يثير وصول رواية «بأي ذنب رحلت» إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر عددًا من علامات الاستفهام والتعجب، ليس فقط لما تحويه الرواية من مشكلات تبعدها عن الترشح للجائزة أصلاً، ولكن لما بدا من توجهات لجان البوكر المختلفة نحو نوعٍ من الروايات قد يكون بالفعل مثيرًا للجدل.

المتابع للجائزة يعلم أن اللجان على تنوعها قد حرصت دومًا على أن تحتوي قائمتها القصيرة رواية ذات طابعِ خاص يختلف الناس حولها بين مدحٍ وقدح. حدث ذلك من قبل عام 2014 حينما وصلت رواية «الفيل الأزرق» لأحمد مراد إلى القائمة القصيرة، وقبولت بالكثير من السخط والانتقاد، وفي العام الماضي واجهت اللجنة مشكلة مماثلة، حينما وصلت رواية شهد الراوي «ساعة بغداد» إلى القائمة القصيرة، وهي الرواية التي وصفها الكثير من النقاد والقراء بالسطحية والركاكة. وكان الشائع في الدفاع عن مثل هذه الروايات أن هناك ذائقة مختلفة تتقبل هذه الروايات وتقبل عليها، لا سيما أن الروايات المذكورة حققت نسبة كبيرة من المبيعات منذ نشرها.

اقرأ أيضًا: البوكر العربية 2018: محاولة إرضاء جميع الأذواق

هذه المرة نحن أمام نموذج آخر، مغاير لما اعتادناه من اللجنة الموقرة. فليست الرواية ولا كاتبها من ذائعي الصيت، سواء في المبيعات أو عالم النشر، بل ربما لم يكن القراء ليعرفوا كاتب هذه الرواية لولا وصول روايته للبوكر، وربما لم يكن الناس ليتعرفوا على الرواية لولا نشرها الكترونيًا الذي أتاحها للجميع بكل سهولة.


مشكلة اللغة

قديمًا عرّف العرب البلاغة بأنها: «مطابقة الكلام لمقتضى الحال». وعليه فإذا لم يكن الكلام المكتوب أو المقروء مطابقًا للحال الذي كتب لأجله فلن يكون بليغًا ولا جميلاً بحالٍ من الأحوال. ولعل قارئ رواية «بأي ذنب رحلت» سيكون أمام مشكلة البلاغة هذه طويلاً، ولكنه قبل ذلك سيتساءل كيف وصلت مثل هذه الرواية للقائمة القصيرة لجائزةٍ كبرى يُفترض أنها تراعي الأساليب الجمالية والفنية في اختيارها الروايات أولاً وقبل كل شيء، وهي الجائزة العالمية للرواية العربية «بوكر» في دورتها الحالية.

والكاتب محمد المعزوز، أكاديمي مغربي متخصص في الأنتروبولوجيا السياسية، ويبدو أنه ليس بعيدًا عن الأدب والجوائز معًا، إذ نال عن روايته الأولى «رفيف الفصول» جائزة المغرب للكتاب عام 2008، وها قد عاد بعدها بعشر سنوات إلى كتابة الرواية، ليطلعنا في 2018 على روايته الثانية «بأي ذنب رحلت».

تتناول الرواية قصة الفنانة العازفة راحيل وحكايتها الغريبة وقصة انتحار أمها الفنانة راشيل التي لم تجد جدوى من الرسم فانتحرت، ثم تركتها لتتحول البنت إلى عازفة بيانو، ولكنها تترك العزف هي أيضًا بعد أن وجدت أنه لا فائدة منه. بين الأم وبنتها وعلاقاتها بالناس والمجتمع تدور أحداث الرواية.

منذ الصفحات الأولى في الرواية نحن إزاء مشكلة في استخدام عبارات وألفاظ تستغلق على الفهم فعلًا، لا يمكن التعامل معها بوصفها مجرد زخرفة لغوية زائدة، أو تكلف في وصف مشهدٍ أو حالة بعينها، بل هي أسلوبٌ سائد وطريقة متبعة في كل تفاصيل الرواية. فالكاتب يعبر عن أبسط المعاني والأفكار بأعقد الأساليب والطرق دومًا. فهو مثلاً عندما يريد أن يتحدث عن سوداوية المستقبل يقول:

الغد يكد لبناء زمنٍ يتلعثم، عندما يلهج بمسارات الطريق. لا معنى للسان المرتد في الوقت المنسوخ بالإيقاع ذاته.
ويريد أن يعبّر عن حيرة البطلة بين الماضي والمستقبل فيقول:
الماضي وجودٌ من حيث هو ماضٍ، ولكنه عدمٌ من حيث هو حاضر، لأن الأمس ليس هو اليوم، واليوم نفسه يتذبذب في الزمن المستمر، الماضي وهم إذًا كما الآتي وهم أيضًا، أما الحياة في مجملها فليست سوى هلوسة يلجم جموحها التكرار أو العادة.

وعندما يريد أن يعبّر عن تنازل البطل عن مبادئه التي كان يدعو لها يقول:

عبارات كثيرة كهذه تزخر بها الرواية، وتوضح بشكلٍ كبير مدى البعد والغرابة التي يتسم بها عالم النص وكاتبه، ورؤيته الخاصة جدًا للتشكيل السردي، وطريقة تعبيره عن شخصياته وتحولاتهم التي تأتي كلها مفاجئة.

وإذا تجاوزنا المشكلة اللغوية فثم مشاكل أخرى تتعلق بالسرد وطريقة عرض الأبطال والانتقال بينهم والتعبير عنهم. فلا المواقف التي يمرون بها طبيعية، ولا ردود أفعالهم وحركتهم منطقية، بل يبدو وكأن الكاتب يتعمد تمامًا أن تأتي ردود الأفعال كلها حادة وغريبة وغير مفهومة.

