الأسماء في فلسطين لا تُعطَى للمواليد جزافًا، بل ترتبط بعدالة قضيتهم وبمسيرة نضال تتجاوز الأعمار القصيرة والأجسام الغضة، والتي ضاقت السلطات الإسرائيلية بها وضيّقت الخناق عليها.

عهد التميمي، بنت بلدة «النبي صالح»، 17 عامًا، عاشت المواجهات، والإصابة بالرصاص المطاطي، والاختناق بقنابل الغاز، وشهدت اعتقال والديها، واستشهاد خالها وعمتها، بدلًا من أن تعيش طفولتها، فاستحقت عن جدارة جائزة «حنظلة» للشجاعة، واستُقبلت استقبال «الأبطال» من قبل الرئيس الفلسطيني محمود عباس عام 2015.

الفتاة الشقراء ذات العينين الملونتين اللتين تتحديان بشراسة بطش الاحتلال، صارت حديث الناس إثر اعتقالها، واجتاحت قصتها وسائل الإعلام بسرعة فاقت سرعة اجتياح جيش الاحتلال لقريتها المتربّعة فوق ربوة شمال غرب رام الله، ما حدا بالبعض لوصفها بـ «أحلام الصغيرة» في إشارة إلى الأسيرة الفلسطينية المحررة أحلام التميمي.


أيقونة فلسطين أرعبت الاحتلال

عهد التميمي، سيرة فتاة صفعَت الاحتلال، وعُرفت بمواجهتها لقواته المتجبرة في قريتها، قبل أن يتم اعتقالها فجر الثلاثاء 19 ديسمبر/كانون الأول، لتتحول إلى رمز في مواجهة إسرائيل، وأيقونة للمقاومة الفلسطينية.

وُلدت عهد عام 2001 ونشأت في قرية النبي صالح وسط الضفة الغربية. نشأت في أسرة مناضلة فوالدها باسم التميمي الذي تم اعتقاله ما يقرب من 11 مرة، فتعرض للأذى والتعذيب الشديد، مما أدى لدخوله في غيبوبة لمدة عشرة أيام تقريبًا. بينما تعرضت والدتها ناريمان التميمي للاعتقال ثلاث مرات وأُصيبت بالرصاص الحي في فخذها في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2014. وتوفيت شقيقة أبيها عام 1992 إثر صدمة أودت بحياتها بعد أن قضت محكمة عسكرية إسرائيلية بسجن نجلها.

وجاء اعتقال عهد بعد أن حاولت طرد الجنود من ساحة بيتها أثناء مواجهات في قريتها، وأظهر الفيديو قيام التميمي بطرد عنصرين من جنود الاحتلال وصفعهما على وجهيهما، لعدم اكتراثهما بطلبها بالذهاب بعيدًا عن منزلها.

واعتادت عهد أن تكون في طليعة صفوف المظاهرات ضد الجيش الإسرائيلي منذ طفولتها، ففي 2012، وقفت طفلة فلسطين تصرخ في وجه أحد جنود الاحتلال الإسرائيلي، وتصفعه حتى تُحرر شقيقها الأصغر، وكانت حينها ابنة الاثني عشر عامًا.

أحلام الفتاة الشقراء طالبة الثانوية العامة صغيرة كعمرها الوردي، حيث تظهر على صفحتها في موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» صور توثيق مقاومتها للاحتلال، وكأن صفحتها تلخص حكاية فلسطين، تحلم بأن تزور شاطئ البحر الذي يبتعد عنها مسافة نصف ساعة بالسيارة، كما تحلم بالسفر للخارج، بدون التعرض لمضايقات على الحواجز الإسرائيلية، وحلمها الأكبر بواقع أفضل بلا محتل أو سجان.

شاركت التميمي في العديد من المؤتمرات والمهرجانات داخل وخارج فلسطين، أبرزها في العاصمة الفرنسية باريس، وفي جنوب إفريقيا وتركيا وغيرها، وصرحت في مقابلة تلفزيونية لها، بأنها لن تحظى ككل أطفال فلسطين بأي حياة طبيعية إلا بعد زوال الاحتلال،متسائلةً في استنكار:

إذا بنضل نشوف الأخبار في التلفزيون، مين بيحرر الأرض، صلاح الدين؟

مقاومة بنكهة الطفولة

اعتقد قادة إسرائيليون أن «الكبار يموتون والصغار ينسون»، لكن الوقائع طيلة عمر الاحتلال كذّبت هذا القول، حيث تدفق رموز واجهت ببسالة قسوة المحتل مع كل حقبة نضالية، وشكلت شجاعة الأطفال الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ملاحم فريدة شدت انتباه الرأي العام عبر العالم، خصوصًا مع انطلاق انتفاضة أطفال الحجارة نهاية الثمانينيات، وصولاً إلى الأحداث الأخيرة بعد اعتراف واشنطن بالقدس عاصمةً لإسرائيل.

