الاحتفاظ بجاسوس في الداخل يعادل جيشاً بأكمله.
من كتاب «فن الحرب» للفيلسوف الصيني «صن تزو»

على الرغم من تطور الأساليب التي تستخدمها الاستخبارات الدولية في الحصول على المعلومات السرية ما بين التجسس الإلكتروني وأجهزة التنصت والأقمار الصناعية وسائل الإعلام المختلفة، فإن فكرة تجنيد الجواسيس ما زالت تحتفظ بأهميتها ورونقها الخاص. فما زالت الدول حتى اليوم تعمل على تجنيد وزرع الجواسيس بفئاتهم المختلفة سواء كانوا طلاباً أو أكاديميين أو صحافيين أو رجال أعمال أو غيرهم.

ومن بين هذه الفئات يحظى رجال الأعمال بميزة استثنائية تتمثل في استثماراتهم التي تعد بمثابة مفتاح يفتح أبواب الدول المغلقة. لكن هذا المفتاح ذاته يثير عددًا من التساؤلات بشأن الأسباب التي قد تدفع رجال الأعمال للقبول بتلك المهام ذات الدرجة العالية من الحساسية، والتي قد تقوِّض في أي وقت كياناتهم الاقتصادية وكافة نجاحاتهم. فما الذي يدفعهم لهذا؟ وكيف تتمكن الدول من توظيفهم لصالحها؟


الدولة ورجال الأعمال: الشد والجذب والمنفعة المتبادلة

دائمًا ما يسعى رجال الاعمال وراء الربح، أما الدول فتسعى لضمان الاستقرار والنمو الاقتصادي. وفي الطريق لإنجاز تلك المساعي، يحاول كل منهما التأثير على الآخر مستخدماً وسائل وآليات عدة؛ تتراوح بين الضغط والإغراء وتبادل المنفعة. فعبر تلك الوسائل يسعى رجال الأعمال لدفع الحكومات لاتخاذ القرارات التي تروق لهم ومنع تلك التي لا تتسق مع مصالحهم، فيما تعمل الدول على إخضاعهم أو جذبهم نحوها بما يتوافق مع سياساتها وأهدافها.

وبالرغم من هذا فإن هناك عدة عوامل من شأنها زيادة قدرة أحد الأطراف على التأثير مقابل الآخر،يأتي في مقدمتها سمات النظام السياسي. فبعض النظم تسمح بزيادة قوة رجال الأعمال مقابل الدولة أو الحكومة كما هو الحال في الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة اليوم، والتي تتعرض حكومتها لضغوط من الشركات المتضررة من قرار حظر التعامل مع شركة هواوي، وفي مقدمتها شركتا (إنتل وكوالكم). والبعض الآخر لا يسمح بمثل هذا النفوذ كما هو الحال بالدول الشمولية، حيث الدولة العامل الرئيسي والمتحكم في المعادلة السياسية والاقتصادية.

وبصرف النظر عن التفاوت في التأثير والعلاقة الحاكمة لرجال الأعمال والنظام السياسي، إلا أن اللافت بها هو المدى الذي يمكن أن تصل إليه هذه العلاقة. ففي كثير من الأحيان تنجح الدولة في السيطرة على رجال الأعمال بشكل يتعدى المسائل الاقتصادية والأرباح إلى التجنيد السياسي والأمني لتحقيق أهداف ومصالح قد لا يتمكن السياسيون من تنفيذها.


التجسس: عالم رجال الأعمال الخفي

توظف العديد من دول العالم رجال الأعمال (سواء كانوا صنيعتها أو المتواجدين على الساحة الاقتصادية) في تنفيذ أجنداتها السياسية والأمنية، عبر توجيه الاستثمار نحو مشروعات محددة بهدف الترويج السياسي أو توجيه الرأي العام بالداخل والخارج، حيث يُدعى رجال الأعمال للاستحواذ على الصحف والقنوات الإعلامية، أو تم توجيههم للتوغل داخل دول أخرى وفتح مشروعات استثمارية بما يخدم أهداف الدولة المُجنِدة وحتى في عمليات التجسس!

بين الحين والآخر، تتوالى الأنباء بشأن تجنيد دول لرجال أعمال بعمليات تجسس لصالحها. ففي الصين – على سبيل المثال- وفي ظل فشل السياسات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي اتبعتها الحكومة الصينية على مدار سنين طويلة لإجبار تايوان على تبني فكرة إعادة التوحيد. لجأت بكين إلى تجنيد رجال الأعمال للتجسس على تايوان لصالحها تحت ستار الاستثمار.

وفي هذا الإطار جنّدت الصين عددًا من رجال الأعمال من أمثال الصيني «لين وي لين»، والتايواني «هونغ شين» الذي حاول بدوره إغراء مسئولين بوزارة العدل التايوانية للعمل الاستخباراتي لصالح بكين مقابل مبالغ ضخمة.

