محتوى مترجم
المصدر
aeon
التاريخ
2019/4/9
الكاتب
John T. Lysaker

حينما بدأتُ مُزاولةَ التفلسفِ، كان صَدري مليئًا بما أريدُ إبانتَه، وفي مرحلةٍ ما -أثناء رحلتي- تَغَيَّر ذلك. ليس أنني أَمسكتُ عن الكلام –أو مع مرور الوقت– عن الكتابة، لكنَّ الأُسلوبَ وطريقة الكتابة قد تغيَّروا. أصبحتُ أجدُ نفسي في تجاوب وتواصل مع بيئةٍ تتسع لأكثرَ مني وممن تربطني بهم عَلاقة شخصية؛ مع «أنت وأنتم» غيرِ مَحدودة، وتَحوَّلتْ جُملة «تَوصَّل إليها وحدك» إلى «تعرَّف على ذاتك».

لَكِنْ كيف يمكن للمرء أنْ يَبتدع تغييرًا في مَتْن الكتابة النثرية؟ إذا كانتِ الفلسفةُ مُرتبطةً -بشكلٍ جزئيٍ- بشعورِ المَرءِ بالتجاوب؛ ألا يجب أن تَحوِي الكِتاباتُ الفلسفية شعورَ المراسلة بين سُطورها؟ «عزيزي، هذا موقفي في الوقت الحالي… صديقك…»، فينتج المرءُ أَفكارًا مُتحملاً مَسئوليتها وينتظر الردود حتى يبدأ التجاوب والتراسل من جديد: «عزيزي، أشكرُك على رَدِك. لقد تغير الكثيرُ (أو القليل) منذ أن استقبلتُ رسالتك…».

يروقني التحول إلى أُسلوب المُراسلة، على الأقل في الفلسفة. وربما يكون ذلك التحولُ نُعَرَةً؛ لكنها نُعَرَة تَجلبُ لنفسها اللسع، وهي مُدركةٌ أنها قد سببت ذلك من قَبلُ وإن كان للآخرين. لكن إلى أي مدى تتبدى الفلسفةُ في أسلوب الرسالة؟ وهل عندما نتفلسف نكون واعين باختلاف المُرَاسَلين والأحوال المختلفة التي يتواصلون معنا فيها؟ النظرة من اللا مكان مَنفيةٌ من نَظريةِ المَعرفة Epistemology، فنحنُ نَعلم أننا نُدرك الأماكنَ المُحددة الثابتة، لَكِنْ هل واكبتِ الكِتاباتُ الفَلسفية وطوّرت سليقةً تُعينُ على التأمُل في سؤال: كيف سأَكْتُبُ؟

راجعْ تاريخَ الفلسفة ترى المسألةَ تتعقدُ. للكتاباتِ الفلسفية شئونٌ شتى؛ فبعضٌ يهتم بالتوضيح والعرض حيث يرى الحقيقةَ تُشكِّل وَصلةً بين الاعتقادِ والعالم. وبعضٌ يفضل الإثارة ومِثاله خَتمُ حِوارٍ عن طَبيعة الصَداقة قبل التَوصُّل إلى حَدٍ جَامع مَانع لها؛ فإذا أردنا حدًا فعلينا أن نستنتجه بأنفسنا أو أن نتفكر في معنى عَدَمِ التَصريح بالحد في الحِوار. وبعضٌ يفضل التمثيل ومثاله ما فعلتْ سيمون دي بفوار في «الجنس الآخر» (1949) حيث تُقيم الحُجةَ بأنها كائنٌ ذَكي، الأمرُ الذي يأبى الأبُ أن يُقرَّه فيها، ومن خِلال مُواجهةِ قَدَرِها تَعْرِضُ لنا كَيف كان القَدَرُ مُخْطِئًا في حَقِها وظَالِمًا لها، وتجعلنا شُهُودًا على قِيمَةَ ما حَرَمَنا الأبُ منه.

تُزيدُ اعتباراتُ أسلوبِ الكِتابة من التساؤلات عن كَيفية نَثرِ الكتابة الفلسفية: حوارٌ وأطروحة وحكم ومقالة ذات فكرة واحدة، ومقال أكاديمي وأُفرودة monograph، وفقرة وسيرة ذاتية، وإذا كان مَوقفُ المَرءِ تِجاه الآخرين أكثرَ شُمولية وعُمومية فتصبح الرسائل والبيانات manifestos والمُقابلات الشخصية خياراتٍ أيضًا. ولا يوجد أسلوب تِمٌ كامل، ولذلك يجب أن تُؤخَذَ الممارسات المنطقية البلاغية بعين الاعتبار: طرق الاستنتاج Modus Ponens، والسخرية والآراء الميتافيزيقية، والمجاز والتشبيهات والاقتباسات والترجمات، وحتى نبرة الكلام وهي طريقة فريدة للتواصل مع القارئ؛ يبدو أنَّ كثيرًا من الأمور يجب اعتبارها عند الإجابة على السؤال عن كَيفية الكِتابة.

