نائب عظام بمستشفى الزقازيق الجامعي، حرصًا على استمرار العمل في القسم رغم عدم توافر المستلزمات، وعدم كفاية المبالغ المقررة على نفقة الدولة للحالة، فإنه يطلب من أهلها استكمال النواقص، حتى لا تتأجل عمليتها.

لا يبدو ما سبق خبرًا مثيرًا على الإطلاق. لذا لن يلتفت له الرأي العام، المطلوب إقناعه كرهًا وطوعا أن كل شيء على ما يرام، وأن الدولة تحقق الإنجازات، وتحارب الفساد، وتسهر على مصلحته أكثر من نفسه. كذلك لن تنشغل به برامج التوك شو لتمارس حفلات الإلهاء والتسخين المعتادة. كما لن يترك أثرًا في مواقع التواصل الاجتماعي أو الصحف … إلخ.

لكن ما رأيك في الخبر التالي: الرقابة الإدارية توجه ضربة جديدة للفساد، فتلقي القبض على نائب عظام بالزقازيق الجامعي، لمحاولته أخذ رشوة من أهل مريض غير قادر مقابل إجراء العملية للمريض؟

الخبر الأخير يضرب عدة عصافير بحجر واحد ….

أولًا هو خبر مثير، سينتزع كثيرًا من التعجب والاستنكار والانشغال ممن سيسمعون به، وبالطبع الكثير من «الحسبنة» على الدكاترة أعداء الشعب، الذين لم يعُد في قلوبهم رحمة، ولا يكتفون بالـ « ٥ ع» الشهيرة، ويريدون المزيد.

ثانيًا، سيكون جزءًا من المتاجرة بقضية حساسة لدى عموم المصريين، وهي مكافحة الفساد المتفشي في كل شبر من المحروسة. لا مشكلة لدى جهاز رقابي كبير، أن يستعرض عضلاته على طبيب شاب، في مقتبل حياته المهنية، نفَّذ – بحسن نية – السياسة المتبعة في قسمه، ليستمر العمل به رغم النقص الشديد في كل شيء. فمثل هذه الإنجازات السهلة، أقل خطورة بكثير من محاولة توقيف رجل أعمال «مسنود»، أو مواجهة «حوت» ثقيل، يعمل كواجهة لجهة ما… إلخ.

صدقني عزيزي المواطن أن أقل مشاكل المستشفيات الجامعية، ما يتعلق بالطاقم الطبي وضميره، وليس العكس كما يصورون لك.

أما ثالثًا، والذي لا يقل خطورة عن ثانيًا، فهذا الخبر يصب في صالح تعزيز فكرةٍ تحرص الدولة على تعميمها بخصوص كارثة الصحة في مصر، وهي تبرئة ساحتها من مسؤوليتها الأولى والأخيرة عن هذه الكارثة، وإلقاء المسؤولية الأكبر على الطاقم الطبي. وكأن كل الإمكانيات والمستلزمات والإداريات والميزانيات المتعلقة بالصحة على ما يرام، لكن الترس الوحيد الفاسد في المنظومة هو الطاقم الطبي معدوم الضمير، ومنتكس الوطنية!

سأستغل الواقعة المؤسفة التي حدثت مؤخرًا للزميل المحترم نائب عظام الزقازيق، والتي أوقعته فيها محاولة بائسة للتذاكي من أقارب الحالة، الذين صوروه متلبسًا بالجرم المشهود، وأبلغوا عنه الرقابة الإدارية، لأوضح بعض الحقائق على الأرض، و التي تخفى على الكثيرين. فلنسمّها مثلًا:

١٠ حقائق لا يعرفها كثير من المصريين عن «استقبال الجامعة».

