أعلن وزير الموارد المائية والري المصري «محمد عبدالعاطي»، قبل أيام، تعثر مفاوضات «سد النهضة» مع إثيوبيا والسودان، بعدما فشلت اللجنة الفنية المعنية بالسد على المستوى الوزاري بين الدول الثلاث في التوصل إلى اتفاق بشأن اعتماد التقرير الاستهلالي الخاص بالدراسات المتعلقة بآثار السد على دولتي المصب.

تعثر مفاوضات «سد النهضة» ليس أمرًا جديدًا، فتاريخ مفاوضات السد مليء بالعثرات، لكنه بدا مفاجئًا للحكومة المصرية هذه المرة،بحسب وزير الخارجية «سامح شكري». كما أن توقيت الخلاف يضع عبئًا ثقيلًا على القاهرة، إذ من المقرر الانتهاء من أعمال بناء السد العام المقبل، ورغم ذلك لم تحرز المفاوضات الجارية -بشكل متقطع- منذ 7 أعوام تقدمًا يذكر حتى الآن. يضاف إلى ذلك أن سبب التعثر هذه المرة ليس إثيوبيا وحدها كما هو معتاد، بل السودان أيضًا.


مفاوضات وخيبات

وضعت إثيوبيا في نيسان/ أبريل 2011 حجر أساس «سد النهضة»، باعتباره مشروعًا قوميًا لإنتاج الكهرباء والتحكم في مياه نهر النيل، مستغلةً انشغال المصريين بأوضاعهم الداخلية بعد ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011، غير آبهة باحتجاجات القاهرة منذ العام 2010 على عدم أخذ دراسات ما قبل الجدوى للسدود الإثيوبية بتداعيات هذه السدود وآثارها على مصر.

أسرع رئيس الوزراء حينها، «عصام شرف»، بالتحرك واتفق مع الحكومة الإثيوبية، في أيلول/ سبتمبر 2011، على تشكيل لجنة دولية لدراسة آثار السد على دولتي المصب (مصر والسودان)، وبدأت اللجنة أعمالها بعدها بـ8 أشهر، وتكونت من 10 خبراء؛ مصريين وإثيوبيين وسودانيين و4 خبراء دوليين محايدين.

و بحسب وزير الموارد المائية والري الأسبق، «محمد نصر علام»، فقد كانت هناك عدة سلبيات مؤثرة في بعض مواد الإطار التنظيمى لتشكيل هذه اللجنة، من أهمها أن الإطار التنظيمى للجنة نص على أن سد النهضة تحت الإنشاء، بالرغم من أن السد في ذلك الوقت لم تكن له أي تصميمات إنشائية جاهزة للتنفيذ، وقبول مصر بهذه الصياغة كان إقرارًا مصريًا بأن السد أصبح أمرًا واقعًا، وأن إنشاءاته مستمرة أثناء المباحثات. من السلبيات أيضًا أن رأي اللجنة الثلاثية استشاري وليس إلزاميًا.

في آيار/ مايو 2013، صدر التقرير النهائي للجنة الثلاثية مؤكدًا أن للسد تداعيات سلبية على مصر، واشتمل على العديد من الملاحظات المهمة على التصميمات الإنشائية وعلى الدراسات الهيدرولوجية والبيئية والاقتصادية، ونص التقرير صراحةً على أن الدراسات التي قدمها الجانب الإثيوبي بشأن السد هى دراسات مبدئية لا ترقى لمستوى الدراسات المطلوبة.

توقفت المفاوضات الثلاثية عقب الإطاحة بالرئيس «محمد مرسي» في تموز/ يوليو 2013، لكن إثيوبيا لم تتوقف عن استكمال بناء السد، ومع تولي الرئيس «عبد الفتاح السيسي» مقاليد الحكم في منتصف العام 2014، طالبت مصر باستئناف المفاوضات، وتم الاتفاق على تشكيل لجنة ثلاثية والاستعانة بمكتبين استشاريين عالميين لاستكمال دراسات السد، وأسند الأمر إلى المكتب الهولندي «دلتا رس» والمكتب الفرنسي «بي آر إل».