تطرأ الأسئلة المُتعلقة بالكتابة أحيانًا عندما يهتم الفلاسفة بانتشار كتاباتهم والوصول إلى شبكة قُرَّاء أوسع، لكن الاختيارات التي عدّدتُها مُرتبطة بفِكر الفيلسوف نفسه. إنّ الكتابة تُولِّد الاكتشافات وأُسلوب الكِتابة ليس فقط قالبًا صَامتًا لنقل الأفكار، بل هو عاملٌ مُؤثر في تلك الاكتشافات، وكذلك الممارسات المنطقية البلاغية. كان «فرانسيس بيكون» يُفضل استخدامَ أُسلوب الحِكم aphorism لأنها كانت تحرره من التقاليد السكولاستية، بينما يتبع المَقال الأكاديمي اللغةَ المُتعارف عليها بين الأكاديميين.

تتناول الأُطروحةُ treatise جَوانبَ الموضوع الذي تناقشه كافة –سَمِّ ذلك: نظرةٌ من كُلِ مكان– بينما تقنع المقالة ذات الفكرة الواحدة بتخصصها وتقيس انتشارها مُقارنةً بموضوعات مثل الصداقة أو الجنس الأنثوي أو حتى الولع بالأفلام. عندما تصبح الكتابة سؤالاً، فأمورٌ كثيرة يجب أن يُعتنى بها غير الانتشار.

إليك مُبتدأٌ: كيف ستتشكل أفكاري من خلال هذا الأسلوب الكتابي وهذه الممارسات المنطقية البلاغية؟ إلى أين ستأخذني الحِكم أو المقال الأكاديمي أو حتى تبادل الرسائل؟ وكذلك الأمثلة والاختلافات المفتوحة والاقتباسات والمجهود المبذول في الترجمة والسُخرية (في ذلك الصدد)؟ فالسُخرية هي مجازٌ مُركب من المُفاجأة والتورية، وإنَّ قَدرًا مُناسِبًا من السُخرية يعين الساخرَ على صيانة النفس. يتفاجأ القارئ بمواجهة بعض المعاني الخفية، بينما تتبدى المعاني الظاهرة والخفية للكاتب على حدٍ سواء. (ولذلك أتساءل: ما الذي تبقيه السُخرية في أمان؟).

لا يمكن تبني وجهةٍ أو تعيين اختيارٍ من خلال النقد، والذي –وفقًا لإيمانويل كانط– يتناول بِنية أحكامنا وأفكارنا الفعالة باحثًا عن قواعد تمكننا من مُراقبة استخدامنا لها. إنَّ الاكتشافات التي تسببها الكِتابة لدليلٌ على أن الفلسفة تتعلق باللغة تعلق حصان المُعجَّلة بسائقها. إن الكتابة مُقامرة، وعندما تكون صريحةً وأمينة؛ يواجه المَرءُ نتائجَ غير مُتوقعة.

مُواجهًا لورقةٍ فَارغة، يُمكنُ أن يتساءل الَمرءُ: ما العَلاقة التي سيشيدها ما سأكتبه مع المُخاطَبين؟ فالجداليُ يريد تحويلَ الوِجهة وتغيير الرأي وذلك يكون على حِساب الاكتشاف. وحتى عند تَجَنُب جِدالي مُتطرف، يقرأ البعضُ أعمالَ مُخالفيهم باختزال بدلاً من أن يقرأونها بدقة وتحليل على المشاع، وبناءً على ذلك يتحاورون مع من بَدَّل من فِكره ما لا يرضون؛ وذلك يبدو مَغلوطًا.

ربما ينبذ المَرءُ أن يعتمد مبادئه وعقيدته مِنهاجًا لكتاباته؛ فيلجأ إلى الإثارة، وذلك ما يظنه البعضُ في أفلاطون. لكنَّ لكل إثارة مُتطلباتها حيث يبدأ المَرءُ رَاميًا بنَظَرِه إلى النِهاية التي يريد استثارة القارئ لها. إن سقراط محاورٌ مُختلف عن يوليوس قيصر، وذلك لأن أفلاطون وسيسرو يتناولون التَعليمَ والروح ووُجُودهم بطُرِقٍ مُختلفة؛ لذلك فإن التمييز الواضح بين الإثارة وما يعتقده المَرءُ ويؤمن به (أو بين الأسلوب والمحتوى في هذه الحالة) هو أمرٌ مُستحيل.

