منذ قيام إسرائيل عام 1948، وسياسة الاغتيالات هي الوجه الآخر لها، تختار لعملياتها أسماء أقل حدة عن كلمة اغتيال، فأحيانًا تقول إنها عمليات قتل مستهدف، وأحيانًا أخرى تصفها بعمليات الإحباط الموضعي، ودائمًا ما تكون تلك العمليات، في التبرير الإسرائيلي، فعلًا اضطراريًا لمنع هجمات وشيكة.

وأتت عمليات الاغتيال الأخيرة لقادة في الجهاد الإسلامي لتسلط الضوء من جديد على تلك السياسة، السياسة التي وصفها، مائير دوغان، رئيس الموساد السابق أنها جزء لا يتجزأ من استراتيجية الدفاع لمواجهة تهديدات الأمن القومي، أو تغيير التاريخ في بعض الأحيان، كلام دوغان يعني أن عمليات الاغتيال هي عمليات دقيقة، تقوم بها إسرائيل ضد أهداف مختارة بعناية.

من تلك الأهداف النوعية والخطيرة، نلحظ رابطًا مشتركًا بين عدد منهم، أنهم أهداف عملت على تطوير، وكان بإمكانها التطوير أكثر، قدرات المقاومة العسكرية، ما يزيد من خطورة المقاومة، ودقة عملياتها النوعية، ويزيد من اتساع الدائرة الإسرائيلية المستهدفة، ومن بين القدرات العسكرية التي تحرص إسرائيل على اغتيال المشتغلين بها، هي الوحدات الصاروخية.

إذًا يمكن القول إن إسرائيل تركز في اغتيالاتها على صفتين بجانب الصفة الأساسية، وهي وجودك في صفوف المقاومة بالأساس، الصفة الأولى أن تكون مهندسًا، وبالتبعية ستكون حاملًا للصفة الثانية وتكون نشطًا في مجال تطوير صواريخ المقاومة.

الهندسة كعدو

تريد إسرائيل من تصفية مهندسي المقاومة أن تضمن لنفسها تفوقًا لحظيًا ومستقبليًا إذا دخلت أي حرب طويلة مع المقاومة.

يتضح ذلك في اغتيال محمد الزواري، المهندس التونسي الخبير في صناعة الطائرات من دون طيار، كان اغتياله عام 2016، في صفاقس التونسية، وكانت المخابرات الإسرائيلية هي المتهم الأبرز في هذه العملية، لأن قيام الزواري بتزويد المقاومة بتلك الطائرات بات يمثل تهديدًا حقيقيًا للعمق الإسرائيلي، وكان بإمكانه نقل المعركة إلى مستويات أخطر وأكثر دقة.

كذلك اغتالت إسرائيل فادي البطش في ماليزيا، البطش حاصل على شهادة الدكتوراه في الهندسة الإلكترونية، وله دور بارز في تطور البرنامج الصاروخي للمقاومة، وله براءات اختراع عدة في استخدام معادن مختلفة لتوليد الكهرباء، من أجل توفير كهرباء رخيصة ودائمة لسكان قطاع غزة، كما كان له دور في مجال الطائرات من دون طيار، حتى وصفه الإعلام الإسرائيلي بعد اغتياله أنه كان مهندس حماس المتميز في الطائرات من دون طيار والصواريخ.

وقبل الاثنين كان اغتيال المهندس الأول للمقاومة يحيى عياش، وقد اكتسب خبرة هائلة بدراسته للهندسة الكهربائية فقام بتصنيع المتفجرات من أبسط الأدوات المتاحة، بجانب أنه كان أول من أدخل العمليات الاستشهادية لساحة المقاومة، ثم تفوق عياش على نفسه بأن عرف كيف يقوم بالتفجير عن بُعد، بات بقاؤه حيًا مسألة حياة أو موت لإسرائيل فاغتالته.

الهندسة التي تربط الشهداء الثلاثة السابقين، وهي أيضًا التي تربطهم باللاحقين الذين اغتالتهم إسرائيل في مايو/ أيار 2023، مثل علي حسن غالي، مسؤول الوحدة الصاروخية في الجهاد الإسلامي، والمشهور بقدراته التقنيّة العالية، وبخبرته في تصنيع الراجمات الصاروخية الأرضية والمحمولة، كذلك اغتالت أحمد أبو دقة، نائب قائد الوحدة الصاروخية.

وفي نفس الشهر، مايو/ أيار، لكن منذ عامين اغتالت إسرائيل جمال الزبدة. مهندس ميكانيكا ويحمل شهادة دكتوراه فيها، تحديدًا في تخصص الطيران المدني، وكان مشرفًا على مشروع تطوير الصواريخ وتصنيعها في وحدة التصنيع في كتائب عز الدين القسام.

من قسام 1 إلى عياش 250

وجود الصواريخ ومنع تطويرها على رأس قائمة الأولويات الإسرائيلية لا يعني أن إسرائيل نجحت في ذلك، فصواريخ المقاومة الفلسطينية تشهد تطورًا نوعيًا مستمرًا، فمنذ عشرين عامًا أطلقت المقاومة صاروخها الأول، القسام 1، أول صاروخ محلي الصنع، ولم يكن مداه يتعدى 3 كيلو متر، ثم بعد عشرين عامًا، في عام 2021، أذهلت المقاومة العالم بصاروخها عياش 250، الذي استهدف مطار رامون على بُعد 220 كيلو متر.

تلك الرحلة الصعبة لصواريخ المقاومة كانت ضريبتها باهظة، دماء وأرواح أعضاء ومهندسي وحدات التصنيع، سواء من كتائب القسام أو سرايا القدس، كذلك طورت المقاومة صواريخ مضادة للدبابات والدروع، لكنها تتكتم على ما تملكه، وما تنتهجه، كي يكون ظهورها مفاجئًا، وتصبح المفاجأة في ذاتها سلاحًا يقلب المعارك.