في آذار/ مارس 2015 وقعت مصر والسودان وإثيوبيا وثيقة إعلان مبادئ حول «سد النهضة»، ولاقت الوثيقة انتقادات حادة في مصر، إذ اعتبرها رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام السابق «أحمد النجار» هزيمة دبلوماسية كاملة لمصر، لأنه لم ينص من قريب أو بعيد على احترام حصة مصر من مياه النيل وحقوقها التاريخية، وقدم عضو اللجنة الدولية لسد النهضة الإثيوبي الدكتور «أحمد المفتي» استقالته قائلًا إن «الاتفاق لا يمنح مصر نقطة مياه واحدة»، فيما طالب وزير الري الأسبق محمد نصر علام بـ«الإقالة الفورية لكل من شارك فى هذا التهريج ومحاكمتهم وتغيير مسار المفاوضات قبل حلول الخراب».

انسحب المكتب الهولندي من إجراء الدراسات الفنية لسد النهضة الإثيوبي مع المكتب الفرنسي، في أيلول/ سبتمبر 2015، شاكيًا عدم وجود ضمانات لإجراء الدراسات في حيادية، فحل المكتب الفرنسي «أرتيليا» محله، لكن عقود المكاتب الاستشارية لم توقع إلا في أيلول/ سبتمبر 2016.

انتهت المكاتب الاستشارية في آيار/ مايو 2017، من إعداد التقرير الاستهلالي حول دراسات «سد النهضة»، لكن الخلاف دب بين الدول الثلاث، إذ رفضت إثيوبيا والسودان التقرير ووافقت عليه مصر بشكل مبدئي، واستمرت المفاوضات حتى تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري على أمل الوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف، وهو ما لم يحدث.

على مدى هذه السنوات السبع مُنيت الدبلوماسية المصرية بهزائم ثقيلة في ملف «سد النهضة»، إذ لم تنجح إلى الآن في الوصول إلى تسوية تضمن حماية حصة مصر التاريخية في مياه النيل، بل حتى لم تستطع الحفاظ على حليفها التقليدي؛ السودان، وهو ما يعكس التراجع الشديد لنفوذ مصر في أفريقيا، والذي بدأ منذ مطلع الألفية الجديدة.

على الجانب الآخر، نجحت إثيوبيا في ابتزاز مصر أكثر من مرة وإجبارها على تقديم العديد من التنازلات من أجل الجلوس على طاولة المفاوضات، ونجحت أيضًا في إطالة أمد المفاوضات لـ7 سنوات، دون أن تعطي مصر شيئًا في المقابل سوى اتفاقيات يتم التجادل حول تفسيرها. كما استطاعت كذلك أن تستميل السودان لصفها.


السودان تنحاز لإثيوبيا

قالت وزارة الري المصرية في بيانها الخاص بتعثر مفاوضات اللجنة الفنية الثلاثية المعنية بسد النهضة «إنه على الرغم من موافقة مصر المبدئية على التقرير الاستهلالي على ضوء أنه جاء متسقًا مع مراجع الإسناد الخاصة بالدراسات، والتي تم الاتفاق عليها بين الدول الثلاث، فإن طرفي اللجنة الآخرين (السودان وإثيوبيا) لم يبديا موافقتهما على التقرير، وطالبا بإدخال تعديلات على التقرير تتجاوز مراجع الإسناد المتفق عليها، وتعيد تفسير بنود أساسية ومحورية على نحو من شأنه أن يؤثر على نتائج الدراسات ويفرغها من مضمونها».

يبدو غريبًا أن تنحاز السودان (دولة مصب) إلى جانب إثيوبيا (دولة منبع) على حساب جارتها وشقيقتها وحليفتها التقليدية مصر (دولة مصب)، إذ من المفترض أن تقف دول المصب بجوار بعضها، وأن يكون هناك تنسيق في المواقف، فلماذا حدث العكس تمامًا؟

يُعد انحياز السودان لإثيوبيا على حساب مصر انعكاسًا لأجواء التوتر المشحونة بين البلدين منذ صعود الرئيس السيسي إلى سدة الحكم، إذ تتهم الخرطوم القاهرة بالوقوف مع قرار تمديد العقوبات المفروضة عليه بمجلس الأمن، وتمويل المعارضة السودانية، ودعم جنوب السودان ضد نظام الرئيس «عمر البشير»، بالإضافة إلى احتلال حلايب وشلاتين.

