تسجيل مسرب لمحادثة جرت بين رئيسين للبرازيل، الرئيس السابق لولا دا سيلفا والرئيسة الحالية ديلما روسيف. ديلما تخبر لولا: «لقد أصدرت قرارًا بتعينك رئيسًا للوزراء لحمايتك من محاولة النيل منك في هذا الانقلاب السياسي». لولا يجتمع بديلما في مقر الرئاسة في وجود الصحافة. يقتحم مؤيدو أحزاب اليمين المكان مرددين شتائم بحق الثنائي. يتحرك البرلمان لعزل ديلما روسيف بدعوى الفساد ومحاولة حماية لولا من التهرب من المحاكمة القضائية بتعيينه في منصب سيادي. يتم عزل ديلما والقبض على لولا بعدما أصدر القاضي الفيدرالي في ولاية برانا، سيرجيو مورو، الحكم بسجن لولا دا سيلفا بتهم فساد، في نقابة عمال الحديد والصلب في ولاية سان برناردو دو كامبو.

كنت هناك. رأيت بنفسي حاله الحزن العام. رأيت أطباء يدخلون غرفة لولا دا سيلفا وقت اجتماعه بقيادات اليسار بمن فيهم ديلما بعد عزلها عن الحكم. أصابت لولا وعكة صحية وهو في انتظار البوليس الفيدرالي للقبض عليه في أكبر عملية فساد وسرقة قدرت بـ50 مليار ريال برازيلي. خطب لولا في الجميع وقال: «إن سجني لن ينهينا فإننا نحوي فكرة، والأفكار لا تموت حتى وإن مات صاحبها». لحظات القبض على لولا وتسليم نفسه كنت أبكي حزنًا ليس فقط على سجن لولا، ولكن على تجربة ديمقراطية يسارية قد تمت الإطاحة بها إلى الأبد كما تخيلت وقتها، ولن تقوم لها قائمة.

ذلك اليوم، التقيت لولينيا، وهو أكبر أبناء لولا وأكثرهم شبهًا به، ومعه ابن زوجة أبيه دونا ماريزا. لمستني وقتها دماسة خلقهم وحسن مقابلتهم لغريب يتكلم البرتغالية بطريقة تفصح عن مهاجر ذي لغة نصف ركيكة. وقتها، سألت ابن لولا: «أراك مبتسمًا رغم المحنة؟»، فرد قائلًا: «مثلما قلتَ، هي محنة وأزمة وستمر، وإننا لعائدون بعدها».

شاهدت خطابا لديلما روسيف، وهي تقف صلبة، وكأن لحظة نهاية اليسار البرازيلي ودفنه لم تمسسها، وهي تقول: «نحن عائدون، نحن عائدون».

من قام بتسريب التسجيل الصوتي بين لولا وديلما؟

هذا التسجيل الذي أثار ضجة، وكان ورقة سياسية استطاع اليمين في البرلمان أن يستخدمها ذريعة لعزل ديلما عن رئاسة الدولة. أجاب لولا دا سيلفا نفسه عن هذا السؤال عندما سأل قاضيه سيرجيو مور في المحاكمة المذاعة علنًا في التلفزيون البرازيلي: «سيادة القاضي سيرجيو مورو، لماذا قمت بتسريب التسجيل الصوتي الذي سجّله البوليس الفيدرالي بأمر منك للإعلام؟! إذا كان لك عداء سياسي معي، فدعنا نذهب إلى صناديق الاقتراع وليس لمحاكمة غير عادلة».

خمسون مليار ريال برازيلي، هذا هو المبلغ المقدّر لعمليات وصفقات التربح والرشاوى من شركه بتروبراس البرازيلية المتهم بها لولا دا سيلفا. بتروبراس هي أكبر شركة بترول في البرازيل، وهي شركة حكومية مملوكة للدولة. السؤال هو: مَن قام بتلك العمليات ولصالح من؟ نعم، أعوان لولا المقربون هم من قاموا بتلك العمليات، وهو ما طرح الشك حول حقيقة تورط لولا من ورائهم، فهل كان لولا حقًا هو الرأس الكبير؟

