصواريخ والقنابل المنفجرة تلتمع كعاصفة رعدية جهنمية لا تهدأ.
الكاتب غادة السمّان، رواية «كوابيس بيروت»

وفي المقابل لعبت دمشق دورًا في حياة العديد من الأدباء والشعراء اللبنانيين، ومنهم المطرب والمسرحي نصري شمس الدين، الذي توفي في 18 آذار عام 1983، وهو يغني على خشبة مسرح «نادي الشرق» في دمشق، لتبقى بيروت بوابة للسوريين ونافذتهم إلى حياة أفضل، وتبقى دمشق جارة بيروت ونديمتها في السلم والحرب.

وليس من قبيل الصدفة أن يعشق الأديب السوري أدونيس بيروت، فهو يمثل واحدًا من أبرز دعاة الحداثة في العالم العربي، وهي المدينة التي احتضنت الفضاء الثقافي المنفتح دونما قيد، لذلك نشر في العام 2018 كتابه «بيروت ثديًا للضوء» قدم فيه نظرة خاصة لتجربته الحياتية في بيروت وجمع فيه النصوص التي كتبها أثناء وجوده في لبنان.

وعندما خسر الفنان التشكيلي السوري سعد يكن بيته في حلب، وأحرقت مكتبته ولوحاته خلال الحرب في سوريا، عادت بيروت لتفتح ذراعيها وتستقبل الفنانين السوريين، وقال في العام 2017 من خلال برنامج «بيت القصيد» مع الإعلامي اللبناني زاهي وهبي: «علاقتي مع بيروت قديمة لذلك اخترت أن آتي إليها دون أن يكون عندي إحساس بالغُربة أو اليُتم أو التخلّي عن الوطن».