ثمة فهم عربي خطأ لأهمية القراءة، مفاده أن المقصد من القراءة هو أن يصير القارئ فردًا من النخبة الثقافية، وعلى ذلك، فإذا كنتُ لا أسعى إلى أن أكون من أفراد تلك النخبة فليس من المهم أن أقرأ. هذا الفهم يترسخ برسوخ ثقافة مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الإلكتروني الموازي لها التي تقدّم نخبة من الكتاب الموهوبين الذين يفترض بهم الجمهور أن يقوموا بالقراءة نيابة عنه. هؤلاء هم الموكولون بالوظيفة الثقافية التي لا تخص سائر الجمهور في شيء.

هذا الفهم لدور القراءة غير صحيح بالمرة، فالمفترض أن القارئ يقرأ لأن القراءة هواية تجمع بين المتعة والإفادة، تمامًا كالرياضة، فكما أن الشاب الذي يرتاد صالة ألعاب (جيم) ويمارس هنالك الرياضة بانتظام، لا ينوي بالضرورة احتراف الرياضة، فكذلك القارئ الجاد، ليس من الضروري أن يكون كاتبًا محترفًا أو مثقفًا عموميًا. يكفيه أن تتسع مداركه العامة وملكته التحليلية والنقدية من خلال القراءة المنتظمة، ويكون مؤهّلًا انطلاقًا من ذلك للإسهام بكفاءة أكبر في المجال العام عند اللزوم.


لكنني لا أقرأ ما أقتني من كتب!

يتضاعف العزوف في نفس القارئ مع سرعة اليأس من إمكانية اتخاذ القراءة كهواية منتظمة والتعامل معها بقدر من الالتزام والجدية، وبالتالي عند كل معرض، يبدأ القارئ في التساؤل: لماذا أذهب طالما أنني لم أقرأ بعد ما قد اشتريته من قبل؟ وهل سأقرأ ما أشتريه هذه المرة لأتحمّس للذاهب؟!

في الواقع، لا يمكن أن يقرأ الإنسان إلا إذا اقتنى كتبًا، ونادرًا ما يمكن لقارئ أن يقرأ كل كتاب اقتناه. القاعدة أنك يجب أن تقتني لكي تقرأ، لا أنك يجب أن تقرأ لكي تقتني. فإذا اشتريت مثلًا عشرين كتابًا، فإنك وقتها من المحتمل أن تقرأ منها خسمة كتب. أما إذا كنت قد اقتنيت مثلًا ثلاثة كتب، فإن أقصى ما يحتمل أن تقرأه منها هو ثلاثة كتب. لا يعني هذا أن مراكمة الكتب هدف بذاته، ولكن عليك أن تقتني القدر المناسب من الكتب الذي تهدف إلى قراءته قبل جولتك الشرائية المقبلة، وإذا لم تنجزه بالكامل، فعليك ألا تنزعج طالما أنك حاولت بالفعل أن تنجزه، ونجحت في الانتهاء من قدر منه.


لكنني أتوه في المعرض؟

يطرح القارئ بعد ذلك سؤالًا آخر: حسنًا، وماذا أشتري؟ إنني أزور المعرض فأتوه بين المكتبات، وأختار اختيارات عشوائية أكتشف لاحقًا أنها ليست الأفضل أو الأنسب لي، أو أن قراءتها عشوائيًا لن تفيدني فائدة حقيقية.

لقد صارت إجابة هذا السؤال اليوم بسيطة والحمد لله، إذ صار لدينا نخبة واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي في مجالات متنوعة، تقدّم نصائح في القراءة وقوائم في كل المجالات، مع شرح لكيفية العثور على تلك الكتب وأسعارها.

فيمكنك قبل أن تذهب إلى المعرض، أن تسأل وتحدد قائمة بأهم الأعمال الجديدة في المجالات التي تهمك، وتختار ما يناسبك منها من حيث السعر والعدد والأهمية والموضوع. يمكنك أن تصنع قائمتك الخاصة وفقًا لمجموعة من النصائح التفصيلية الخاصة بك وبظروفك أنت تحديدًا.


لماذا أذهب إلى معرض الكتاب بينما يمكنني أن أشتري من أي مكتبة في أي وقت؟

تنبع أهمية معرض الكتاب، والفرق بينه وبين شراء الكتب من مكتبات، من أنك من السهل أن تعثر على قائمة الكتب التي تهمك كل عام ببساطة من مكان واحد، دون أن تضيع جهدك ووقتك وجزءًا من نفقاتك في كل شهر للوصول إلى المكتبات لكي تحصل على الكتاب الذي تريد، وربما تجد هذا الكتاب نافدًا أو تجده دون أي خصومات أو تجده غير متوفر لدى الموزّعين لكونه موجودًا لدى موزعين آخرين خاصين بناشره.


