في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2020، استفاق العالم على خبر ذبح مدرس التاريخ «صامويل باتي» على يد تلميذه المسلم!

ماذا حدث؟

يسأل الجميع ويسعون لمعرفة الإجابة، وفي سبيل ذلك استعانوا بمحركات البحث في محاولة لفهم الأسباب. حيث استشاط كثيرٌ من الفرنسيين غضبًا من المراهق المجرم، واستشاط كثيرٌ من المسلمين غضبًا من المدرِس الضحية. فالأول، قتل رجلاً في وضح النهار، والثاني، نشر رسومات مسيئة للنبي، فأيهما استحق الغضب الأكبر؟

أجّج هذا الجدل تصريح ماكرون حول عدم تخليه عن الرسوم المسيئة للرسول، لتنهال بعدها ردود الأفعال الغاضبة من الدول الإسلامية، وبالطبع كانت مواقع التواصل الاجتماعي ساحات ممتدة لهذه المعارك.

فبمجرد أن تنقر على هاشتاج «#إلا_رسول_الله»، أو متابعة صفحة الرئيس الفرنسي ماكرون، ستجد مجموعة من الآراء الإسلامية المتناقضة والمتشابهة في الوقت ذاته.

يكتب أحدهم أنه تمنّى «حمل رأس ذلك المدرس بنفسه»، فيما يردّ عليه آخر بأن «ماكرون ليس ضد أي دين، ولكنه ضد هؤلاء الذين يُبيحون قتل أي شخص ما دام نقد دينهم».

 

في هذه المشاركة يتجلّى جوهر التباين في ردود الأفعال الإسلامية، والذي امتدَّ حتى لدولٍ عربية وإسلامية.

هنا، وبالرغم من أن كلا الطرفين يؤمنان بالدين نفسه، ولكنهما يتبنيان نهجًا مختلفًا بالكامل، فالأول، يدين فِعلة الطالب عبد الله الشيشاني، بينما الآخر يُثني على العنف، ويرى أن قتل المدرس مبرر!

وهنا لعبت شخصية الطالب الشيشاني دورًا بارزًا في إظهار حجم هذا التباين، البعض رأوه بطلاً وشهيد الإسلام…

 

وآخرون، مثل كريم، أكّدوا أنهم رغم انتمائهم للإسلام وغضبهم للسخرية من الرسول، فإنهم يعبرون أن ما حدث في كنيسة نيس من هجوم وقتل 3 اشخاص هو عنصرية ولا يمكن تقبلها.

 

وبين كلا الطرفين دارت رحى نقاش طويل، حاول كل واحد فيهم انتقاء من الحقائق الدينية والفقهية ما يُناسب فِكره؛ فصاحب الآراء المتشددة استشهد بآيات القتال والجهاد، أما الآخرون ذوو الأفكار المتساهلة فاستعانوا بنصوص التسامح والرفق.

فكيف حدث هذا التباين؟ وأيُّ الطرفين أصح من الآخر؟

حتى نعرف إجابة هذا السؤال، سيكون علينا أن نعود إلى الخلف قليلاً لبحث ماهية التدين ذاته، ولماذا يعتنق الناس دينًا؟ ولماذا يُلزمون أنفسهم باتّباع تعليماته؟

ذاتية التدين

اعتنى فلافسة وعلماء كثيرون، من بينهم الفيلسوف الأمريكي ريتشارد بيك والمُحاضِر في جامعة أبلاين كريستين Abilene Christian University، وواليم جيمس عالم النفس الأمريكي مؤسس علم سيكولوجية الأديان، بمعرفة ماهية الإيمان عن طريق مقارنة طبيعة الدين كظاهرة ومن يؤمن به وكيف يؤثر على مفهومه لذاته وللآخر.

ينسب جاريد س. مووري Jared S. Moore  الباحث في علم النفس، دوافع الإيمان بالروحانيات، إلى سببين يسعى الإنسان لتحقيقهما، هما:

  • نجاة شخصية الإنسان من موت الجسد.
  • كونه مَنفذًا للتواصل مع منْ فقدناهم.

يدعم هذا التحليل نظرية «إرنست بيكر» عالم الأنثروبولوجيا والمفكر في سيكولوجية الأديان، والتي تقول، إن الدافع الحقيقي من وراء الإيمان بالدين هو مقاومة حقيقة واقعة تحيط بالإنسان في كل زمان ومكان، وهي الموت!

وهكذا فإن الإنسان في دفاعه المستميت عن دينه، يكون، بشكلٍ غير مباشر، يدافع عن رغبته المطلقة في نيل «أبدية مريحة»، فلماذا إذن تتباين أشكال الدفاع عن هذه الرغبات؟ يجيب علماء النفس على هذه الجزئية عبر تقسيم المتدينين إلى فئتين رئيسيتين؛ متدين صلب ومتدين وجودي.  