ما بتسألنيش ليه عن حق المواطن المصري في العلاج الجيد؟ ما عندناش علاج جيد في مصر.
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي – مؤتمر صحفي مع الرئيس الفرنسي ماكرون – ٢٤ أكتوبر ٢٠١٧

الحقيقة الأولى أن من الابتلاءات الكبرى في مصر، أن الملاذ الأول لمعظم المصريين في الحالات الطارئة، هو استقبال أقرب مستشفى جامعي، خاصة في الحالات الأكثر خطورة. وهو ابتلاء شديد؛ نظرًا لأن الإمكانات التي توفرها لها الدولة – وهي بالأصل مشافٍ حكومية – من أنظمة وتجهيزات ومبانٍ ومستلزمات وخدمات معاونة كالأمن … إلخ، لا تكاد تغطي في أحسن الأحوال ربع ما يحتاجه الدور الثقيل الملقى على عاتقها في اللامنظومة الصحية في مصر، رغم أنها تعتبر بجانب المعاهد المتخصصة «كمعاهد القلب والكبد والسكر … إلخ»، نخبة الخدمة الصحية العامة في مصر.

أما الثانية، فصدقني عزيزي المواطن أن أقل مشاكل المستشفيات الجامعية، ما يتعلق بالطاقم الطبي وضميره، وليس العكس كما يصورون لك. فالنائب المسئول عن حالتك في الاستقبال الجامعي، هو شاب اجتهد ٧ سنين عجافًا، ليحصل على ترتيب متقدم في المجموع التراكمي، يؤهله ليحصل على فترة تدريبه المسماه بـ «النيابة»، في الجامعة. وبغض النظر عن الكثير من مساوئ نظم الامتحانات والتقييم والمحسوبية في كليات الطب المصرية، فإن أوائل الدفعات إجمالًا يستحقون ترتيبهم، ويمتازون بالطموح وروح المنافسة. ولذا يحرصون على التعلم في فترة النيابة جيدًا، ويريدون أن يطبقوا في حالة حضرتك – حسب ما تسمح به الإمكانيات المحدودة – العلاجات الأفضل. وفوق النواب بناء هرمي من المدرسين والأساتذة يراجعونهم فيما يفعلون.

والحقيقة الثالثة، أنه إن كان أول ضحايا عجز إمكانات المشافي الجامعية – والحكومية عمومًا – هو أنت أيها المواطن الذي لا تجد بديلًا سواها، فإن ثاني الضحايا بلا منازع هم نواب الجامعة. فهؤلاء يقضون معظم سنواتهم الأولى بين جدران المستشفى، ويرون وجوه المرضى أكثر من أهلهم. وليْتَهُم يكلفون فقط بممارسة الطب بإمكانات محدودة، إذن لهان الأمر، ولكنهم يعملون في فراغ من النظام، مما يضعهم دائمًا في مواجهة مباشرة مع المرضى وأقاربهم المتحفزين، في كل التفاصيل، وحتى سلامتهم الشخصية من الاعتداء لا يضمنها من وضعهم في هذا الموقع الخطير. وهم كذلك أشبه بالجنود المحصورين بين ضغوط ضباطهم، وفوهات البنادق.

أما الرابعة والخامسة والسادسة، فنائب الجامعة عمومًا لا يطلب منك شيئًا من الخارج «وهو عنده جوه»!. لا تعرف عزيزي المواطن مدى الثقل النفسي لمهمة أن يطلب منك نائب الجامعة شراء كذا من الخارج، أو عمل تحليل كذا بالخارج … إلخ. وغالبًا ما يكون قبلها قد اطمأن على وجود مبالغ متبقية في درج «الدونيشنز» – التبرعات donations – أو حتى في جيبه الخاص، تحسبًا لردك عليه بأنك غير مستعد. ما يُطلب منك يا عزيزي من الخارج في معظم الأحيان، إما أنه غير موجود، أو الموجود منه غير موثوق في كفاءته. تسألني لماذا يعملون إذن دون إمكانيات؟ ردي سيكون سؤالًا: ما موقفك إذا قاموا بإضراب عن العمل لحين توفير المستلزمات؟

والسابعة أن نواب الجامعة لا يبدون مرهقين دائمًا لأنهم كانوا في عياداتهم الخاصة حتى وقت متأخر. فهذا الذي غالبًا ما يتواجد بالمستشفى يومًا ونصف، ويرتاح نصف يوم، لا تتخطى طموحاته خارج المستشفى حمامًا دافئًا، والحنين إلى طبيخ أمه، والنوم لبضع ساعات متواصلة. وللمحظوظين فقط، حضور المناسبات الاجتماعية الهامة للغاية، أو انتزاع سفر قصير للغاية للترويح. وحتى لو افترضنا وجود النائب «الهرقل» الذي يجد فائضًا للعمل في وقت راحته، فإن القواعد الصارمة غير المكتوبة في الجامعة تمنعه من العمل الخاص أثناء النيابة، وإلا تعرض لمشكلات جمة في تحضير رسالة الماجستير …. إلخ، وقد يصل الأمر لتحويله للتحقيق، وعدم تثبيته فيما بعد النيابة كعضو هيئة تدريس.