وعلى مدى عقود عديدة تأثر أطفال فلسطين بثقافة المقاومة، وظهر ذلك في تقليدهم لأدوار المجاهدين، والمعاناة التي يلقاها أبناء الشعب الفلسطيني بفعل الانتهاكات الإسرائيلية، وكذلك الأسرى خلف القضبان، في ألعابهم وحفلات تخرجهم من المدارس، وفقًا لتقرير نشره موقع الإعلام الحربي لسرايا القدس.

ومن جهة أخرى، يعتبر الهجوم الحاد من الإعلام الإسرائيلي على عهد التميمي، أكبر دليل على خشية الاستيطان من أطفال فلسطين، حيث عقّب وزير الحرب الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، على تصدي عهد لجنوده: «حتى أهل وأقارب الفتاة عهد التميمي لن يفلتوا من العقاب لطردهم جنودًا إسرائيليين من قرى رام الله»، وأضاف: «من يعتدي بالنهار يعتقل بالليل».

فيما كتب المتحدث الرسمي للجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، على حسابه على موقع التواصل «تويتر»: «تخيلوا ماذا كان ليحدث لهذه المستفزة لو تصرفت بهذا الشكل مع ضباط أو جنود عندكم؟».

وبعد اعتقال «عهد»، شنّ رواد مواقع التواصل الاجتماعي حملات للإفراج عنها، كما افتتح ناشطون حملة دولية عبر الموقع الرسمي لمنظمة «آفاز» العالمية، وحملت اسم (الحرية لعهد التميمي).

صور وقصة عهد التميمي، كانت أيضًا محط اهتمام الصحافة الغربية، حيث تصدّرت صورتها صحيفة «واشنطن بوست» التي تحدثت عن شجاعتها في مواجهة الاحتلال.

وإقليميًا،طالب شقيق العاهل الأردني، الأمير الأردني علي بن الحسين، إسرائيل بالإفراج عن عهد التميمي التي مددت محكمة إسرائيلية فترة اعتقالها حتى الثلاثاء المقبل.

منذ ذلك الحين، صارت ثائرة الطفولة عهد التميمي أيقونة جديدة، خلفًا لعدد من سابقيها، أبرزهم الطفل «محمد الدرة» الذي أعدمه رصاص الاحتلال في 2000، وإيمان حجو، وهدى غالية، وإسلام قريقع.

القائمة تطول، ونجوم البراءة ما تزال تضيء ليالي فلسطين الكالحة.


«عهد» اليوم «أحلام» الأمس.. والحلم باق

ما أشبه قصة «عهد» بالأسيرة المحررة فلسطينية الأصل «أحلام التميمي»، حيث تفتحت أعينهما في بواكير العمر على ظلم الاحتلال، ففي مشهد درامي نطق القاضي الإسرائيلي بالحُكمِ المؤبّد على الشاب الفلسطيني نزار التميمي، فلم تتحمّل والدته الصدمة، وخرجت روحها للسماء في قاعة المحكمة، وكانت عينا «أحلام» لم تبلغ الثالثة عشرة من العمر، ترقب المشهد عن كثب، لتكبر صوتًا يصرخ في وجه الظلّم.

تعود أصول أحلام التميمي إلى ذات البلدة التي شهدت مولد «عهد»، حيث هجرت عائلة أول مجندة في كتائب القسام، عقب النكسة الفلسطينية عام 1967، من قرية النبي صالح، إلى مدينة الزرقاء بالأردن لتعيش تبعات التفرقة والتمييز في الشتات.

شد نشاط أحلام، 37 عامًا، انتباه قيادات كتائب القسّام، فكانوا يرون فيها «قيادة نسوية»، لا سيّما أنّها تمتهن الصحافة، مما سهّل دخولها للقدس دون أيّ شكوكٍ أمنية، إضافة لامتلاكها الجنسية الأردنية؛ فتم تكليفها بعمل جولاتٍ استكشافية في أنحاء القدس وتنفيذ عملياتٍ استشهادية.

