كانت جنازة مهيبة، شارك فيها حوالي ألفا فلسطيني، ساروا عبر مخيم الأمعري في الضفة الغربية، وراء نعش فارغ من الخشب، ملتف بالعلم الفلسطيني، ومُلصق عليه صورة الشهيدة.

إنها الفدائية الفلسطينية «وفاء إدريس»، التي استشهدت قبل أربعة عشر عامًا، بعدما قامت بعملية استشهادية في قلب القدس، لتُلهِم قلوب وعزيمة الفلسطينيين، ولتُشعل (أكثر) جمر الانتفاضة ضد المحتل، ولتبقى بسالتها محفورة في نفوس أقرانها من المناضلات اللاتي حذون حذوها فيما بعد. ولتؤرخ لفترة جديدة ضمن تاريخ طويل للمرأة الفلسطينية المُقاومِة.

أول استشهادية في انتفاضة الأقصى

كانت «وفاء علي خليل إدريس» الابنة الوحيدة لوالديها، إلى جانب ثلاثة أشقاء هم: خليل، وخالد، وسلطان، وقد شُرِّد أهلها من مدينة الرملة عام 1948م، واستقر بهم المطاف في مخيم الأمعري بالقرب من رام الله، وقد عاشت وفاء في ظروف اجتماعية صعبة؛ فقد أمضى شقيقها خليل ثمان سنوات في سجون الاحتلال، فاضطر الشقيق الآخر خالد أن يترك الدراسة من الصف الثامن لإعالة أسرته لأن والده متوفى، واضطر سلطان الشقيق الأصغر أيضًا إلى الانضمام لخالد في رعاية الأسرة، وكان هدفهم الأساسي إعادة بناء البيت حتى يحمي الأسرة من مطر الشتاء وحر الصيف.

وعندما خرج خليل من السجن أكمل المشوار، إلا أن الاحتلال لم يترك الأسرة في حالها، حيث اعتقل خليل إداريًّا على الرغم من عدم ارتباطه بأي نشاط يتعلق بمقاومة الاحتلال، وخلال انتفاضة الأقصى وضعت إسرائيل اسمه على قائمة الخَطِرين المطلوبين لها.

عُرف عن وفاء أنها شخصية مرحة، محبوبة من الجميع، كانت دائمًا تسعى لمساعدة من حولها. عملت متطوعة في الهلال الأحمر الفلسطيني، وأسهمت بشكلٍ فعّالٍ في نقل الجرحى والشهداء من أماكن المواجهة مع الاحتلال، وقد تميزت بالحس الوطني والحماس خلال الانتفاضة الأولى، وتميزت بالنشاط الدؤوب في المخيم، ولم تكن تتأخر عن المشاركة في المواجهات والمسيرات ضد قوات الاحتلال، وكانت عضوة في لجنة المرأة للعمل الاجتماعي.

قررت وفاء أن تقوم بعملية استشهادية في قلب مدينة القدس، وحددت تاريخ 27 يناير/كانون الثاني 2002م. ورغم أنها ذهبت لعملها صباح ذلك اليوم، إلا أنها أخذت إذن مغادرة في موعد سابق على حدوث العملية، ثم قامت بتفجير حزامها الناسف بين مجموعة من الإسرائيليين في شارع يافا، ما أسفر عن مقتل إسرائيليين، وإصابة 90 آخرين، لتصبح أول استشهادية في انتفاضة الأقصى.

وفى 30 يناير/كانون الثاني 2002م، أعلنت كتائب شهداء الأقصى، الجناح العسكري لحركة فتح، مسئوليتها عن العملية الاستشهادية، وذلك في بيانٍ كان نصه:

إنه في عملية نوعية لا سابق لها في قلب الكيان الصهيوني، استطاعت إحدى مقاتلات هذا الشعب الثائر تنفيذ العملية الأخيرة في شارع يافا في قلب القدس الغربية. إنها الشهيدة البطلة، ابنة الكتائب الأبيّة، وفاء علي إدريس، البالغة من العمر 26 عامًا، ومن سكان قلعة الصمود مخيم الأمعري قضاء رام الله المشمولة بالحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة الغربية.
الفدائية الفلسطينية «وفاء إدريس» على غلاف مجلة «تايم».
الفدائية الفلسطينية «وفاء إدريس» على غلاف مجلة «تايم».

وبالطبع لم تكن وفاء أول امرأة فلسطينية تقاوم الاحتلال الإسرائيلي، وإنما حفل التاريخ الفلسطيني بمناضلات، مجاهدات بذلن كل ما بوسعهن لتحرير وطنهن المحتل.