أما النظام المصري فينظر إلى نظيره السوداني بعين الريبة بسبب استضافته لعدد من عناصر جماعة الإخوان المسلمين الهاربين من القاهرة، بالإضافة إلى تقاربه مع قطر التي يعتبرها نظام الرئيس السيسي عدوه اللدود، وسعيه لجر مصر إلى تحكيم دولي بشأن حلايب وشلاتين.

على جانب آخر، تبدو العلاقات السودانية/ الإثيوبية في أفضل أحوالها، إذ تمد إثيوبيا للسودان –التي لن تُضار كثيرًا من سد النهضة- يد العون في المجالات الأمنية، وهو ما عبر عنه رئيس الوزراء الإثيوبي «هايلي ماريام ديسالين» مؤخرًا بقوله: «إن التعاون الأمني بين البلدين لا سقف له»، وسط تأكيد البشير أن «الأمن الإثيوبي جزء لا يتجزأ من الأمن القومي السوداني». كما أن التعاون الاقتصادي آخد في النمو هو الآخر، خاصة بعد إقامة منطقة اقتصادية حرة تسهل الربط التجاري بين البلدين، وتعهد «أديس أبابا» بتوفير 500 جيجا وات من كهرباء «سد النهضة» لإضاءة الخرطوم.


كيف ردت مصر؟

أقرت اللجنة الثلاثية بدء أعمال الإنشاء، ما عُد حينها اعترافًا مصريًا ضمنيًا بعملية الإنشاء، وحصر العمل الثلاثي المشترك في تلافي الأخطاء وتقليل الأضرار دون منع الإنشاءات

على المستوى الرسمي، كان هناك صدمة مصرية مما فعلته إثيوبيا والسودان، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية «سامح شكري» بقوله: «بعد طول مدة ووقت طويل لم نتوقع أن يستغرق المسار الفني هذا القدر من الوقت للتوافق على شركة فنية يجب أن تعمل بشكل محايد، ولم نكن نتوقع أن يصطدم نطاق عملها بأي رؤى تصعّب المسار والاتفاق بشأنه لتوجيه الشركة في مجال عملها».

تبدو ردود الفعل المصرية غير واضحة أو بمعنى أدق مرتبكة، لا تتبنى استراتيجية صريحة حيال الأزمة، فماذا لو أفاق المصريون وقد جفت منابعهم وقد كانت تفيض قبل سنوات؟

وأعلن مجلس الوزراء أنه «يتم حاليًا متابعة الإجراءات الواجب اتخاذها للتعامل مع هذا الوضع على كل الأصعدة، باعتبار أن الأمن المائي المصري من العناصر الجوهرية للأمن القومي. وأكد المجلس أنه سيستمر في المتابعة الدقيقة لتطورات الأمر والمفاوضات الجارية، وكذلك التوصيات الصادرة عن اللجنة العليا لمياه النيل في هذا الصدد لاتخاذ ما يلزم من إجراءات».

وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية أحمد أبو زيد، إن «رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي ماريام ديسالين سيلتقي الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في ديسمبر/ كانون الأول المقبل، لبحث الأمر. وهناك اتصالات سياسية مباشرة بين مصر وإثيوبيا بهذا الشأن، إذ يجري وزير الخارجية سامح شكري اتصالات مع نظيره الإثيوبي».

كما هو واضح من التصريحات الرسمية لا توجد خطة فعلية للتعامل مع الوضع سوى انتظار زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي لمصر الشهر المقبل، على أمل أن تسفر المناقشات عن التوصل إلى اتفاق حتى تستكمل المكاتب الاستشارية عملها.

وللتغطية على الأزمة داخليًا، أثارت دوائر إعلامية مقربة من النظام أزمة «سخرية المطربة شيرين من النيل»، رغم أن الحفل الذي أطلقت فيه الفنانة دعابة حول مياه نهر النيل كانت في كانون الثاني/ يناير الماضي، ولم تستدع للمشهد إلا مع تعثر مفاوضات «سد النهضة»، إذ خصصت بعض البرامج التلفزيونية والجرائد مساحة كبيرة للأزمة، خاصة بعدما قررت نقابة المهن الموسيقية إيقاف المطربة عن الغناء والتحقيق معها، ومنعها من الحصول على أي تصريح لإقامة الحفلات.

تعمد الدولة المصرية في جُل مشكلاتها إلى التسطيح والتشتيت وصرف الأنظار عن جوهر الأزمة والعجز، لكن ماذا عساها تفعل إن أفاق المصريون وقد جفت منابعهم؟