وعلى غرار حكاية «عهد»، ذاقت أحلام مرارة الأسر، ولاقت صنوف العذاب، وألقي عليها حُكم بالسجن المؤبّد 16 مرّة، أي (1584 عامًا)، واستقبلت الأمر بابتسامة ويقين بفرج جاء بعد ثماني سنوات،عقب إتمام صفقة «وفاء الأحرار» 2011.

و عن تجربتها في السجن، تروي أحلام مشاهد تتزاحم في دهاليز الذاكرة: «الاعتقال موت بطيء، وقهر متواصل، فالسجون ليست إلا منظومة صُنعت لإذلال الفلسطيني وقهره وتحويله إلى مريض نفسي، لكننا كنا قويات، نحمي بعضنا البعض ولم يقهرنا شيء».

تبنت أحلام التميمي نهجًا يرى في المقاومة المسلحة الحل لمعضلة القضية الفلسطينية: «في كلّ خطوةٍ كنت أسير بها اتجاه تنفيذ العمليات، كنت أشعر بالقرب من الله أكثر»، فيما ترى عهد رغم صغر سنها، أن المسيرات السلمية المستمرة هي الخلاص للتحرير من المحتل حتى وإن فدت الوطن بروحها، فتقول: «يمكن أن أكون إحدى الشهيدات، فطريق تحرير فلسطين بحاجة إلى الدم».

وتبقى «أحلام» و«عهد» وغيرهما من النسوة البارزات في حركة المقاومة الفلسطينية على تعدد مشاربها، أيقونات لانتفاضات فلسطينية متجددة، حيث تؤكد أحلام رسالة الأمل للفلسطينيات القابعات خلف السجون «رسالتي إلى النساء العربيات المظلومات في السجون، لا تدعي الجلاد يكسرك، لا تجعلي عدوك يحولك إلى مريضة باكية محطمة، كوني على قناعة بأن هناك أملًا باقيًأ».

أما عهد التميمي فتحث على مواصلة السير في مقاومة المحتل مهما تكلف الأمر، صارخة في جيل ما زالت الحجارة كامنة بين أصابعه:

اخترنا طريق المقاومة ورحّ نضل مكملين.

نموذج مغاير للمقاومة

شكلت شجاعة الأطفال الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ملاحم فريدة شدت انتباه الرأي العام عبر العالم في كل الحقب النضالية.

المقاومة حق لكل فلسطيني مهما كان دينه أو انتماؤه السياسي. ربما منذ فترة خفت نجم المقاومين من خارج التيار الإسلامي وحملت لواء المقاومة حركة حماس في غزة. واشتد الزخم بين حركتى حماس وفتح حينما شاركت الأولى في المعترك السياسي.

لكن مع حادثة عهد ربما اختلف الأمر كثيرًا، وقد أنبأت الفتاة ذات الستة عشر ربيعًا عن عودة المقاومة غير المنتمية لتيار أو أيديولوجيا، كما أنها من خارج رحم الإسلاميين. فذكرتنا عهد بأن الكل يتشارك في تقاطعية واحدة، وهي الدفاع عن الوطن ضد المحتل الغاشم.

فذكرتنا بوفاء إدريس أول فدائية تنفذ عملية استشهادية خلال انتفاضة الأقصى، حين فجّرت نفسها بين جنود الاحتلال في شوارع يافا، فقتلت جنديين وأصابت 90 آخرين. وكذلك دلال المغربي، التي سطرت تاريخًا جديدًا للمقاومة ضد الاحتلال بعمليتها في قلب تل أبيب، فتلك الفتاة التي تنتمي لأم لبنانية وأب فلسطيني والتي انضمت للحركة الفدائية في وقت مبكر من عمرها، نجحت على مدى 16 ساعة أن تُعلن تل أبيب دولة فلسطينية.

أما من يرسم بالعظم البشري كما أسمته مجلة «التايم»ناجي العلي، فواجه الاحتلال وشرّد به في محافل الصحف والمواقع الإلكترونية، حيث نشر 40 ألف لوحة كاريكاتورية خلال مسيرته، ولم تقتصر مقاومته على المحتل الإسرائيلي، بل امتدت للظلم الذي يطول الشعوب من الحكام عامةً.

هذه بعض النماذج على سبيل المثال لا الحصر، وقد ذكرتنا عهد التميمي بهذه الأمثلة حينما أحيت نموذج المقاومة المتخلي عن الانتماء، وأعادت تذكيرنا بأن المقاومة هي ساحة ومشروع لكل من يؤمن بها، غير معترفة بعرقية أو ديانة أو فصيل سياسي. ستظل المقاومة ساحة تقاطعية يجتمع فيها كل من قرر أن يذود عن الوطن ضد المحتل.