وهو الأمر الذي اتبعته موسكو أيضا في مساعيها للتجسس على واشنطن، إذ قامت بتجنيد «ألكسندر فيشنكو» وهو رجل أعمال أمريكي روسي، وذلك للتجسس لصالحها وتهريب مكونات إلكترونية أمريكية محظور تصديرها. وبالفعل تمكن رجل الأعمال هذا عبر شركاته واستثماراته بالداخل الأمريكي من تهريب تلك المكونات وإرسالها إلى الجيش والاستخبارات الروسية، على الرغم من القيود الصارمة التي تفرض واشنطن عليها لإمكانية استخدامها في تصنيع أنظمة عسكرية وأجهزة رادار و مراقبة وأنظمة لتوجيه الأسلحة وتفجيرها.


ماذا عن الشرق الأوسط؟

لم يقتصر الأمر على الدول الغربية أو القوى الكبرى فقط، بل امتد إلى منطقة الشرق الأوسط، حيث تم الكشف عن عمليات تجسس بالعديد من الدول مثل: الإمارات وتونس وإيران والكويت والسعودية وغيرها. قاد هذه العمليات رجال أعمال تم تجنيدهم سواء من دول داخل المنطقة أو خارجها لاستكشاف أسرار الأنظمة السياسية وتوظيفها في الحصول على مكاسب سياسية وأمنية بما يخدم مصالح هذه الدول.

1. في الإمارات

طبقاً لما نشره موقع «ذي إنترسبت»، قامت دبي قبل ثلاثة أيام من تنصيب «دونالد ترامب» رئيساً بالبيت الأبيض، بدفع رجل أعمال إماراتي يُدعى «راشد آل مالك» للتقرب من ترامب، وذلك لمدها بالمعلومات حول سياساته تجاه الشرق الأوسط، وخاصة في الملفات التي تهمها من قبيل موقف إداراته من الإخوان المسلمين، والأزمة مع قطر، وكذلك المعلومات بشأن اللقاءات التي تجري بين كبار المسئولين الأمريكيين وولي العهد السعودي، محمد بن سلمان.

وقد منحته الإمارات اسماً حركياً، لجمع تلك المعلومات، تحت ستار أعماله واستثماراته، وهو الأمر الذي نجح به، حيث استمر بالعمل كجاسوس لصالحها طوال عام 2017، مزوداً إياها بمعلومات حول سياسة إدارة ترامب بالشرق الأوسط.

وبالرغم من تأكيد الموقع الاستقصائي أن الاستخبارات الإماراتية دأبت على تعويض النقص لديها بخدمات رجال الأعمال والمواطنين الأثرياء الذين تجمعهم علاقات خاصة بالعائلات الملكية، كمصادر بديلة لتنفيذ مهمات جمع المعلومات للاستخبارات، إلا أن محامي «آل مالك»، «بيل كوفيلد»، نفى صحة ما تم نشره، وأشار إلى أن «آل مالك» هو مجرد رجل أعمال لديه العديد من المشاريع الاستثمارية، وليس له علاقة بالعمل الاستخباراتي.

2. في تونس

تم الكشف العام الماضي، 2018، عن شبكة تجسس يرأسها «جون جاك ديمتري» وهو رجل أعمال فرنسي يهودي مقيم بتونس منذ 10 أعوام، وصاحب استثمارات كبيرة في مجال السكن والسياحة. حيث استطاع رجل الأعمال هذا اختراق مستويات الحكم العليا بتونس منذ 2011، وتجنيد شخصيات سياسية من أعلى المستويات (وزراء مالية ووزراء سياحة ورئيس حكومة سابق) لتتبع أخبار السياسيين والشخصيات النافذة. وتمكن بالفعل من الاطلاع على كل ما يجري في أعلى مستويات القرار السياسي في تونس سواء في قرطاج أو في القصبة.

وطبقاً لما نشرته صحيفة «الشروق» التونسية، تمكن ديمتري عبر هذه الشبكة من إفشاء أسرار الدولة ونقل المعلومات عن تحركات عدد من الوزراء والمستشارين، والتجسس على اجتماعات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. كما تمكن من معرفة أسرار الاجتماعات التي كانت تقع داخل الوزارات منذ عام 2012 إلى 2017، فضلاً عن معلومات خاصة بشأن الوضع الأمني والسياحي والصراعات السياسية.

أشارت الصحيفة أيضاً إلى أنه بناءً على هذا تم فتح تحقيق مع عدد من المسئولين التونسيين بعد ثبوت تورطهم في إفشاء أسرار الدولة لصالح رجل الأعمال الفرنسي. كذلك أكدت الصحيفة أن مدير بوزارة أملاك الدولة اعترف بأنه تعرف على رجل الأعمال ذاك عام 2012، حينما كان مستشاراً بديوان الوزير، وتطورت العلاقة بينهما حتى تم تكوين شبكة لنقل المعلومات عن تحركات الوزراء والمستشارين ورئيس الجمهورية.