مهد المقاومة النسائية الفلسطينية

بدأ كفاح المرأة الفلسطينية منذ عام 1893م، مع بداية موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين.

في نهاية القرن التاسع عشر، بدأت موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وكانت أهم تلك الموجات، موجة عام 1882م، التي قدِم فيها آلاف من اليهود الروس، بهدف الإقامة والاستيطان، فهبت النساء في العام 1893م، وقامت بأول عمل نسائي منظم ضد الهجرة اليهودية إلى فلسطين على شكل مظاهرة احتجاجية على إنشاء مستوطنة يهودية في منطقة العفولة، ثم بدأت الحركة النسائية أولى خطواتها المنظمة بتأسيس أول جمعية نسائية عام 1903م، ومع بداية الاحتلال البريطاني لفلسطين، وما رافق ذلك من تعهد بإقامة وطن قومي لليهود، برزت الحركة الوطنية لرفض وعد بلفور، وقامت المرأة الفلسطينية بالمشاركة في المظاهرات التي نظمتها الحركة الوطنية، في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1920م.

وفي عام 1921م، عندما زار تشرشل القدس، بدأت المظاهرات المعادية لحكومته بسبب وعد بلفور، فخرجت النساء الفلسطينيات وهتفن بسقوط بلفور وتصريحه. وقد شكَّلت المرحلة من 1929 إلى 1939م، نقطة تحول هامة في مسيرة الحركة النسائية الفلسطينية، كونها تعتبر البداية الحقيقية لانطلاقة الحركة النسائية، إذ استطاعت أن تواكب التطورات السياسية التي لحقت بالقضية، فعُقد المؤتمر النسائي الفلسطيني الأول في عام 1929م، على إثر الهبَّة الشعبية التي عُرفت بهبِّة البراق.

لجنة السيدات العربيات

بعد المؤتمر النسائي الأول، نشأت عدة مؤسسات نسائية أشهرها «لجنة السيدات العربيات»، التي تأسست في القدس عام 1929م، ومن أشهر مؤسِّساتها: «زليخة شهابي»، «مليا سكاكيني»، «زهية النشاشيبي»، وقامت من أجل دعم المطالب الوطنية. وقد برزت هذه اللجنة فيما بعد في المناسبات الوطنية، حيث دعت إلى المشاركة في المظاهرات السلمية ضد الانتداب، وقد برزت أهمية لجان السيدات العربيات إثر المظاهرات التي نُظمت بالمدن الفلسطينية الكبرى عام 1933م، بناءً على قرارات اللجنة التنفيذية التي أقرت تنظيم تلك المظاهرات، وقد شاركت فيها المرأة الفلسطينية خاصة مظاهرة 13 و27 أكتوبر/تشرين الأول 1933م، في القدس ويافا، وقد وصف الإنجليز النساء المشاركات بها بأنهن «كنّ أشد جرأة من رجالهن».

المقاومة النسائية في ثورة 1936

قامت المرأة الفلسطينية خلال الثورة الفلسطينية بين عامي 1936 و1939م، بنشاطات عدة، تمثلت في: الاهتمام بقضية المساجين لتخفيف الأحكام أو للعفو عنهم، وتقديم مساعدات إلى عائلات المساجين، وجمع التبرعات والملابس والأغذية، وزيارة عائلات الشهداء.

حيث اشتركت نساء المدن ونساء الريف، بشكل يُكمل كل منهما الآخر، فإذا كانت نساء المدن اقتصرت أنشطتهن على الأعمال الخيرية، والمؤتمرات الشعبية والعربية، وتأسيس الجمعيات والقيام بالمظاهرات، فإن نساء الريف، تنوعت مظاهر مشاركتهن أيضًا من خلال تقديم المساعدات للثوار في الجبال كالمؤن، والماء، والملابس، إضافة إلى التبرع ببعض مصاغهن وأموالهن لدعم الثورة. وتعتبر «فاطمة خليل غزال» هي أول شهيدة فلسطينية استشهدت في معركة وادي عزون التي دارت بين الثوار والحكومة البريطانية، وكانت فاطمة غزال مشاركة في المعركة بتقديم الطعام والماء للثوار، فقنصها جنود الاحتلال البريطاني في 26 يونيو/حزيران 1936م.

زهرة الأقحوان

بدأت «زهرة الأقحوان» كجمعية نسائية طابعها اجتماعي، وتأسست في يافا فيما بين عامي 1947 و 1948م، على يد الأختان «مهيبة خورشيد» و«ناريمان خورشيد»، وقد انضمت إليهما فيما بعد المناضلات الغزاويات «يسرا البربري»، و«عادلة فطايري»، و«يسرا طوقان»، وأيضًا انبثقت منها «منظمة الأرض» التى كان من قادتها «نجلاء الأسمر«، و«جولييت زكا».

