واثق الخطوة يمشي ملكًا، على سجادة مهرجان الإسكندرية السينمائي، فإذا بأحد المراسلين يستوقفه ليسأله: هل شاهدت فيلم الممر؟ وهنا يجيبه الفنان محيي إسماعيل بكل ثقة:

لا مشفتوش، أنا شوفت الرصاصة لا تزال في جيبي، وأنا عملت دور اليهودي، وكنت عبقري.. وشكرًا!

هناك قصة شهيرة من التراث الهندي القديم تحكي عن ستة عميان سمعوا أن هناك فيلًا قادمًا إلى بلدتهم، وبما أنهم لم يتمكنوا من رؤية فيل في حياتهم من قبل، فقرروا أن يلمسوه ليعرفوا كيف يبدو شكل هذا الحيوان الذي سمعوا عنه كثيرًا.

وعندما وصل العميان الستة إلى الفيل، لمسه الأول فقال: الفيل هو عامود، ثم جاء الثاني ليقول: الفيل ليس سوى حبل، فتدارك الثالث الموقف وقال: الفيل هو مروحة يدوية كبيرة، ليخبرهم الرابع أن: الفيل هو فرع شجرة، ثم يأتي الخامس ليقول: الفيل هو جدار ضخم، وفي النهاية قال السادس: الفيل هو أنبوب طويل.

بالطبع، اختلف الستة فيما بينهم، واحتدم النقاش جدًا، وكان كل شخص يقاتل ليثبت صحة ما لمسه من الفيل، وأن حقيقة الفيل هي ما يقوله هذا الشخص. لدرجة أن الفيل نفسه شعر بالملل وقرر أن يتركهم ويغادر هذه المناقشة.

ولكن، وكما هي عادة قصص التراث القديمة، هناك حكيم سوف يمر ليحل هذه المشكلة المعقدة، وينهي هذه الأزمة المحتدمة، ويخبرهم بحقيقة هذا الفيل. حينها ابتسم هذا الحكيم في هدوء، وأخبرهم أن كل شخص منهم لمس جزءًا مختلفًا من جسم الفيل، لذا قرر كل شخص أن هذا الجزء هو الفيل نفسه، لكنهم بالطبع لم يتمكنوا من رؤية الصورة بأكملها، أو الحقيقة الكاملة، لهذا الفيل المسكين.

المغزى من القصة؟ أننا نميل جميعًا إلى المبالغة في مدى ما نعرف، والذي يعني بدوره أننا غالبًا ما نتشبث بعناد بهذه المعرفة، ونقاتل من أجل إثبات صحتها بأي ثمن. حسنًا، يمكن بسهولة أن نطبّق قصة العميان الستة والفيل المسكين على وقتنا الحالي، ولكن داخل نقاشات وأحاديث وسائل التواصل الاجتماعي، وحينها سنعرف ببساطة لماذا يمتلئ فيس بوك دائمًا بالخبراء والعباقرة!

هذا هو الأمر باختصار شديد، وكما ترى أنني اختصرت ما أريد قوله في المقدمة فحسب، و«كنت عبقري.. وشكرًا!».

«ها إيه تاني؟»

في كتابه «شبكة الإنترنت الخاصة بنا: معرفة أكثر وفهم أقل في عصر البيانات الكبيرة»، يبدأ أستاذ الفلسفة مايكل لينش بسرد تجربة فكرية: تخيل مجتمعًا حيث تصغر الهواتف الذكية جدًا، ويمكن زرعها مباشرةً في دماغ الشخص كشريحة. وعندما يفكر الشخص في حقيقة ما، سوف تخبره الشريحة بالجواب المناسب، بالتأكيد لا علاقة هنا لفيلم «اللمبي 8 جيجا» إن كنت تتساءل!

والآن، تخيل بعد أن تعيش أجيال وأجيال بهذه الشريحة المزروعة، وتكبر تلك الأجيال وهي تعتمد عليها اعتمادًا كاملًا لمعرفة ما يعرفونه، لدرجة أنهم ينسون كيف كان يتعلم الناس في الماضي، عن طريق الملاحظة، والبحث الدقيق، والاعتماد على المنطق والتفكير النقدي.

ثم تخيل هذا: في لمح البصر تحدث كارثة بيئية تدمر شبكة اتصالات الكوكب الإلكترونية، ويتم تدمير كل الشرائح المزروعة داخل أدمغة الناس، وكأن العالم كله أصبح فجأة أعمى. لن يكون هناك طريقة لإثبات الحقائق، ولن يعرف أحد أي شيء بعد الآن، لأنه ببساطة لا يعرف كيف يعرف!

يعتقد لينش أننا قريبون جدًا من الوصول إلى هذه النقطة؛ حيث لا يمكننا رؤية الحقائق، ولم نعد قادرين على اكتساب المعرفة. وعلى كل الأحوال، نحن الآن وبالفعل لم نعد قادرين على الاتفاق حول كيف نعرف!

