في ظل حكم رئيس يتباهى بتحرشه بالنساء من حوله، وينادي بفرض حظر على دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة، وينشر خطاب الكراهية للمهاجرين واللاجئين، ويؤيد الحكام المستبدين والفاشيين والقتلة في مختلف البلدان، حملت انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة مؤشرات قد تكتب نهاية لموجة اليمين المتطرف التي تجتاح العالم.

استطاع الحزب الديمقراطي انتزاع الأغلبية في مجلس النواب الأمريكي من غريمه الحزب الجمهوري، لأول مرة منذ ثماني سنوات، وحققت النساء تقدمًا تاريخيًا عبر تسجيل رقم قياسي جديد لعدد نائبات يتجاوز 110 نائبات في غرفتي الكونجرس.

الأهم من هذا الرقم غير المسبوق هو الأجندة السياسية التي يحملها هؤلاء الأعضاء؛ فالحزب الجمهوري استطاع أن يسجل انتصارًا كاسحًا في 2016 نتيجة للخطاب الشعبوي الذي تبناه الرئيس ترامب وحزب الشاي، والذي اهتم بمشاكل ومخاوف أكثر واقعية وشيوعًا لدى الناخبين الأمريكيين الذين سئموا السياسيين التقليديين ولم يعودوا يثقون بهم.

دفعت هذه الهزيمة دماء جديدة في الحزب الديمقراطي، شبابًا أكثر راديكالية يواجهون الخطاب الشعبوي اليميني ودغدغته لمخاوف المواطنين وعواطفهم، لا من برج سياسات الهوية العاجي كما فعلت هيلاري كلينتون، بل من بيوت ومصانع الطبقات العاملة؛ تغيير قادته نساء (تقدميات) لا ينشغلن بقضايا المرأة عن مشاكل التعليم والصحة والإسكان وأجور العمال.


نانسي بيلوسي

نانسي بيلوسي مع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما.

بينما يفضل رجال الكونجرس عادة ارتداء حذاء رياضي يكون مريحًا عند إلقاء الخطابات، وقفت المرأة السبعينية، بأناقة كاملة وحذاء ذي كعب عال يتجاوز العشر سنتيمترات، لتلقي، وعلى مدار 8 ساعات متصلة دون استرحة،أطول خطاب في تاريخ مجلس النواب الأمريكي، تدافع فيه عن الحالمين من المهاجرين الشباب، ضد سياسات وقيود الهجرة التي أصدرها الرئيس ترامب.

بيلوسي، النائبة المخضرمة ذات الأصول الإيطالية ووريثة النشاط السياسي لوالدها، الذي كان نائبًا عن ولاية ماريلاند، كانت قد توجت مسيرتها البرلمانية الطويلة في 2007 بأن أصبحت أول امرأة تترأس مجلس النواب الأمريكي. استمرت بيلوسي في منصبها لأربع سنوات، لعبت فيها دورًا حيويًا في صنع وتمرير عدد من أهم التشريعات التي قدمها الحزب الديمقراطي، لا سيما زيادة الحد الأدنى للأجور، وقانون الرعاية الصحية، المعروف بـ(أوباماكير)، والذي كانت بيلوسي من أبرز الداعمين له.

في الساعات المتأخرة من ليلة الانتخابات، وبعد ظهور النتائج الأولية تترا،أعلنت بيلوسي أن شمس الغد ستحمل معها انتهاء هيمنة الجمهوريين على مفاصل السياسة الأمريكية، إثر فوز الديمقراطيين بأغلبية مقاعد مجلس النواب، مما يعني عودة مرجحة للمقاتلة العتيدة لرئاسة مجلس النواب الأمريكي. ورغم كونها محسوبة على التيار التقليدي بالحزب الديمقراطي، فإن المرأة الحديدية، بخبرتها الممتدة، ستكون جاهزة للوقوف بالمرصاد لإدارة الرئيس ترامب وحزبه.


ألكساندريا أوكاسيو – كورتيز

الاحتفاء والزخم الذي لاقاه فوز أوكاسيو- كورتيز لا يعود فقط لكونها أصغر امرأة تنتخب للكونجرس الأمريكي (29 عامًا)، بل للاختراق الذي يمثله فوز مرشحة تنتمي صراحة للاشتراكيين الديمقراطيين.

النائبة عن نيويورك، والمنحدرة من أصول لاتينية، عانت حياة صعبة واضطرت عقب إنهاء دراستها الجامعية في الاقتصاد والعلاقات الدولية بجامعة بوسطن،للعمل نادلة في البارات وعربات الطعام المتنقلة لساعات طويلة من اليوم لتوفير حد أدنى من الكفاف لها ولأمها بعد وفاة والدها.

لاحقًا، استأنفت أوكاسيو- كورتيز حياتها السياسية، والتي بدأتها في سن مبكرة في المدرسة الثانوية، لتنضم بحماس لحملة بيرني ساندرز الرئاسية مؤمنة بالأفكار التي مثلها ودعا لها سيناتور فيرمونت العجوز. وعلى الرغم من خسارة الأخير للانتخابات التمهيدية الديمقراطية، فإن هذه الحملة مثلت انطلاقة جديدة لأوكاسيو- كورتيز.

استطاعت الفتاة العشرينية، وبحملة انتخابية مولتها عبر التبرعات الصغيرة القادمة من الطبقة العاملة، بعد أن رفضت تلقي الأموال من اللوبيات والشركات الكبرى المهيمنة على السياسة الأمريكية، أن تحقق انتصارًا مبهرًا في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، قبل أن تلحق هزيمة ساحقة بالمرشح الجمهوري المنافس.