المتدين الصلب

تعرّض فرويد في كتابه «مستقبل الوهم» إلى رؤيته لسيكولوجية الأديان، ويعتبر أن جزءًا أصيلًا من طباع المتدين الصلب أنه لا يتخلّى معتقداته بالجدال أبدًا، فهو يعتبر أن هذه النوعية (المتدين الصلب) تتمسك بدينها بحُكم الفطرة، ولا يقبل الواحد منها أي نقاش، ويعتمد في تدينه على ما ورثه من معلومات وأفكار، مهما كانت قليلة.

هذا النوع يضع لنفسه قوانين صارمة للحفاظ على تدينه من الخلل، ويخشى النقاش ويمنعه، ولا يقبل الأديان الأخرى، ويحمل جعبة شكوك حول الآخر.

هذا المتدين الصلب ليس بالضرورة يكون متعصبًا يُمارس العنف بِانتظام، وإنما قد يكون شخصًا عاديًا يُمارس حياة روتينية هادئة لا يُمارس فيها العنف للحفاظ على معتقداته، ولكنه دون وعي منه قد يشجع على العنف– كما في الصورة الأولى.

تطورت رؤيتنا لمفهوم «المتدين الصلب» أكثر من خلال ما يُعرف بـ«نظرية إدارة الهلع»، التي درس القائمون عليها (ومن بينهم الدكتور شيلدون سلومون) سلوك اللاوعي الإنساني وعلاقته بالدين والاقتصاد والسياسية، وبلورت النظرية تأثير شعور الكُره المُوجَّه إلى الآخر وعلاقة المتدين به. فالمتدين الصلب يعتبر أن الدين هو جوهر أفكاره الرئيسية، وبالتالي يكون لديه طاقة غضب تجاه أي شخص يحاول أن يقمعها، لأنه يمتلك يقينًا بأن قناعاته ومشاعره بالكون «مميزة»، فالله يحميه لأنه الأقرب والأفضل.

ووفقًا لنظرية «إدارة الهلع»، فإن المرء يُصبح شره لاقتناص الحقيقة كلما اقترب من الموت، فيهرول لكسب المزيد مما يُقرِّبه إلى الخلود الرمزي، ويستشهد بثقافته الدينية والاجتماعية سعيًا لحصد المزيد من المكاسب التي تجعله يخلد في الجنة، ولذلك لا يقبل أبدًا بتقبل الآخر أو نقد ثقافته؛ لأن هذا يُعدُّ تهديدًا لوجوده ومسيرته نحو الخلود، وبالتالي يظهر هؤلاء المُحرضون على الحرب والقتال!

المتدين الوجودي

لم يتطرق فرويد أو إرنست بيكر أو مؤسسو نظرية إدارة الهلع إلى التصنيف الأكثر تسامحًا ولينًا من المتدينين، وهو المتدين الوجودي، والذي يتصف بالتأمل والانفتاح على الآخر، والذي يبحث عن تساؤلاته بإعلاء المنطق، وإرضاء فضوله للمعرفة بالبحث والقراءة عن الأديان الأخرى وطبيعتها.

هذا المتدين يختلف تمامًا عن النوع السابق، فهو يتأمل أكثر في معتقداته وأفكاره الدينية، وقليلًا ما يجد العزاء في الأحكام الدينية الجامدة، ويتساءل دائمًا عن علاقة ذاته بالآخر، وكيف يتصالح مع وجودهم، فتجده متخبطًا في أمور دينه وأحيانًا في أمور دنياه، وحتى في تفسير جدوى الحياة نفسها.

وفقًا لورقة بحثية نشرها الدكتور لويس هوفمن (دكتور نفسي وباحث وكاتب جمعية علم النفس الأمريكية) فهو يقول إنه بالرغم من الادعاء بوجود عداوة ونقد بين الوجودية والدين، فإن الوجودية هي مدرسة شائعة من التفكير الديني المتساهل، والوجودية في الدين لا تعني بالضرورة الانتماء إلى منظمة أو جماعة أو أيديولوجية معينة، وإنما هي طريقة تفكير مختلف تدعم الفكر والنقد للذات والمعتقدات.

لذلك، فإن المتدين الوجودي لا يتوقف عن استعمال منظوره الديني في تأمل الأحداث، فلا يقبل الإساءة إلى دينه، ولكنه قادر على تفهّم الآخر، والتعاطف معه ومع قضاياه، ولديه من المرونة الكافية للنقاش دون نبذ أو كره.

تم إنتاج هذا المقال ضمن برنامج استخدامات متعددة، الذي تنظمه مساحة 6 باب شرق