هذا هو السؤال الذي دفع البوليس الفيدرالي لطلب الأمر القضائي بالتنصت على هاتف لولا دا سيلفا ومكالماته هو وعائلته. في البرازيل، عندما يقع سياسي أو رجل في تهم فساد وتربح، فإنه يعد شاهدًا في القضية شريطة أن يوقع بالرأس الكبير، وأن يرد كل ما تربحه من عمليات الفساد هذه. إذن هي قوانين اللعبة والتفاوض؛ وهكذا جميعهم أقر أن لولا هو الرأس الكبير. لكن يبقى سؤال آخر: بماذا تربح الرأس الكبير؟ أين الدليل؟ ظهرت صور للولا وزوجته في بناية شديدة الفخامة على شاطئ البحر الكبير في سان باولو، وقيل إن تلك الصورة هي لشقة فخمة ذات طوابق ثلاثة، يقدر ثمنها بثلاثة ملايين ريال برازيلي. لكن تلك الإجابة لم تكن كافية، فكيف لرأس كبير يدير عمليات تربح وصل تقديرها إلى خمسين مليار ريال إلى أن يكون كل ما تربحه هو شقة فارهة بثلاثة ملايين ريال؟ ثم أين عقود الشقة؟ لا يوجد عقود باسم لولا.

تم استدعاء موظفي الشركة المسؤولين عن عمليات البيع للوحدات السكنية في تلك البناية الفارهة، وقد أقروا جميعًا أن الشقة مسجلة باسم الشركة لأنها لم تبع لأحد. وبالتحري في نظام الشركة على الحاسب الآلي، وُجد فعلًا أنها مسجلة باسم الشركة. إذن، ليس هناك دليل مادي أو منطقي يطمئن إليه الضمير على أن لولا هو الرأس الكبير. لكن القاضي سيرجيو مورو كان له رأي آخر، فقد اعتد بأقوال الشهود، ووافق على صفقة معهم كشهود ضد لولا، إضافة إلى رد 25 مليار ريال، وفي المقابل إيداع لولا السجن.

ولكن لماذا يتم حبس لولا؟

شعبية لولا الكاسحة كانت ستجعله يعود للانتخابات ويفوز بها، لذلك كان من الضروري لخصومه أن تُسجّل ضده تهمة جنائية تمنعه للأبد من خوض أي معركة انتخابية، وهذا ما تم لهم بالفعل. هل كان القاضي مورو قاضيًا محايدًا أم مسيّسًا؟ إن تسريب تسجيل صوتي أدى إلى عزل ديلما وسجن لولا بتهمة لم يثبت عليها دليل لمنعه دخول الانتخابات يطرح سؤالًا حول نزاهة هذا القاضي.

هذا السؤال سأله صحفي أمريكي مقيم في البرازيل، ولذلك قرر التقصي عن القاضي سيرجيو مورو، ليجد محادثات مسربة من الهاتف بين القاضي سيرجيو مورو والمدعي العام داوتالون يتحدثان فيها عن رغبتهما في القضاء على لولا وحزب العمال، وقد قام هذا الصحافي بنشر المحادثات على موقع انترسبت. أما القاضي سيرجيو مورو، فقد قبل بعدها مكافأة الرئيس اليميني الفائز في الانتخابات التي لم يستطع لولا ولا ديلما خوضها، ليصبح وزير العدل في حكومة جايير بولسنارو، قبل أن يحصل على مقعد في الكونجرس. أما المدعي العام داوتالون فقد انتقل هو أيضًا إلى السياسة عبر البرلمان وهو اليوم من أشد معارضي حكومة لولا الحالية.

داوتالون تم عزله بتصويت قضائي من قضاة المحكمة الفيدرالية العليا وذلك لأنه ذو سجل غير نظيف إثر قضية ضده باختلاس أموال من أموال التحقيقات في قضية لافا جاتو، أو غسيل السيارة، التي كانت تتم ضد لولا وأعوانه. نعم، تربح داوتالون وسرق من المصاريف اليومية للتحقيقات.

يتحمل لولا أيضًا نصيبًا من الخطأ بالتأكيد فمسؤولية اختيار أعوانه في حزب العمال والحكومة تقع على عاتقه، وقد أوقعه سوء اختياره في أعتى وأصعب أزمة سياسية كادت تنهي حياته السياسية أو «تدفنه حيًا» كما قال هو نفسه يوم فوزه بالجولة الثانية للانتخابات الرئاسية.

كيف تعلم لولا من الدرس؟

عندما تم عزل ديلما روسيف، تولّى نائبها ميشيل تامر، البرازيلي من أصل لبناني، الحكم خلال فترة انتقالية. اشترك تامر الذي ينتمي إلى حزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية، وليس إلى حزب العمال، في مؤامرة الانقلاب، ومن وراء تامر كان إيسو نيفيز، رئيس حزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية والسيناتور في البرلمان الذي سبق وترشح للرئاسة ضد ديلما روسيف، وهزم أمامها.