أوكاسيو- كورتيز والتي ما زالت تسدد أقساط دراستها الجامعية، أعلنت صراحة عن توجهها الاشتراكي وميولها التقدمية داعية لتوفير نظام تأمين صحي شامل لجميع الأمريكيين، وضمان مجانية التعليم الجامعي، وإسقاط ديون المصاريف الدراسية عن الخريجين، والسماح للمهاجرين غير الشرعيين بالبقاء في الولايات المتحدة، وإلغاء قرارات الرئيس ترامب بحق المهاجرين، كما وصفت قتل الإسرائيليين للمتظاهرين الفلسطينيين المشاركين في مسيرات العودة بقطاع غزة بـ«المجزرة التي لا يمكن تبريرها».

فوز أوكاسيو – كورتيز إذًا هو انتصار لتيار جديد ناشيء في الحزب الديمقراطي يمثله ويقوده ساندرز، الذي استطاع أن يلهم جيلًا من السياسيين الديمقراطيين الشباب، ليقدموا طرحًا جديدًا يعالج المشاكل الحقيقية التي تعاني منها الشريحة الواسعة من الطبقة العاملة في الولايات المتحدة، بعيدًا عن خطاب ورؤى قيادات الحزب الديمقراطي النخبوية، والتي كلفت الحزب هزيمة فادحة في 2016.


رشيدة طليب

لذات التيار التقدمي المحسوب على بيرني ساندرز تنتمي رشيدة طليب، الفلسطينية المسلمة والأم لطفلين؛ والتي تتبع أيضًا حركة الاشتراكيين الديمقراطيين. كما هو الحال مع صديقتها أوكاسيو – كورتيز،تتبنى رشيدة أجندة تقدمية في مجالات الصحة والهجرة والبيئة، تقابل بها احتياجات العمال والمهاجرين في دائرتها الانتخابية بديترويت، قلب صناعة السيارات الأمريكية.

هاجر والدا رشيدة من الضفة الغربية عقب الاحتلال في 1967، وعمل أبوها في مصانع فورد بديترويت حيث وُلِدت رشيدة وثلاثة عشر أخًا آخرين. بعد إتمامها دراسة العلوم السياسية والقانون دخلت رشيدة عالم السياسة عبر مجلس نواب ولاية متشيجن، قبل أن تقرر الترشح لمجلس النواب الأمريكي عن الولاية ذاتها. وفي دائرة انتخابية محسومة للديمقراطيين، حتى أن مرشحًا جمهوريًا لم يترشح بها، استطاعت رشيدة تجاوز الانتخابات التمهيدية، لتؤمن مقعدها كأول مسلمة في مجلس النواب الأمريكي.

لم تستطع رشيدة كبح دموعها إثر مكالمات التهنئة القادمة من أقاربها القاطنين في قرية فلسطينية صغيرة قرب رام الله. فرشيدة، التي تعتز بأصولها الفلسطينية وبكونها مسلمة، من المطالبين بحق العودة وتأسيس دولة واحدة يعيش فيها الفلسطينيون والإسرائيليون معًا، كما تعهدت بالتصويت ضد الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل.


إلهان عمر

وسط سيل جارف من الإسلاموفوبيا وكراهية المهاجرين وطرد اللاجئين، أول لاجئة، وصومالية، ومسلمة، ومحجبة تدخل مجلس النواب الأمريكي.

إلهان عمر التي اضطرتها ظروف الحرب الأهلية لقضاء أربع سنوات من طفولتها في مخيم للاجئين بكينيا قبل أن تهاجر مع عائلتها للولايات المتحدة ويستقر بهم المقام في ولاية مينيسوتا في الشمال الأمريكي. أبدت الطفلة اللاجئة نباهة فذة فأتقنت الإنجليزية في ثلاثة أشهر وواصلت تعليمها إلى أن حصلت على درجة البكالوريوس في السياسة والعلاقات الدولية.

انتخبت إلهان لمجلس نواب الولاية في 2016، قبل أن تفوز بترشيح حزبها لخلافة النائب كيث إليسون في مجلس النواب الأمريكي عن الدائرة الخامسة بولاية منيسوتا. الجدير بالذكر أن كيث إليسون، الذي ترك مقعده في مجلس النواب ليترشح لمنصب النائب العام للولاية، كان أول مسلم ينال عضوية مجلس النواب الأمريكي في 2007، واشتهر بمعارضته للحرب على العراق وحصار قطاع غزة، كما يعد من أشد المقربين والداعمين للسيناتور بيرني ساندرز، الذي دعم بدوره ترشح إليسون لرئاسة الحزب الديمقراطي، إلا أن إليسون حل ثانيًا واختير نائبًا للرئيس.

لم يتخل المرشحون الفائزون عن أجندة الحزب الديمقراطي التقليدية المتعلقة بالدفاع عن الأقليات، لكنهم أعطوا أولوية في خطابهم واهتمامهم للمشاكل التي يعاني منها كافة الأمريكيين؛ الحصول على الرعاية الصحية، والتعليم الجامعي باهظ الثمن، الحد الأدنى لأجور العمال، تلوث البيئة ومياه الشرب، تهرب الشركات الكبرى من الضرائب ومن واجباتها الاجتماعية، وسيطرة رأس المال على السياسة والسياسيين. ما أظهرته نتائج انتخابات التجديد النصفي أن الأفق السياسي الأمريكي يتغير، وأن هذا الخطاب الجديد ينجح بالفعل.