ماذا أشتري هذا العام؟

لا أحبذ قوائم الكتب إذ أرى أن ما قد يهمني أنا الكاتب قد لا يهم كل قارئ، أو أغلب القرّاء، وأن كل قارئ يحتاج اختيارات بخلاف غيره من القرّاء، لذا فما سأقوم به هنا هو إشارة إلى بعض الأعمال التي تقع في دائرة اهتمامي (الفلسفة وعلم الاجتماع والفكر السياسي). صدرت تلك الأعمال خلال الأعوام القليلة الماضية أو التي أعيد نشرها، وربما لم تحظ بشهرة واسعة لسبب ولآخر، لعلّ بعض القرّاء يتعرّف عليها من خلال هذا التقرير ويهتم بمطالعتها.

(1) أعمال عزمي بشارة

يعتبر عزمي بشارة من أكثر المفكرين العرب راهنية، ليس فقط لموقعه السياسي في دولة قطر والهجوم الذي يتعرض له من خصومها، ولكن لارتباط أعماله بمسألة الواقع السياسي العربي المتردي وإمكانيات تغييره، وهي المسألة التي تحتل الصدارة عربيًا اليوم بلا منازعة.

وأهم أعمال بشارة التي أنصح باقتنائها هي كتابه «المجتمع المدني: دراسة نقدية»، وهو متوفر لدى المركز العربي للأبحاث (صالة 19)، ويعتبر أهم أعماله في النظرية السياسية ونظرية القومية ونقد نظرية التحول الديمقراطي، ويليه كتابه «في المسألة العربية: مقدمة لبيان عربي ديمقراطي» الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية (صالة 19) الذي يطرح فيه رؤيته للتحول الديمقراطي العربي باعتباره مشروطًا بوجود ديمقراطيين عرب يطرحون برنامجًا للحكم الديمقراطي ويفرضونه بأنفسهم، وهي الأطروحة التي تحافظ على راهنية الكتاب رغم مرور نحو 10 سنوات على نشره.

يضاف إلى هذين الكتابين، كتاب «أن تكون عربيًا في أيامنا» الذي يجمع بعض مقالات بشارة والصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية أيضًا، وهو كتاب يحمل كثيرًا من أفكار الكتابين السابقين بأسلوب أبسط.

أما آخر أعمال بشارة التي ننصح بها فهو كتابه الصادر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث بعنوان «الجيش والسياسة: إشكاليات نظرية ونماذج عربية» الذي من المنتظر أن يكون واحدًا من الإسهامات الممتازة في مجال العلاقات المدنية العسكرية، مع تركيز على الظرف العربي.

(2) أعمال ياسين حاج صالح

يعتبر ياسين حاج صالح اليوم في رأيي أبرز المثقفين العرب الديمقراطيين مع بشارة، وهو يقدم وجهًا مغايرًا لوجه بشارة أكثر اقترابًا من أطروحات اليسار الجديد. وقد قدّم ياسين حاج صالح في السنوات الأخيرة عملين في غاية الأهمية. الأول هو كتابه «أساطير الآخرين: نقد الإسلام المعاصر ونقد نقده» (دار الساقي – صالة 19) الذي يعد أهم أطروحة علمانية حديثة عربيًا. أما الثاني، فهو كتابه «الثقافة كسياسة» الذي يقدم مراجعة نقدية جذرية للفكر العربي الحديث، وهو صادر عن المؤسسة العربية للنشر (صالة 19).

(3) الإسلاميون

هناك بعض الأعمال المهمة في قراءة الإسلام السياسي قد تفيد المهتمين بتجديد الإسلام السياسي وبعثه في ثوب جديد أكثر ديمقراطية وقدرة على العمل السياسي في الظرف العربي والعالمي الجديد. من هذه الأعمال كتاب «الإسلاميون التقدميون» للكاتب التونسي صلاح الدين الجورشي الذي تعيد دار رؤية للنشر (صالة ألمانيا ب) نشره هذا العام، وهو عمل يرصد تجربة مهمة في مجال العمل السياسي، هي تجربة الإسلاميين التقدميين المنشقين عن حركة النهضة في السبعينات، وكان الجورشي أحد مؤسسيها. شهدت تلك التجربة اتجاهًا مبكرًا من داخل الحركة الإسلامية نحو تكوين مواقف سياسية أكثر ديمقراطية وأكثر اقترابًا من الإشكاليات السياسية للمجتمعات العربية وأبعد عن الأفكار الانعزالية لدى الإسلاميين.