فمثلًا قسام 3 ظهر بشكل مباغت عام 2008، وتراوح مداه 17 كيلو مترًا، وفي عام 2012 ظهر صاروخ إم 75، الذي استهدف تل أبيب ردًا على اغتيال القائد العام أحمد الجعبري، وفي عام 2014 برز في ساحة القتال صاروخ آر 160، وقصفت به القسام مدينة حيفا الواقعة على بعد 160 كيلو مترًا من غزة، كذلك هناك صواريخ إس إتش 85، نسبة للقائد محمد أبو شمالة، وصاروخ إيه 120 نسبة إلى رائد العطار، وصاروخ كيو 12-20، وهو صاروخ مصنّع بالكامل من مخلفات الصواريخ الإسرائيلية.

واستمرت عمليات التطوير المختلفة، وإذا كانت الحاجة أم الاختراع، فإن الحصار هو أبو الإبداع، فقد نجحت المقاومة في التغلب على شح الموارد، واستخدام المتاح للخروج بأفضل النتائج، والمفاجئ أن مخلفات الصواريخ الإسرائيلية التي تنهمر على غزة يوميًا، كانت هي المادة الخام لصواريخ المقاومة، فقد نجح مهندسو المقاومة في إعادة تدويرها، أو نسخها بالهندسة العكسية، كما استخدمت المقاومة الأنابيب المعدنية التي كانت تستخدمها إسرائيل لنقل المياه من المستوطنات قبل الانسحاب من غزة.

كذلك عثرت الضفادع البشرية لكتائب القسام على سفينتين عسكريتين غارقتين في البحر تحتويان على قذائف وذخائر، مثّلت هذه المصادفة كنزًا هائلًا للمقاومة لتطوير مخزونها من الصواريخ، إسرائيل تُقدر عدد الصواريخ التي تملكها القسام وسرايا القدس مجتمعين بـ 14 صاروخًا، بقدرات مختلفة، ولم تعلن المقاومة بأي شكل عن عدد أو نوعية صواريخها، لكنا لا تتوقف عن الإعلان أن لديها دائمًا ما يربك حسابات العدو.

من الدفاع إلى الغزو

صواريخ المقاومة كانت فعلًا رمزيًا في بدايتها، وكانت محل سخرية دولية لضعف دقتها وقصر مداها، لكنها حتى في تلك الحالة كانت مرعبة لإسرائيل، وتعاملت معها بجدية من دون تهاون، لهذا تستمر الغارات الإسرائيلية في استهداف كل ما يُشتبه بأنه منصة إطلاق، أو ورشة تصنيع، كما تغتال كل من يعمل في الوحدات الصاروخية، سواء كان مهندسًا، أو فرد أمن عادي فيها.

هذا الحرص الشديد يطرح سؤالًا بديهيًا عن التكلفة التي تسببها الصواريخ لإسرائيل، فتختار إسرائيل إنفاق عشرات الآلاف من الدولارات في غارات جوية استباقية، فليس الأمر مجرد أنها ترغب في إيقاف التطور المحتمل، أو إحباط المشروع قبل أن يبدأ، فقد بدأ المشروع بالفعل، وبدأت صواريخ المقاومة في جني الثمار المادية والمعنوية منذ اللحظات الأولى لإطلاق أول صاروخ قصير المدى.

أول ثمار صواريخ المقاومة هو كشف ثغرات القبة الحديدية، ما أدى إلى تراجع شعبيتها عالميًا، والثقة فيها محليًا، فقد نجحت العديد من صواريخ المقاومة في الوصول إلى أهدافها في عمق إسرائيل متجاوزة القبة الحديدية، أما الصاروخ الذي لم يصل، واعترضته القبة الحديدية، فلم يفشل، بل حقق نجاحًا من جانب آخر.

البطارية الواحدة للقبة الحديدية تحتوي على 8 قاذفات صواريخ، بداخل كل قاذفة 20 صاروخًا، ويمكن للقبة إطلاق صواريخ متعددة في وقت واحد، يُكلف الصاروخ الواحد 50 ألف دولار، أي أن البطارية الواحدة إذا أطلقت قاذفاتها فإنها تُكلف إسرائيل 8 ملايين دولار.

وفي الأيام الأخيرة، معركة ثأر الأحرار، أطلقت القسام والجهاد 3100 صاروخ في 7 أيام، استطاعت القبة الحديدية أن تعترض 1000 صاروخ فقط منهم، صاروخ المقاومة يُكلف في أقصى التقديرات 800 دولار، وفي الصواريخ قصيرة المدى تصبح التكلفة 300 دولار فقط، أي أن تكلفة التصدي للصاروخ تكاد تصبح أكبر من تكلفة عدم اعتراضه والسماح له بإصابة أهدافه، وهو ما تنتقده الصحف الإسرائيلية بشدة، لأن القبة الحديدية بذلك تستنزف المال، من دون أن ترتفع كفاءتها مع الوقت، بل تقل دقتها مع مرور الزمن.

وبذلك يكون مهندسو المقاومة قد جعلوا المقاومة تتخطى مرحلة الدفاع عن الشعب الفلسطيني إلى مرحلة غزو العدو، وأثبتت أنه لا أمان للإسرائيلين من البر أو البحر أو الجو، مهما كان بعدهم عن غزة وغلافها، وأن الخطر لم يعد محصورًا على مستوطنات غلاف غزة فحسب، بل باتت تل أبيب، قلب إسرائيل النابض، مشكوفة أمام المقاومة وصواريخها.