وقد تحولت «زهرة الأقحوان» فيما بعد إلى الكفاح المسلح. فتقول خورشيد إن ذلك التحول جرى عندما شاهدت أمام عينيها مقتل أحد الأطفال الفلسطينيين، برصاصة بين يدي أمه، أطلقها عليه الصهاينة من مستعمرة «بان يام» المجاورة. وكان نشاط التنظيم متمركزًا فى يافا، خاصة وقت الاشتباكات بين أهل يافا ومستوطني تل أبيب، من خلال تسليح المقاومة أو جمع التبرعات لهم.

وظهرت خلال هذه الفترة أيضًا جمعية «التضامن النسائي» وكانت تهتم بالتمريض والإسعاف للثوار، وقد شهدت هذه الفترة استشهاد العديد من النساء لعل أشهرهن المناضلة «حياة البلبيسي».

نكسة 67 ومنحى جديد للنضال

خرج نضال المرأة الفلسطينية بعد النكسة عن إطار المؤسسات والجمعيات، إلى مجال العمل المسلح.

كانت النكسة وخسارة الضفة والقدس ووقوعها تحت الاحتلال الإسرائيلي، بمثابة التغيير الأكبر في عملية النضال النسائي الفلسطيني، فالمرأة الفلسطينية خرجت من إطار المؤسسات والجمعيات، إلى إطار الأحزاب والحركة الوطنية، التي وصلت ذروة نشاطها في تلك الفترة. وانخرطت النساء الفلسطينيات في العمل المسلح، وانضممن إلى الحركات الفدائية في فلسطين والشتات، ونفّذن العديد من العمليات النوعية ضد مواقع الاحتلال الإسرائيلي.

كان من أشهر المناضلات في تلك الفترة المناضلة «عايدة سعد»، والتي قامت بإلقاء قنبلة ضد الآليات الإسرائيلية الموجودة أمام مركز الشجاعية 1967م، و«فاطمة برناوي»، التي تم اعتقالها بعد تفجيرها لقنبلة في سينما «صهيون»، و «ليلى خالد» التي قامت بخطف طائرة شركة العال الإسرائيلية من أجل إطلاق سراح المعتقلين في فلسطين، و«شادية أبو غزالة» التي استشهدت أثناء إعدادها لقنبلة في تل أبيب في عام 1968م، والشهيدة «دلال المغربي» قائدة المجموعة الفدائية، والتي قامت بتفجير حافلة إسرائيلية عسكرية، والمناضلة «فتحية عوض الحوراني» التي داست الدبابات الإسرائيلية جسدها عام 1974، و«تغريد البطمة» التي استشهدت في عام 1980م، وغيرهن الكثير اللواتي دأبن على النضال من أجل تحرير كامل الأراضي الفلسطينية.

انتفاضة الحجارة

شاركت المرأة الفلسطينية بقوة في المواجهات التي اندلعت خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فقد ساعدت على تحرير العديد من شباب وأبطال الانتفاضة، وإنقاذ أعداد كبيرة من الثوار، وتهريبهم وتوفير أماكن لهم داخل البيوت أو الحقول، بالإضافة إلى خروجها للشارع من أجل المشاركة في الاعتصامات والمظاهرات ومقاومتها لقوات الاحتلال، وتضحياتها بأبنائها من أجل تحرير الأرض، بجانب دورها في توعية المرأة الفلسطينية بأهمية دورها في المشاركة في الانتفاضة.

وبسبب مشاركة المرأة الفعالة، صرحت الإدارة الإسرائيلية بقولها:

فنجد أنه خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، حدثت أكبر عملية اعتقالات بحق النساء الفلسطينيات، وصلت إلى 3000 أسيرة فلسطينية.

انتفاضة الأقصى

كان استشهاد وفاء إدريس أولى حلقات نضال المرأة الفلسطينية في انتفاضة الأقصى، حيث لحقت بها 12 امرأة فلسطينية، قامت بتنفيذ عمليات استشهادية ضد أهداف إسرائيلية، أسفرت عن مقتل عدد من الجنود والمستوطنين الإسرائيليين، ومنهن: «دارين أبو عيشة»، «آيات الأخرس»، «عندليب طقاطقة»، «هبة دراغمة»، «هنادي جرادات»، «نورا شلهوب»، «إلهام الدسوقي»، «ريم الرياشي»، «سناء قديح»، «زينب أبو سالم»، و«فاطمة النجار» (57 عامًا) وهي أكبر سيدة فلسطينية تقوم بتنفيذ عملية استشهادية.