لماذا قبل ميشيل تامر مطالب ايسو نيفيز في أن يميل لكفة الانقلاب والكتلة اليمينية؟ هذا ما كشفه جويسلي باتيستا، المالك لأكبر شركة لحوم في البرازيل، وهي أكبر شركة تصدير لحوم في العالم، وهو عمود من أعمدة الاقتصاد البرازيلي. أوقع الشرطة الفيدرالي بباتيستا في تهم رِشى وتربح، وأدلى باتيستا بشهادته التي كشف فيها عن فيديوهات وتسجيلات تظهره يقدم رِشى مالية محملة في حقائب لكل من تامر ونيفيس. تم التصويت في البرلمان على عزل تامر، ولكن الأغلبية اليمينية التي انقلبت على لولا وديلما بالإجماع، أقرّت بقاء تامر. إذن، لم يكن المحرك الفعلي لهم هو الحرب على الفساد، ولم يكن عراكهم مع لولا وديلما هدفه الحرب على الفساد كما ادعوا، وإنما الكراهية السياسية.

في الانتخابات الرئاسية التالية سنة 2018، تقدم اليساري فيرناندو حداد مرشحًا بديلًا عن لولا الذي كان قد تم سجنه، في مواجهة المرشح اليميني المتشدد جايير بولسنار، وقد فاز بولسنارو بالانتخابات ليتحقق حلم اليمين الذي سعى إليه منذ لحظة الانقلاب، وهو إزاحة اليسار عن مقعد الرئاسة.

بعد شهور من حكم بولسنارو، أيقنت أن اليسار لم يدفن في الانقلاب والفضيحة الإعلامية التي سببتها اتهامات الفساد والعزل، وأن وحده بولسنارو قادر على إعادة اليسار إلى الحكم، فقد أضعف بولسنارو اقتصاد الدولة وخفّض الضرائب على أصدقائه وداعميه من رجال الأعمال، ورفض رفع الحد الأدنى للأجور، وقلل من حقوق العمال الذين يمثلون الشريحة العظمى من الشعب، وحارب مؤسسات الدولة فدخل معركة مع رئيس المحكمة الفيدرالية العليا، وقام بعسكرة أغلب مناصب الدولة السيادية، فحتى وزير الصحة في الحكومة إبان وباء كورونا كان عسكريًا لا طبيبًا ولا حتى سياسيًا. خلال أزمة كورونا، رفض الرئيس الذي لطالما تم تشبيهه بالأمريكي ترامب الحجر الصحي والتطعيمات، وكان نتاج ذلك مئات الآلاف من الوفيات. استخف بولسنارو ضاحكًا بأعراض مرض كوفيد-19.

أيقنت وقتها مؤسسات الدولة وأحزاب يمين الوسط خطورة بقاء هذا الرجل على رأس الدولة، فهو يهدد المؤسسات والديمقراطية الهشة التي تحيا في إطارها، وبدا أن يسارًا براجماتيًا يحوي الجميع ويشركهم في الحكم خير من رعونة يمينية خالصة كتلك التي مثلها بولسنارو، لا يمكن التفاوض معها.

أظهرت استطلاعات الرأي تفوقًا كبيرًا للولا حال ترشحه، وتقدم محامي لولا بطعن أمام المحكمة الفيدرالية العليا، وتمت الموافقة عليه. أفرج عن لولا، وتم تبييض سجله مرة أخرى، وأجرت مؤسسات الدولة وأحزابها تفاهمات معه، واستطاع لولا أن يحتويهم ويطمئنهم.

فاز لولا بفارق بسيط بفارق مليون ونص المليون صوت، وبعد فوزه حاول أنصار بولسنارو الانقلاب على نتائج الانتخابات باقتحام مقرات الحكم الثلاثة: رئاسة الجمهورية، المحكمة الفيدرالية العليا، والبرلمان، وأكد هذا مخاوف المؤسسات ويمين الوسط من عسكرة الدولة والمجتمع التي جرت على يد بولسنارو، وباءت المحاولة الانقلابية بالفشل بعد مواجهات عنيفة.

عزل لولا رئيس أركان الجيش بعدما حاول الأخير إقحام نفسه في السياسة، وتحقق وعد ديلما روسيف عندما قالت: «نحن عائدون»، كما تحقق وعد لولينيا ابن لولا عندما أخبرني مبتسمًا: «هي محنة وستمر، وإننا لعائدون». عاد لولا، ولكنه عاد مختلفًا عن لولا الأمس، فحوله عدد من الأعوان المبهرين على رأسهم وزير العدل فلافيو دينو الذي يحمل من الكاريزما ما قد يؤهله يومًا أن يكون خليفة للولا. كان الدرس صعبًا وقويًا من انقلاب إلى الإطاحة ببولسينارو، لكن تجاوز الضربة منح الحركة قوة أكبر.