وللأساليب الأُخرى أيضًا قُدرةٌ على إشراك المُخاطَبين بفاعلية؛ إذ تُمَكِنُ الأمثلةُ القرَّاءَ من مُعاينةِ ما يتم عَرضه، ويُتيح عَرضُ الاختلافات القيّمة أمورًا أخرى (عندما لا يتوقف المُؤلفون ليتخيلوا إمكانية أن يكون هناك اعتراض ما؛ أشعر بالاختناق وأهرع إلى النافذة). ولو أقرَّ المَرء بحجم تنوع المُخاطَبين العَظيم؛ لظهرت بَعضُ العادات الكِتابية الأُخرى. مُراجعًا تاريخ كتاباتي، أرى أنني قد كتبتُ أعمالاً مَدلولاتها: «للجنس الأبيض فقط» أو «على النساء ألا تشارك».

لكن، لا تتقابل النصوص مع القُرَّاء في الخواء، و لذلك أتساءل: كيف على الكاتب أن يتعامل مع السِياقات التي تفرضُ نَفسها بدءًا من القومية الإثنية إلى القول بسيادة الجنس الأبيض وتَسليع التعليم العالي؟

مُغرٍ أن يَتَخيل المَرء نصًا بدون حواشي كما لو أنها زينة، لكن في زمن ينقم تَدقيقَ الفَهم وتمحيص العلم ويُعادي تاريخ ما عندنا من حَقائق – لماذا لا نؤكد على مَبدأ التنازُع على تاريخ الأفكار شريطة أن نُصرُّ على أن الفِكر مجهودٌ نتائجه قَصِمة وليكن هناك اختلاف.

يَطرحُ الوُضوحُ على الفلسفة سؤالاً ليس للتجربة أن تُجيبه، وإنما تكون الإجابةُ صحيحةً أو خاطئة من خِلال طَريقة عَرضها.

علاوة على ذلك، فإن الاستنتاجات الفلسفية لا تظل فلسفية إذا انفصلت عن الطريق المؤدي إليها؛ فإن جُملة «الله موجود» تعني في الصلاة ما تعني غيره في نتيجة استدلال مَنطقي.

كثيرًا ما يُطلب من المُتخصصين أن يقدموا استنتاجاتهم دون عَرْضِ الطريق المُؤدي إليها، لكن ذلك العرض هو عمل فلسفي في المَقام الأول، فهل يستطيع المُتخصصُ عَرْضَ النتائج دُونَ الطريق، ثم يصل إلى ما هو أوسع من النطاق الأكاديمي؟

يعلم كلُ قُرَّاء أفلاطون أن سُقراط –من خلال التمثيل– أصبح تَصويرًا للفلسفة بدءًا من نَماذجه الاستجوابية إلى تنبيهاته بأن الفلسفة تتطلب شجاعة، وكذلك الحوار نفسه يُمَثِلُ تصويرًا للفلسفة. لكنَّ كُلَ نَصٍ يُصرِّح: فلسفةٌ هُنا أيضًا.

إذن، فإن كل كتابات المَرء تستحق إنعام الَنظر فيها. هل تمهلتُ وأنا أكتب أم تسرعت؟ هل استوفت الكتابة تبريراتها؟ أو هل –بعد أن مَزَّقتُ الخِصم مُستعينًا بهفواته الدَقيقة– تستحق كتابتي تصفيق وإعجاب الناس غير المصطنع؟ هل يُقرُّ النصُ بأنواع المخاطبين المُتعددة أم يحصُر نفسه في مَضيقٍ لا يمُرُّ منه إلا من يتبنى نفس الفكر؟ هل تتحدى الكتابةُ نُقطةَ بِدايتها أم تُغطي على جَوانبها المُختزلة مُستعينةً بالرطانة والتعميمات الضخمة؟

إذا اتخذتُ «لودفيغ فيتغنشتاين» مُرشدي، فسأقول بأن الفلسفة قد ضلَّت طريقها مع الكتابة، وما تُلِم به –المقال الأكاديمي والأُفرودة– فيكتب من أجل التوافق والإذعان لا من أجل التفكر الفلسفي والإخلاص. ليس ذلك للجميع، وكثيرون قد بدَّلوا وِجْهَتَهُم تِبعًا لذلك. لكن إذا نظرتَ إلى الأمر برُمَّته وتفكرت في حياة الكاتب في وقتنا المعاصر؛ تَجدها ساكنة دون فَحصٍ ومَحصٍ في ضوء الطُموح الفلسفي.

لقد اقترحتُ أربعة أسئلة توجيهية بعد التأمل في بُستان أنواعِ الكِتابة والمُمارسات المَنطقية البلاغية: كيف سيتشكل فكري في هذه السطور؟ ما هي العَلاقات التي ستشيدها كتاباتي مع المُخاطَبين المُختلفين؟ وكما كان سيسأل «والتر بينجامين»، هل سيستطيع شريكي في الحوار أن يُبحر في أحوال حَيَواتنا المُختلفة والمُتنوعة ويكون «مُواكبًا للوقت الحالي»؟ وأخيرًا، ما الذي يساهم به نصي تحت لِواء الفلسفة؟ هل عَرضتُ صُورةً جَذَّابة؟

عزيزي، هذا ما أؤمن به في الوقت الحالي… صديقك.
Aeon counter – do not remove

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.