قديمًا رفع أسلافنا رؤوسهم لسماء الليل مضطرين لذلك، استخدموا نجومها لتوجيه خط سير رحلاتهم الطويلة؛ لتنظيم مواسم الحصاد، لتوقع الطقس، وانتظار الزهور. فكان خروج الشعرى اليمانية في الفجر إشارة إلى اقتراب المواسم الباردة الحلوة، وإن أطلّ نجم سهيل في الأفق فحرارة الصيف الطويل قد قاربت على الانكسار.

لذلك، كانت النجوم جزءًا من حياة البشر اليومية، جزءًا من محتواهم المجتمعي الدارج، ربطوها بأساطيرهم ودياناتهم وتأملوها أملاً في حياة سعيدة ومستقبل مسكون بالفرحة.

أُعلنت نهاية تلك الحقبة من حياة البشر حينما ظهرت الكهرباء واجتاحت الإنارة ليل المدن و القرى، فلم تترك مكانًا إلا ولوّثته، حتى أن مواطنًا في القاهرة قد يولد ويموت وهو لم يرَ في حياته نجمة واحدة.

ما هذا الهراء؟!، قد تتصور أنني فقط أروّج لهوايتي المفضلة أو أحاول أن أُعظّم من شأن ما أحب، أو أن هذا هو نوع من الترف الفكري لدى شخص لا يجد في حياته ما يفعله، لكن في الحقيقة لدي عدد من الأسباب الوجيهة التي تدعونا لتأمل هذا الزعم الذي يبدو للوهلة الأولى ساذجًا لا حاجة لنا به في مجتمع ضرب الشك والتوتر أوتاده واجتاحته غمامة من الاكتئاب الجماعي.


ما الذي نقصده حينما نقول «هاوي فلك»؟

لنبدأ بتوضيح بعض العلامات على الطريق. تُفهم الهواية بشكل خاطئ في مجتمعاتنا، فأنت تجلس على المقهى مع صديق لتلعبا الشطرنج ثم تقول إنك «تهوى الشطرنج»، لكن ذلك غير صحيح بالمرة. الهواية تشبه التخصص الثانوي في أثناء دراستك للكيمياء الجامعية مثلاً، هنا –رغم كون الكيمياء هي مركز اهتمامك- إلا أنه عليك أن تقضي بضع ساعات أسبوعيًا في استذكار الفلسفة كي تحصل على درجات السنة كاملة، يعني ذلك أنك تحتاج لبذل جهد منظم في هذا الشيء محل الاهتمام، فقط في الوقت المخصص له.

تلك هي الهواية، قد تكون طبيبًا، صيدلانيًا، تاجرًا، أو محاميًا، لكنك في الساعتين اللتين تقضيهما في ممارسة الشطرنج أو علم الفلك أو الفلسفة، فأنت تعطيهم كل ما يمكن من الجهد والتركيز والبحث. لذلك سوف تهتم مثلاً بتعلم الكثير من الافتتاحيات عبر فيديوهات اليوتيوب، وتُمارس اللعبة بشكل منتظم على مواقع كـ Chess.com، سوف تمتلك قاعدة بيانات ضخمة كـ Chessbase لتقوم بمراجعة المباريات الشهيرة لماجنس، أناند، أو فيشر، وسوف تقيّم أداءك بشكل مستمر، كل ذلك سوف تفعله فقط في الوقت المحدد له، تلك الساعتين في الأسبوع، هنا يمكن أن نقول إنك على الطريق، ينقلنا ذلك لنقطة أخرى.

يريد الجميع أن يحصل على جائزة نوبل، الجميع صدقني، فما إن يبدأ هتمامك بشيء ما حتى تتحمس بشدة و تبدأ في تخيّل مستقبل مبهر. هنا سوف تتسلل أحلام اليقظة إلى دماغك بالتدريج لتحكي لك عن انتصارات وهمية في هذا المجال. سوف تتخيل أنك عالم مشهور وأنهم يشيرون إليك بالبنان، بعدها –ربما في لحظات قليلة- ستلجأ للتفكير في بذل كل الجهد والوقت من أجل الوصول إلى هدفك الذي استغرقت دقائق أقل في تكوينه.

لكن هناك مشكلة تطل من بعيد في خيالاتك، وهي عملك أو دراستك، لذلك سوف تقضي -قُل- السنوات العشر القادمة في حالة من الاضطراب الداخلي والتردد بين أحلام يقظة لها علاقة باهتمامك، وأخرى لها علاقة بعملك، لكنك في النهاية لن تحصل على أي شيء صلب.