لا تتصارع عزيزي المواطن مع ضحية مثلك، مشدود وثاقه معك في قاع نفس السفينة الغارقة.

معلومة على الهامش: نائب الجامعة – عمره بين ٢٥ و ٢٨ عامًا، وقد يكون متزوجًا وله أطفال – يتراوح مرتبه الشهري بين ألفين وثلاثة آلاف جنيه حسب كل جامعة، وبنسبة ٩٥٪ على الأقل لا يكون له دخل سواه – حتى ينهي النيابة ويحصل على الماجستير، ويستطيع دخول دوامة عمله الخاص.

أما الحقيقة الثامنة، نائب الجامعة لا ينفعل عليك عامدًا، أو نوعًا من الغرور والتكبر. فهذا رد فعل متوقع – وهذا تفسير لا تبرير – من شاب يفتقر بشكل مزمن إلى النوم، ويسرق أوقات الطعام اختلاسًا وسط ضغط أعمال يومه الثقيل. ويُستنزف بجانب نقص الموارد الطبية، في القيام بمهام إدارية كالبحث لحالات الدخول عن أسرّة فارغة، أو طمأنة الأعلى منه على تحاليل فلان وأشعة ترتان من المرضى إلخ، وهو مضغوط دائمًا ممن هو أكبر منه في التعامل مع الحالات، وفي البحث عن سرير للحالة التي أرسلها الأستاذ الدكتور علان، وفي رسالة الماجستير … إلخ.

والحقيقة التاسعة، رغم أنها مستشفيات تعليمية، فإنه لا أحد يتعلم في جسمك بالشكل السلبي الذي تتصوره. لن ينفرد بك النائب، والمشرط ثالثكما، ليعبث بجسمك من أجل التعلم. ففوق النائب الصغير «الجونيور» هناك «ميد سينيور»، ثم «سينيور»، ثم مدرس مساعد جديد حاصل على الماجستير بعد ٣ سنين نيابة على الأقل، ثم مدرسين مساعدين أقدم، ثم مدرس حاصل على الدكتوراه، وغالبًا لا يكون هذا إلا خلال ٩ سنوات على الأقل من بداية النيابة، ثم أساتذة مساعدين وأساتذة إذا لزم الأمر. لا أحد يقوم بشيء للمرة الأولى إلا تحت إشراف المتمرس فيها. وفي معظم الأقسام لا يتم تكليف النواب الجدد بأي عمل مستقل إلا بعد شهور من التدريب اللصيق attached بالنواب الأقدم.

أما العاشرة والأخيرة، فهي الأهم. إن كان لك صديق في استقبال طوارئ الجامعة، فسيكون هو النائب. لا أتحدث عن الأكلاشيهات التي ابتُذِلَتْ من نوعية ملائكة الرحمة … إلخ. إنما أتحدث من باب المصلحة البحتة. من مصلحة النائب أن يتعامل مع الحالة بأقصى سرعة، وكفاءة تتيحُها الإمكانات الموجودة، بأقل المضاعفات، وليس من مصلحته بتاتًا تأجيل الحالات. فالإنجاز في الحالات معناه تعلم المزيد، والبعد عن المشاكل، والإحساس بقيمته وقيمة عمله. وعلى مستوى أبسط كثيرًا، قد يكون معناه أنه قد ينتزع دقائق أكثر من النوم ليستطيع مواصلة النوبتجية، أو يحصل على سويعاتٍ أكثر من الراحة في منزله.

الخلاصة..

لا تتصارع عزيزي المواطن مع ضحية مثلك، مشدود وثاقه معك في قاع نفس السفينة المترنحة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.