وقد اعتقل الجيش الإسرائيلي عشرات النساء خلال هذه الانتفاضة بتهمة المشاركة في المقاومة المسلحة، أو محاولة طعن جنود إسرائيليين. ومن أبرز من تم اعتقالهن، «أحلام التميمي»، التي اعتقلت عام 2001م، وحكم عليها بالسجن المؤبد 16 عامًا، بتهمة المشاركة في تنفيذ عمليات في القدس. و«آمنة منى»، التي اتُهمت باختطاف وقتل إسرائيليّ يدعى أوفير، وحكم عليها بالسجن مدى الحياة. وقد تم الإفراج عنهما في إطار صفقة تبادل الجندي الإسرائيلي، «جلعاد شاليط»، عام 2011م.

خنساوات فلسطين

إن الحرب هي الحرب، وإن للنساء الفلسطينيات دورًا فعالاً في الانتفاضة، لذلك لا بد من اعتقالهن وتعذيبهن إذا لزم الأمر لنزع الاعتراف منهن.

اشتهرت المرأة في فلسطين بتقديم الدعم الكامل لزوجها وأبنائها في مواجهة العدوان الإسرائيلي، ومن بين أسماء اللواتي يعتبرن من رموز المقاومة الفلسطينية: «مريم محمد يوسف محيسن»، والمُكَّناة بـ «أم نضال»، والتي عُرفت في الأراضي الفلسطينية والمنطقة العربية بـ «خنساء فلسطين»، بعدما قدمت أبناءها الثلاثة كاستشهاديين في عمليات عسكرية ضد المحتل. حيث قام نجلها الأول «محمد» بتنفيذ عملية استشهادية، في مارس/آذار 2002م، أسفرت عن مقتل 9 جنود إسرائيليين. واستُشهد نجلها الثاني «نضال» في عام 2003م، بعدما كان قائدًا ميدانيًّا في كتائب الشهيد عز الدين القسام، والذي يُنسب إليه اختراع «صاروخ القسام». أمّا نجلها الثالث «رواد»، فقد استُشهد جراء قصف إسرائيلي لسيارته عام 2005م. كما قضى نجلها الرابع 11 عامًا أسيرًا في سجون الاحتلال.

كما لُقبت أيضاً الشاعرة «رحاب كنعان»، بـ «خنساء فلسطين»، لما جرى أمامها في تل الزعتر في عام 1976م، وفي صبرا وشاتيلا عام 1982م، فالمنطقتان اللبنانيتان شهدتا استشهاد 54 فردًا من عائلتها، ففي مجزرة تل الزعتر فقدت والديها وخمسة أشقاء و3 شقيقات، وبعدها جاءت فاجعة استشهاد ابنها، أما ابنتها فاعتُبرت في عداد المفقودين.

وبعد، فما زالت المرأة الفلسطينية تُعدّ بحق عنوانًا للمقاومة والنضال على كافة الأصعدة، فها هي تشارك بقوة في أحداث «انتفاضة السكاكين»، حيث سجلت حضورًا لافتًا في المواجهات على نقاط التماس، جنبًا إلى جنب مع الشباب المنتفض ضد ممارسات الاحتلال. ونفذت فتيات فلسطينيات عمليات طعن ضد جنود ومستوطنين إسرائيليين، أسفرت عن استشهاد وإصابة عددٍ منهن، واعتقال أُخريات.

المراجع
  1. “بالصور الحصرية – الذكرى الـ 11 لاستشهاد وفاء إدريس”، موقع أقصى برس، 27 يناير 2013.
  2. شذى الشيخ، “الجزء الأول (1900 – 1987): المرأة الفلسطينية عنوان النضال الوطني ضد المحتل”، موقع أخبارك، 17 أكتوبر 2015.
  3. “المرأة الفلسطينية: مربية ومناضلة وأسيرة وشهيدة”، موقع قدس برس، 26 أكتوبر 2015.
  4. أحمد صقر، “المرأة الفلسطينية: شريكة الرجل في مقاومة الاحتلال”، موقع عربي 21، 8 مارس 2015.
  5. عمــر شلايــل، “المــرأة الفلسطينية ونضالها في صفوف الحركة الوطنية”، موقع وكالة أخبار المرأة، 23 أغسطس 2014.
  6. صلاح أحمد فاخوري، “المرأة الفلسطينية: من الخباء إلى الثورة”، موقع صحيفة السفير، ديسمبر 2012.
  7. “دور المرأة الفلسطينية في الانتفاضة: تاريخ مجيد”، موقع وكالة القدس للأنباء، 26 أكتوبر 2015.
  8. يامن سلمان، “رحاب كنعان: ذاكرة المجازر بحق الفلسطينيين”، موقع العربي الجديد، 5 مارس 2015.