أما الكتاب الثاني، المهم في هذا الصدد فهو الكتاب الصادر على جزءين عن المركز العربي للأبحاث لمجموعة من المؤلفين. يحمل الجزء الأول عنوان «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي»، والثاني، «الإسلاميون وقضايا الدولة والمواطنة».

(4) اليسار الجديد

تشهد السنوات الأخيرة على صعيد عالمي يتأثر به الحيز العربي بالطبع، صعودًا ثقافيًا لليسار الجديد الذي يحمل أفكارًا ليبرالية في رؤيته للعلاقات الاجتماعية. لذلك من المفيد متابعة الأعمال التي تصدر عربيًا في هذا الاتجاه. من هذه الأعمال كتاب المفكر اللبناني جلبير الأشقر «الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية» (دار الساقي – صالة 19) الذي يقدم قراءة يسارية للثورات العربية. كذلك من المفيد مطالعة كتاب «مفترق الطرق: اليهودية ونقد الصهيونية» لجوديث بتلر والصادر هذا العام عن المركز العربي، وقد يقدّم هذا الكتاب قراءة مغايرة للقضية الفلسطينية تختلف عن الرؤية العربية/الإسلامية وتعبر عن رؤية اليسار الجديد لها.

(5) كلاسيكيات الفلسفة والاجتماع

شهدت السنوات الأخيرة ترجمة كلاسيكيات مهمة جدًا في الفلسفة وعلم الاجتماع، منها كتاب «الاقتصاد والمجتمع» الذي يعد العمل الأساسي للألماني العظيم ماكس فيبر، وكتاب «بعد الفضيلة: بحث في النظرية الأخلاقية» للفيلسوف الويلزي ألسادير ماكنتير، وهو من الأعمال الأهم في فلسفة الأخلاق خلال هذا القرن، غير أن ترجمته ربما لا تكون هي الأفضل. كذلك كتاب «التحول الكبير: الأصول السياسية والاقتصادية لزمننا المعاصر» للاقتصادي المجري كارل بولانيي الذي يعد من أعظم الدراسات الاقتصادية والاجتماعية لنشأة الرأسمالية والاقتصاد الحديث. وأخيرًا، كتاب «الاستراتيجية الاشتراكية والهيمنة» للرفيقين شانتال موف وإرنستو لاكلو الذي يعد أهم الأعمال ما بعد الماركسية، لكنه كتاب صعب لا يمكن قراءته إلا لمن له خبرة بالبنيوية وما بعد البنيوية. كل تلك الأعمال لدى المنظمة العربية للترجمة التابعة لمركز دراسات الوحدة العربية (صالة 19).

كذلك يصدر عن دار رؤية كتابين مهمين، الأول، هو كتاب «مدخل لقراءة هيجل» للفيلسوف الفرنسي ألكساندر كوجيف الذي يعد من أهم قرّاء هيجل، والثاني، هو إعادة نشر ترجمة كتاب «التأملات» للفيلسوف والإمبراطور الروماني ماركوس أورليوس، وهي ترجمة أنجزها عادل مصطفى، أحد أفضل مترجمي الفلسفة وكتّابها في مصر.

تواصل مدارات أيضًا ترجماتها اللافتة، فتقدم ترجمة العمل الكلاسيكي للقانوني الألماني كارل شميت «مفهوم السياسي» الذي يعد من أهم كتب الفلسفة السياسية في القرن العشرين.

أخيرًا، صدر عن المركز العربي للأبحاث هذا العام ترجمة كتاب عالم الاجتماع والاقتصاد الألماني فرانز لبولد «البهيموت: بنية الاشتراكية القومية (النازية) وممارستها». يعد لبولد أحد أعضاء الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت الشهيرة، لكنه لم يحظ بالشهرة التي تمتع بها أعضاؤها الذين هاجروا إلى أمريكا كماكس هوركهايمر وتوماس أدورنو وهربرت ماركوز، وتعتبر هذه الدراسة فريدة من نوعها، إذ إنها تشرح الجذور الاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى صعود النازية، الأمر الذي يفيدنا في قراءة التجارب اليمينية التي أتت والتي يمكن أن تأتي على غرارها إلى اليوم.