ولا شك أننا لسنا بحاجة للاستفاضة في عرض مواطن الخلل ومشكلات البناء والسرد، فكما قال القدماء أيضًا «البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير».


مشكلة النقد

يمكنك أن تدعم حضورك بالمكر، تلبس التنكر من مواجهة المرآة، حتى لا تصدمك الإشاعات المجملة أو المزينة بتراتيل الوصلة أو الوصول. إن أجنحة التوهم التي تطير بك هي الآن تبتلع صوتك، تستبدل بحنجرتك مدينة من الخرسى المقعدين، يستقرون في صديد الوقت، يتوهمون أنهم ينعمون في أفرشةٍ من ريش الزمن المتبدل.

لا تقتصر مشكلة تلقي الرواية والتعامل معها على كتابة الرواية، ولا كونها قد وصلت بالفعل للقائمة القصيرة للبوكر، وإنما هناك درجة من الأهمية في التعامل النقدي مع روايةٍ كهذه. ربما يتوقف القارئ طويلاً عند التعرف عليها، ويبدأ في البحث عن مقالات نقدية تناولتها حتى يتعرف على حقيقة شعوره نحوها، وهل هي فعلاً تحوي مثل هذه المشكلات التي تعيقه عن فهمها والوصول إلى جماليات مفترضة لرواية مثلها، أم أن الأمر واضح جلي لا لبس فيه؟

ليفاجأ القارئ مرة أخرى بعددٍ من المقالات أو القراءات النقدية للرواية التي ترتفع بها إلى مصاف الروايات والأعمال الأدبية الجيدة، أو الرائدة، من ذلك ما كتبه الناقد المصري محمد سليم شوشة و نشره في أخبار الأدب في مقالٍ بعنوان: «بأي ذنب رحلت .. جماليات الرواية الجديدة وتداخل الأنواع»، ولا أعرف عن أي رواية جديدة يتحدث الناقد، فالرواية بكل معطياتها وتفاصيلها مشحونة بالاستخدام اللغوي القديم، حيث الاهتمام المبالغ فيه بالتشبيهات والاستعارات، وهو يلتفت لذلك أيضًا بعد حديث عام عن الرواية فيقول:

تمثل لغة الرواية حالة خاصة مفعمة بالاندفاع وتهيمن عليها الصور والاستعارات التى تبدو مدفوعة بطاقات شعورية كبيرة تضطر السارد لإنتاجها. فالصور البيانية والاستعارات أو الانزياحات التى تهيمن على لغة الرواية إنما هي نابعة في الأساس من الحال الشعورية الثقيلة التي يحاول السرد تجسيدها، فهي لغة تحاول رصد الظاهر من سلوك الشخصيات إلى ما وراء هذا السلوك من شعور بالاغتراب وتجسيد الحركة الشعورية الداخلية والفكرية لهذه الشخصيات. والحقيقة أن لغة الرواية تتمثل مشاعر الشخوص من الداخل وبرغم أن السرد يأتي عبر الراوي العليم إلا أنه يكثف النظرة الداخلية ويبدو الرصد الداخلي أقرب إلى شعرية ذات طابع ملحمي انفعالي في كثير من المواضع، فتبدو الشخصيات ممتزجة بالمكان وبالطبيعة ويتداخل المدرك بالحواس مع المضمر من مشاعر الشخصيات والقار في وجدانها فتحاول اللغة الحفر عميقًا نحو هذا المضمر، ليكون للسرد طاقات شعرية كبيرة.

ومن الواضح أن ما يقصده الناقد هنا ليس ما كتبه الروائي في روايته أبدًا، فلا اللغة عنده محملة بطاقة شعورية هائلة، ولا هي تحاول رصد الظاهر من سلوك الشخصيات إلى ما وراء السلوك وغير ذلك من عبارات منقمة عامة مرصوصة بعناية، بل هي، على نحو ما رأينا، لغة غريبة تحاول شعرنة المشاعر والأحداث والمواقف بطريقة فجة، وتجعل القارئ ينفر من الرواية وشخصياتها وأبطالها وعالمها كله.

ولعل مشكلة النقد في الواقع أكبر من مشكلة الكتابة والجائزة نفسها، فالاختلاف وارد في طرق الكتابة، وكذلك ذوق محكمي الجائزة واعتباراتهم التي ربما تكون غير أدبية أحيانًا، أما النقد المباشر للنص، فإنه يمنح الكاتب ولو بشكلٍ غير مباشر، نوعًا من الاعتبار والقيمة لنصه شديد الغرابة والتعقيد، وذلك كله من خلال التعامل مع النص بوصفه عملاً أدبيًا يمتلك مقومات حقيقية للجودة والتفرد، في حين أن أي قراءة عابرة للنص ومكوناته ستعرّف القارئ مباشرة أنه أمام نصٍ روائي شديد الغرابة والتعقيد.

يبقى أن نشير إلى أن ما في رواية «بأي ذنب رحلت» من غرابة، ليس منطلقًا من جانب أنها روائية غرائبية مثلاً، تنحو إلى خلق عالم مغاير ومختلف، فتبني خلال ذلك ذلك البناء الذي قد لا يناسب القارئ ويحتاج معه إلى طريقة خاصة في التعامل، ولكن الواقع أن الرواية كلها تحمل قصة عادية عابرة، ولكن صياغتها جاءت على هذا النحو المغرق في افتعال الشاعرية وتكلف الفعل وردود الأفعال غير المنطقية وغيرها من السلبيات.

على كل حال وصلت الرواية للقائمة القصيرة للبوكر، وما هي إلا أيام و نعرف أي روايةٍ من القائمة القصيرة ستفوز بالجائزة الكبرى.