إحدى الطرق التي يشوه بها الإنترنت صورتنا عن أنفسنا هي بتغذية ميلنا البشري للمبالغة في تقدير معرفتنا بكيف يعمل العالم؛ كما يذكر لينش، يتحول الإنترنت إلى آلية تعزيز كبيرة، ويوصل لنا كل المعلومات التي ننحاز بالفعل إلى تصديقها، أو التي تناسب نظرتنا عن العالم، ويشجعنا أن نعيش في فقاعاتنا الخاصة، ونعتبر الآخرين في فقاعات أخرى مجرد أوغاد لا يفقهون شيئًا، وكل معلوماتهم خطأ. نحن نعرف كل شيء، نحن عباقرة وخبراء، هكذا يخبرنا الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي!

بمعنى أن سهولة الوصول إلى المعلومات على الإنترنت اليوم تشجع اعتقاد الشخص بأنه يعرف أكثر مما يعرفه في الحقيقة. خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي مصممة لتحتجزنا داخل غرف الصدى (echo chambers)، حيث يتم التهليل لآرائنا دائمًا، ويتم السخرية من وجهات النظر المتعارضة معها.

نحن ندخل إلى هذه الغرف لنبعد أنفسنا عن أي تحد خطير يواجه معتقداتنا أو وجهات نظرنا أو آراءنا في أي شيء، ونحتفظ بمن يوافقنا هذه الأشياء، حتى أننا نفقد تدريجيًا القدرة على تقييم أنفسنا بشكل صحيح، وبهذا نبدأ في الاعتقاد بأننا أكثر دراية وأكثر معرفة وأكثر خبرة مما نحن عليه بالفعل.

الرصاصة الافتراضية لا تزال في حسابي!

 

ليست غرف الصدى وحدها هي المسؤولة عن تمسكنا وقتالنا بآرائنا على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى إن أدركنا مدى فداحة الخطأ الذي نرتكبه بعد كتابة هذه الآراء والتصريح بها علنًا؛ فبعد انطلاق الرصاصة الافتراضية يصبح الأمر حتميًا، لقد حدث الضرر وانتهى الأمر، لذا يجب أن ندافع عن هذا الرأي، ونبحث عمّا يثبت صحته بكل الطرق، مهما كان الأمر خياليًا.

في عام 1955، أجرى علماء النفس الاجتماعي مورتون دويتش وهارولد جيرارد تجربة، حيث عرضا ثلاثة أنواع من الخطوط على مجموعة من الطلاب، وطلبوا من المجموعة الأولى أن يكتبوا تقديراتهم لطول هذه الخطوط ويسلموها لهم، ثم طلبوا من المجموعة الثانية أن يكتبوا تقديراتهم أيضًا ولكن يمسحوها قبل أن يراها أي شخص، ولم يطلبوا من المجموعة الثالثة أن تكتب تقديراتها على الإطلاق.

ثم بعد ذلك عرضوا على الطلاب أدلة جديدة تشير إلى أن تقديراتهم الأصلية لطول الخطوط غير صحيحة، ربما تكون قد خمنت ما حدث: مجموعات الطلاب التي لم تصرّح علنًا بتقديراتها لطول الخطوط كانوا أقل ولاءً لاختياراتهم، ولكن الطلاب الذين سجّلوا علنًا مواقفهم الأولية رفضوا بحزم أن يغيروا من تلك المواقف لاحقًا، حتى بعد أن ثبت خطأ تقديراتهم؛ قد أدى التزامهم بتصريحهم أمام الآخرين إلى تحويلهم إلى حالة من العناد، حتى مع الحقيقة!

والآن بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، يلتزم معظمنا بالآراء التي صرّح بها علنًا في كل المواضيع والأحداث. لدينا رصاصات رقمية في حسابات مواقع التواصل عن السياسة، والعلاقات الإنسانية، والفن، وكرة القدم، والآن حتى عن علم الأوبئة والفيروسات، والكثير من هذا وذاك. وبإلزام أنفسنا علنًا بآرائنا الحالية، قد نجد أنه من الصعب الحصول على معلومات جديدة في المستقبل من شأنها أن تغير آرائنا.

لماذا كل من حولك خبراء وعباقرة؟

عندما أفكر في كل تلك المرات التي اعتقدت فيها أنني متأكد عمّا كنت أتحدث عنه، مقابل المرات التي كنت فيها نوعًا ما، ربما، في بعض الأحيان، إلى حد ما، متأكد! حسنًا، دعنا فقط نقول إن الحكمة لا تأتي دائمًا مع العمر، ولكن الإدراك المتأخر يأتي بالفعل. عندما نتذكر لحظات كنا نملك فيها ثقة مفرطة بالنفس فيما نقول، ونمنع أنفسنا عن رؤية أي شيء آخر، حينها نفتقد لقدرات نفسية حاسمة مثل التواضع الفكري!