لذلك سوف نحتاج دائمًا لقليل من التأني هنا، تدفع ذواتنا بنا لأقصى رغباتها وأوهامها الحالمة المثالية مما يدعو للملل سريعًا، لكن فقط لو قررت أن تمارس شيئًا ما على سبيل الهواية، دون أي رغبات مستقبلية واضحة، فقط بغرض الاستمتاع ونهل ما يمكن هضمه من المعارف ضمن خطّة أقل مثالية من أحلامنا. هنا قد نحصل بالفعل على مجموعة من النتائج الجوهرية، بل قد تتغير وجهة نظرنا لكل شيء من حولنا، أن قاعدة «كل شيء أو لا شيء» تُفضي بصاحبها غالبًا إلى اتجاه: لا شيء.


لماذا علم الفلك؟

خريطة سماء الليل رصد فلكي

أحد مزايا علم الفلك، هو أنه يمكن أن يقدم كهواية تُمارسها من حين لآخر دون الحاجة للدخول في تعقيدات فيزيائية و رياضياتية. كل ما تحتاجه هو عيناك المجردة كبداية مع بعض المعارف البسيطة التي تحدثنا عنها في مقال سابق، ثم بعد ذلك يمكن لك أن تنطلق للتعامل المباشر مع سماء الليل واستكشاف حركتها وتأمل أجرامها المدهشة، ينقلنا ذلك لهدف المقال الأول.

العلم هو المنهج العلمي وليس العكس؛ بمعنى أن تعلّمنا لبعض الشيء عن النسبية أو الكوانتم عبر كتب مبسطة لا يعني أننا تعلّمنا المنهج العلمي نفسه في التفكير. إن وثائقيًا عن الكون يقدمه نيل تايسون قد يعطيك زخمًا معرفيًا غاية في الروعة، لكنه لن يدفعك بالضرورة لفهم ما يعنيه العلم حقًا، إلا إذا كنت تريد ذلك، لذلك فهناك طريقة أفضل للتعلم عن المنهج العلمي، إنها الممارسة العملية لهذا العلم.

يقدم علم الفلك هنا فرصة جيّدة للغاية لفهم بعض الشيء عن المنهج العلمي نفسه، ليس عبر الاندماج في الاستذكار، وإن كان ذلك مهمًا، ولكن عبر الرصد المباشر لحركة السماء ونجومها وتطبيق بعض القواعد عليها، حيث حتمًا سوف تدفعك سماء الليل للفضول عن مكوناتها بعد فترة قصيرة من تأملها. خذ مثلاً النجم الأحمر اللامع هناك، إنه إبط الجوزاء من كوكبة الجبار، نراه في الشتاء وأوائل الربيع. بعد التعرف على إبط الجوزاء ستود أن تسأل عن عمره مثلاً، عن بعده عن الأرض، عن سبب ذلك اللون الأحمر، هنا قد تلجأ للويب كي تسأل: كيف يمكن أن نعرف كل ذلك عن تلك النجمة البعيدة؟.

بالتدريج سوف تتكون لديك فكرة مفادها أن كل ذلك، كل ما نعرفه عن عمر، قطر، كتلة، مدار، تركيب نجم ما له علاقة بقوانين فيزيائية فقط. بمعنى أننا لا نحتاج أن نقوم بزيارة خاطفة مستحيلة إلى نجمنا العملاق الأحمر لكي نتعرف على كل ذلك، فقدرة المنهج العلمي على استخلاص كل ذلك الكم المهول من المعلومات من ضوء النجوم سوف تدفعك حقًا للتأمل، سوف يتسع أفقك لأقصى درجاته وتتفتح الأفكار الجديدة في دماغك بشكل لا تعهده، ليس فقط لأنك قرأت ذلك، بل لأن ما دفعك لقراءته والتعلم عنه هو ذلك الفضول الذي أصابك بعد فترة من الممارسة العملية، الفضول إذًا هو سر اللعبة، إنه سبب السؤال المتكرر طوال ممارستك لتلك الهواية عن: كيف عرفوا ذلك؟.

تضرب الشهب أعالي الغلاف الجوي بأعداد مجنونة فننتظرها في ديسمبر وأغسطس كأطفال يبحثون عن الحلوى في العيد، يمر مذنب ذا قدر ظاهري مناسب فنتخطفه بأعيننا، يترافق القمر مع نجمة عزباء تبلغ درجة حرارة سطحها العشرين ألف مئوية، تنكسف الشمس مرة واحدة بعد عشر سنوات، تعرض سماء الليل دائمًا مجالاً واسعًا من الظواهر التي تمثل عرضًا سينيمائيًا لا يصيب بالملل أبدًا، بالعين المجردة يمكن أن ترى أربعة آلاف نجمة تقريبًا، ومع امتلاكك لتلسكوب بسيط لا يتخطّى ثمنه الألفي جنيه سوف تتمكن من متابعة ما يتخطى ذلك بكثير، سوف تتمكن من متابعة العديد من السدم والتجمعات النجمية والمجرات القريبة. نعم، سوف يفتح ذلك بابًا لأسئلة من كل نوع ممكن.

