ليسوا قلة من لاحظوا التناقض الواسع بين الخطاب الوطني الفلسطيني، منذ نشوئه، وبين الممارسة السياسية الفلسطينية. فمنذ نشوء «الفصائلية» إطارًا للاجتماع السياسي الفلسطيني الحديث في نهاية الستينيات [1]، اعتادت الفصائل السياسية الفلسطينية المختلفة داخل منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) وخارجها المُبالغة في خطابها الوطنيّ الشعبويّ الذي عزف على مُركبّات الهوية الفلسطينية (تحرير فلسطين، هزيمة الصهيونية، نفي إسرائيل، تحرير القدس…إلخ)، ولكنه في الوقت نفسه كان يتطلع إلى أهدافٍ سياسيّة متواضعة تبلورت بالعادة حول التعبئة الشعبيّة وتحصيل الاعتراف أو توسيع التمثيل السياسيّ.

وقد سبق للشاعر الفلسطينيّ محمود درويش أن لخّص هذا البون الواسع قائلًا: «ما أوسع الثورة، ما أضيق الرحلة، ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة»؛ فخططُ قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية السياسية تناقضت مع الآفاق الواسعة والأحلام الكبيرة التي نسجها الخطاب الوطني الفلسطيني الذي اعتصر مختلف مركّبات الهُوية الفلسطينية وحكاياتها في إطار صراعه للبقاء في محيطٍ عدائيّ.

غير أن الشعبويّة ليست حالةً استثنائية في التاريخ تُعاب عليه الحركة الوطنية الفلسطينية، بل هي أصل السياسة والتغيير منذ بزوغ عصر القوميّات والجمهوريّات الذي شهد تزايدًا لـ «تسييس العامّة»[2]، وصعودًا لنُخبٍ هامشيّة لم يكن يُتخيّل صعودها لولا تعبئتها لل«الجماهير»، ولولا نفخها في سياسات الهُويّة التي مكنّتها من تحدي النُخب المهيمنة ومنافستها وحتى استبدالها، عبر استغلال «قوّة الحكاية»[3].

اعتادت الفصائل السياسية الفلسطينية المختلفة المُبالغة في خطابها الوطنيّ الشعبويّ الذي عزف على مُركبّات الهوية الفلسطينية، ولكنه في الوقت نفسه كان يتطلع إلى أهدافٍ سياسيّة متواضعة.

كما لا يمكن كذلك تجاهل أنَّ «فكرة الشعب» أصلًا هي اختراع الشعبويّة الأصيل، وأن الخطاب القوميّ في التاريخ، بتشديده على التكلّم باسم الشعب، إنّما كان يصنع الشعب نفسه، وبتمثيله للهُويّة كان يشكّل الهُوية ذاتها. كان ذلك في حالة خطابِ الحركاتِ القوميّةِ في القرنِ التاسع عشر، وكذلك خطاب الدولة القوميّة نفسها وحركات التحرر الوطني في القرن العشرين، والأمر سيّان بالنسبة إلى الحركات الدينية واليمينيّة واليساريّة الراديكاليّة التي تتسلّق اليوم بتسارعٍ النُظم السياسية حول العالم. فقد كان الهدف من الخطاب، في كلّ تلك الحالات وفي غيرها، هو الخطاب نفسه بغضِّ النظر عن محتواه السياسيّ أو الأيديولوجيّ.[4]

لذلك كان مفهومًا في مرحلة المقاومة الفلسطينية في الأردن (١٩٦٧-١٩٧١) ولبنان (١٩٧١-١٩٨٢)، ثمّ مع اندلاع الانتفاضة الأولى في الأراضي المحتلّة (١٩٨٧)، أن تنحو الفصائل الفلسطينية هذا النحو في الإغراق بالشعبويّة، وتعويم لغةٍ وطنيّة عاليةٍ توحّد تشرذم المجتمعات الفلسطينية وتمنع ذوبانها. فقد كانت قيادة (م.ت.ف.)، التي افتقدت التواصل المباشر مع أغلب التجمّعات الفلسطينية، مشغولةً بتعبئة الشعب الفلسطينيّ في مختلف مناطق وجوده، في مواجهة المشاريع السياسية الأخرى التي كانت تهدف إلى تعريف وجوده بطرقٍ أخرى.

وقد كان أحد أركان هذه التعبئة هو المبالغة والتهويل وتضخيم أثر الكفاح المسلّح وعمليات المقاومة العسكرية، وتصويرها على أنّها بديل الفلسطينيين الفعّال بعد نكسة الدول العربية وتراجع الناصريّة وأفول أحلام الوحدة العربية [5]، لذلك كان على الفلسطينيين طرْق «جدران الخزّان» بأنفسهم، قبل أن يختنق «رجال» غسّان كنفاني في الصهريج كما عبّر عن ذلك ذات مرةً أديب الثورة الفلسطينية قبيل النكسة بسنوات.

وكما بيّن عديدون، لم يهدف الكفاح الفلسطيني المُسلّح يومًا إلى هزيمة إسرائيل كما لم يفكّر في هذا الهدف أصلًا [6]، بل كان هدف المقاومة العسكرية الفلسطينية منذ عام ١٩٦٧ هو خطابها، خطابها الذي سعى إلى تعبئة المجتمعات الفلسطينية سياسيًا واحتكار تمثيلها، وقد كانت الشعبويّة الفلسطينيّة في هذه المرحلة ضروريّة كما كانت كذلك ضرورية عند مختلف الحركات القومية وحركات التحرر الوطنيّ في التاريخ.