وفي ظل هذه الاعترافات،قضت المحكمة الابتدائية التونسية بالسجن مدة عام، وغرامة مالية قدرها 5 آلاف دينار تونسي في حق ثلاثة متهمين تونسيين، وبالسجن عامين وغرامة مالية قدرها أيضًا 5 آلاف دينار في حق رجل الأعمال الفرنسي ديمتري. إلا أن الناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائية بتونس «سفيان السليطي»، أكد أن ما نشرته الصحيفة أمر يتعلق في الحقيقة بجرائم مالية وجرائم رشوة.

3. في إيران

تم القبض عام 2015 على رجل الأعمال اللبناني «نزار دكا» بتهمة التعاون والتجسس لصالح الولايات المتحدة، حيث اعتقلته قوات الحرس الثوري عقب تلقيه دعوة من مسئول إيراني لحضور مؤتمر هناك، متهمة إياه بالتجسس لصالح أجهزة الأمن الأمريكية، كما حكمت عليه في 2016 بالسجن 10 أعوام ودفع غرامة قدرها 4.2 مليون دولار.

وقد أكدت الاستخبارات الإيرانية على لسان نائب رئيس تلك الاستخبارات «مهدي سياري» أن «دكا» تم تجنيده من قبل الولايات المتحدة للعمل لصالحها، وأنه اعترف بأنّه «كان ينوي تنفيذ مشاريع لاختراق المجتمع الإيراني، بالتعاون مع السلطات الأمريكية». كما دلّلت على ذلك بنشر صوراً له يظهر فيها مرتدياً بزة عسكرية أمريكية وافقاً بجانب مسئولين أمريكيين، واصفةً إياه بأنّه «كنز أمريكا الخفي». ومؤخراً وبفضل الوساطة اللبنانية من قبل الرئيس «ميشال عون» ووزير الخارجية «جبران باسيل»، أفرجت طهران عن دكا وعاد إلى لبنان.


بين الضغط والإغراء: تتعدد الدوافع

تتعدد الدوافع التي تقف وراء قبول رجال الأعمال بالتورط بعمليات التجسس هذه، ما بين السياسي والاقتصادي والإيديولوجي وغيره، ولكن في أغلب الحالات يظهر العامل الاقتصادي كدافع رئيسي وراء هذا، سواء كان ذلك عبر اتباع أسلوب الضغط من قبل الحكومة أو الدولة التي ترغب بالتجنيد، من خلال تعطيل المصالح الاقتصادية لبعض رجال الأعمال، أو من خلال الإغراءات المالية.

فالدول قد تلجأ إلى الضغط الاقتصادي على رجال الأعمال عبر عدد من اللوائح التي تُملي من خلالها عليهم ما يمكنهم وما لا يمكنهم فعله. ولعل أحد أبرز وأيسر الوسائل بهذا الإطار رفع معدل الضريبة بشكل يؤثر على هامش الأرباح، أو تعطيل القروض وإقامة العراقيل في وجه الاستثمارات بشكل يهدد الكيانات الاقتصادية لرجال الأعمال المستهدفين.

كذلك يمكن للدول شراء رجال الأعمال عبر الإغراءات المالية، التي تنجح في كثير من الأحيان بدفع رجال الأعمال لتنفيذ المهام المطلوبة، حتى لو كان ذلك ضد مصالح دولته. ويبدو هذا جلياً في حالات عديدة تم الكشف عنها، من بينها حالة رجل الأعمال الإيراني والخبير في مجال الإلكترونيات علي اشتري والذي تم تجنيده من قبل الاستخبارات الإسرائيلية للعمل ضد طهران. كما يظهر أيضًا بقضية رجل الأعمال الإماراتي مالك آل راشد، فطبقاً لما نشره موقع «ذي إنترسبت»، فالإمارات قامت بشرائه وتجنيده للعمل لصالحها مقابل مبالغ من الأموال شهرياً.

وإلى جانب العوامل الاقتصادية تلعب العوامل الأيديولوجية أيضاً دوراً هاماً بهذا الإطار، فكثير من رجال الأعمال المتورطين بعمليات التجسس والعمل الاستخباراتي يؤمنون بأفكار ومرجعيات معينة ويسعون لتحقيقها عبر تلك العمليات. ولعل أقرب الأمثلة إلى هذا بالمنطقة قضايا التجسس بدول الخليج، والتي يقف وراءها بحالات عديدة رجال أعمال شيعة يعملون لصالح طهران، انطلاقاً من التوافق في العقائد والأيديولوجيات. ومع هذا يمكن القول إن عمليات التجسس هذه معقدة ومركبة، فلا يقف عامل واحد فقط وراءها، بل تختلط العوامل الاقتصادية بالأيديولوجية بالسياسية بغيرها.