كيف نشأ كل ذلك؟، مما يتكون؟، كيف عرفنا؟، لماذا تتخذ المجرات شكلاً مسطحًا بينما تتخذ الكواكب شكلًا كرويًا؟، هل هناك حياة أخرى في الكون؟، قبل أن تنطلق بذلك الكم المهول من الأسئلة – والأسئلة هي أوّل العلم وآخره- دعنا نتوقف قليلاً لنراقب هذا المشهد البسيط.

ها أنت ذا تقف فوق سطوح بيتكم في مواجهة هذا الكون الواسع، بعد فترة من المتابعة تدرك مدى صغر حجم هذا الكوكب الذي تسكن فيه مقارنة بشراسة اتساع هذا الكون، فمن منظور كائن آخر يوجد على –حتى- أقرب النجوم لنا، بروكسيما قنطورس، أنت لا شيء، لا توجد، حينما نبدأ في هضم ما تعنيه كلمات كـ «أكبر» و«أقرب» على المستوى الفلكي فسوف يتغير منظورنا للعالم كله، سوف تقف أمام كل ذلك البراح الرحب مجذوبًا كدرويشٍ ثقيل الحمل.

هنا ربما سوف تتعلم أن العالم بالأسفل، بما يمتلك من ازدحام مروري، وقضايا تليفزيونية، أزمات لاجئين، وغباء سياسيين، أن مشكلتك مع سائق الميكروباص، وضغط الامتحانات، وحقد زملاء الدراسة، أن تلك الشيكات الشهرية والاجتماعات الفصلية ومواعيد التسليم الحمراء هي لا شيء، لا تهم حقًا أمام ذلك البراح المجنون.

سوف يساعدك ذلك أن تهدأ قليلاً، سوف يدفعك حتمًا للمزيد من التأمل في مدى تفاهة ما نعيشه هنا على الأرض.

إن تلك الحالة من التواصل مع الطبيعة تتسبب دائمًا في ما يشبه «العودة إلى الذات»، في الحقيقة ليست تلك هذيانات فكرية، فكما يقول هينرك سكوليموفسكي في كتابه الشهير «فلسفة البيئة» حينما يتحدث عن مشكلة انفصال الإنسان عن الطبيعة كمعبر عن الانفصال عن ذاته أنه «يلوح لنا منطقيًّا وجودُ سياقين مختلفين منخرطين في الأمر: الإمعان في ارتياد العالم المادي، من جهة، والزوال البطيء للقيم الإنسانية الجوهرية، من جهة أخرى».

حسنًا، هي ليست عادتي في الكتابة، لكن دعنا لمرة ندفع مشاعرنا لأقصى حدود رومانسيتها، أنت لاجئ سوري يسكن في أحد المخيّمات بالأردن أو تركيا، مواطن مصري يكدح من أجل منع ستائر الفقر أن تنسدل عليه مع كل ارتفاع في أسعار العملات، عراقيٌ حائر، أنت شاب بائس، بسيط، ساذج أو معقد، غريب، أنتِ ابنة العديد من المشكلات التي تحدث يوميًا دونما تدخل منك، لا يهم ذلك كلّه. يمكن لساعة أو اثنتين مع سماء الليل في ليلة ربيعية معتدلة أن تتسبب في بعض الأمل، لا لشيء إلا لأن الكون أكبر من كل الاحتمالات والحتميات.

هل سوف يمثل هاوي الفلك عريسًا جيدًا إذن بعد كل ذلك؟، في الحقيقة لا أدري، الأمر يتعلق بقدراتك على تقبل مستوى غريب من المشكلات مع رجل من ذلك النوع. فهو دائمًا ما يعلق عينيه بالنجوم، وذلك بالطبع قد يتسبب لك في بعض الحرج حينما ينظر الناس لرجلك كمريض نفسي، قد يدفع الكثير من المال والوقت في الأطالس والتلسكوبات والرحلات الرصدية، لا تتصوري أن رحلات الشتاء والصيف سوف تكون لأسوان أو الساحل الشمالي مثلاً، بل ربما لمرصد القطامية أو بعض الجلسات الطويلة التي قد تكون مملة أعلى المنزل لانتظار الشهب مع تعليقات للجيران حوله وحول تلسكوبه من نفس النوع السالف ذكره منذ قليل، فكّري كثيرًا قبل قرار كذلك.

أسبوع العلوم المصري