في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، وفيضان الأخبار المستمر، وأعاصير الترندات شبة اليومية، هناك ضغط مستمر على الجميع في معرفة ما الذي يدور، في محاولة الفهم. كل هذا جميل بالطبع، ولكن الأمر يتحول إلى مشكلة عندما نبدأ في قراءة رأي ما أو معلومة هنا أو هناك، ثم نعتقد أننا أصبحنا على دراية كافية بالموضوع، وبالتالي نقرر المشاركة بآرائنا على منصات التواصل الاجتماعي، ونعتقد أن هذا هو الرأي الصحيح وفقط، وبهذا يصبح كل من حولك خبراء وعباقرة في كل المجالات.

وحتى لو كان البعض منفتحًا على تغيير آرائهم، فمن غير المرجح أن يصادفوا ذلك النوع من المحتوى الذي قد يساهم في اكتشاف أخطائهم، لأن هذا المحتوى في الغالب لن يتبع اقتصاد فيس بوك وتويتر وغيرها من الشبكات الاجتماعية، والذي يشجع على الانتشار السريع للمنشورات التي تحمل قصف الجبهات، والآراء الغريبة، وإلقاء الأحكام هنا وهناك. وهو ما يأتي بالإعجابات والمشاركات والريتويت بالجملة!

لذا يصبح التواضع الفكري اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى؛ أن نملك البصيرة والقدرة على إيقاف أيدينا عن المشاركة، ونقول بصراحة إننا لا نعرف، أو لا نُلمّ بتفاصيل، هذا الموضوع أو ذاك.

«وكنت عبقري.. وشكرًا!»

التواضع الفكري هو ببساطة الاعتراف بأن المعلومات التي نعرفها قد تكون في الواقع معلومات خطأ. التواضع الفكري ليس الافتقار إلى الثقة، أو التوقف عن البحث، بل هو عدم دخولنا إلى كهفنا وفقاعتنا في كل مرة يتم الطعن في أفكارنا وآرائنا الخاصة.

التواضع الفكري هو أسلوب للتفكير، ووضع احتمال أننا قد نكون مخطئين فعلًا، وأن ننفتح على التعلم من خبرات الآخرين. التواضع الفكري هو البحث دائمًا بفضول حول النقاط العمياء لدينا. لا يتطلب الأمر معدل ذكاء مرتفع، أو شهادة جامعية خاصة، أو مجموعة من المهارات مثلًا، بل سيتطلب منّا التفكير دائمًا في حدود معرفتنا، أن نرصد مدى الثقة بأنفسنا دائمًا. إنها حالة من الانفتاح على الأفكار الجديدة، والرغبة في أن نتقبل مصادر جديدة للأدلة، حتى لو كانت تخالف كل ما نؤمن أننا نعرفه على وجه اليقين!

وفي سلسلة من خمس دراسات، والتي شملت 1200 شخص، وجد الباحثون أن الأشخاص المتواضعين فكريًا أكثر حماسًا للتعلم من أجل التعلم، ومن المرجح أن يستمتعوا بأداء مهام التحدي المعرفي، ويميلون إلى إحراز نتائج أفضل في اختبارات المعرفة العامة، وأكثر استعدادًا للنظر في وجهات نظر وأدلة مختلفة عمّا يعرفونه، وأقل شعورًا بالتهديد عندما يدركون حدود معرفتهم الخاصة.

ربما يأخذنا التواضع الفكري إلى أماكن غير مريحة هذه الأيام، أماكن لا نعرف فيها ماذا نقول أو نفعل، بينما يبدو الجميع من حولنا خبراء وعباقرة طوال الوقت. ولكنه في نفس اللحظة يمكنه أن يعطينا الدفعة التي نحتاجها إلى تعلم الأشياء التي قد نكون نوعًا ما، ربما، في بعض الأحيان، إلى حد ما تظاهرنا بأننا نفهمها!

وكما تقول المعلمة الأمريكية القديمة ماري ماكلويد بيثون:

عندما ننطلق للبحث عن الحقيقة، لا ينبغي أن نفترض أننا نعرف على وجه اليقين ما هي الحقيقة!

في نهاية المطاف، ينبغي أن نعرف بأن العالم مكان معقد بشكل لا يُصدق، ولا يوجد شخص واحد قادر على امتلاك مفاتيح الحقيقة بأكملها؛ يمكننا فقط أن نرى العالم من وجهة نظر معينة، مثلما قرر العميان أن الفيل المسكين هو ما لمسوه، وهذا يعني أن معرفتنا سوف تكون محدودة غالبًا بسبب وجهة نظرنا هذه.

ومع معرفتنا بأن معرفتنا محدودة عن العالم، يجب أن ندخل في أي حوار أو نعرض أي آراء مع شعور عميق بالتواضع، لأن الحياة ليست مثل تراث القصص القديمة، ولا تملك حكيمًا يمكنه أن يمر علينا ويخبرنا بالحكمة اللازمة التي نحتاج إليها!