والحال، أنّه لولا شعبويّة الفصائل الفلسطينية، وتشديدها على مركزية فلسطين ووحدة الشعب الفلسطينيّ وحقّه في تقرير مصيره، لكان بالإمكان تخيّل استيعاب «المسألة الفلسطينية» بطرقٍ أخرى، كالاندماج والتوطين والرضا بالأمر الواقع.[7] ولكن ما حصل بالفعل أن (م.ت.ف.) نجحت في بناء هوية فلسطينية منعت ذوبان الفلسطينيين في مجتمعات وجودهم، ولكنها فشلت في أن تتوّج هذه الهُوية بدولة، وهذا هو باختصار لبّ المسألة الفلسطينية الحديثة.

غير أنَّه في الحالة الفلسطينية لا يمكن فهم مآلات الشعبويّة الفلسطينية وتضخّم الخطاب الوطني الفلسطينيّ كذلك دون وضعها في سياق التنافس والصراع بين الفصائل الفلسطينية على التمثيل الفلسطينيّ. لقد أصبحت الفصائل الفلسطينية، منذ نكسة حزيران/ يونيو ١٩٦٧، عنوان الوجود الفلسطينيّ، وذلك بعد أن حطّمت النكبة، وما تلاها من انتفاضاتٍ وحروب، المجتمع العربيّ في فلسطين بكل مؤسساته الاجتماعية والأهليّة بما فيها حتى العائلة [8].

بهذا المعنى، لم تكن الفصائل أحزابًا سياسيّة، بل تنظيماتٍ اجتماعيةٍ متجذرةٍ، يشكّل كلٌ منها مجتمعًا قائمًا لوحده، كما يمثل كلّ فصيلٍ لعناصره عالمًا اجتماعيًا شبه مستقلّ ينتمي إليه العديدون بحكم المصلحة أحيانًا، ولكن في أحيانٍ أخرى بحكم الثقافة والتنشئة والتاريخ. وقد أنتج الصراع بين الفصائل، ورغبتها في توسيع شعبيتها بين الفلسطينيين، ظاهرة «المزاودة» التي هي شكلٌ من أشكال العنف الرمزيّ الذي يستخدمه الفصيل السياسيّ ضدّ الآخر، ولكنه يساهم في الآن نفسه في تضخيم مركّب الهُوية وتوسيع الفجوة بين الخطاب التعبويّ والممارسة.

ورث أجيالٌ من السياسيين الفلسطينيين ثنائية اللسان: لسان الواقعية على مكاتب المخابرات العربية وطاولات المحاصصة والحوار؛ ولسان الشعبويّة للمزاودة الداخلية والتعبئة السياسية.

لهذا السبب، لم يكن أوسلو بالنسبة إلى الخطاب الوطني الفلسطيني صدمةً فحسب، بل طعنةً في كبرياء وعنفوان الهُويّة الفلسطينيّة التي تمّ جرى تشكيلها تاريخيًا على أساسِ نفيِ إسرائيل، لا التصالح معها. هكذا، ومع أنَّ أوسلو، على الرغم من كلِّ مساوئهِ، قد ضمن مسألة التمثيل الوطنيّ الفلسطينيّ، وانتزعَ من النظام الدوليّ، بما يشمل إسرائيل، اعترافه بتمثيل منظمة التحرير للشعب الفلسطينيّ، إلا أنّ الفصائل الفلسطينية استمرّت، في مرحلة الانتفاضة الثانية (٢٠٠٠-٢٠٠٥)، بتعبئة الفلسطينيين بخطابٍ متعالٍ على الواقع شدد على تحرير فلسطين ومغازلة «الأندلس الفلسطينيّ المفقود» في النكبة، وقد كان استمرار تلك الازدواجيّة مدخلًا لحركة حماس منذ نهاية الثمانينيات لفرض نفسها على معادلة التمثيل السياسيّ، بعد أن أعادت النفخ في المخيال السياسيّ الفلسطينيّ، ولكن هذه المرّة من منطلقاتٍ إسلاميّة.

غير أنّه، ومنذ تلك اللحظة، لم يَعُد دور الشعبويّة الفصائليّة تثبيت الهُوية الوطنية الفلسطينية كما كان الحال قبل أوسلو، بل كان غرضها الأساسيّ بعد أوسلو إعادة النظر في التمثيل السياسيّ للشعب الفلسطينيّ والتمرّد على «العرفاتيّة» السياسية واستفراد الرئيس في صناعة القرار. وقد سبق وأوضحت في مقالةٍ أخرى، أنّه على الرغم من أن الانتفاضة الثانية شكلّت مواجهةً مجتمعية شاملة مع إسرائيل، فإنها حملت كذلك أبعادًا داخلية تمثلت بالتمرّد على الزعامة الفردية لياسر عرفات وفرض حركة حماس، اللاعب السياسيّ الجديد، نفسها على بنية المؤسسة السياسية الفلسطينية.[9]

لقد بقيت الفصائلية الفلسطينية حتى لحظةٍ متأخرة من تاريخها محتفظةً بازدواجية الخطاب والممارسة، فمنذ معركة الكرامة (١٩٦٨) التي بالغت فيها حركة فتح بآثار الانتصار العسكريّ المحدود على الجيش الإسرائيليّ في معركةٍ واحدة وبمساعدة الجيش الأردنيّ، ومرورًا بالتجربة الفلسطينية في الأردن ولبنان التي هوّلت فيها الفصائل من عملياتها عبر الحدود، وحتى حروب المزايدات السياسية في انتفاضتيّ الأراضي المحتلة التي ساهمت في إنتاج الواقع الذي نعيشه اليوم، ظلّت الفجوة واسعة بين شعبويّة الخطاب الوطني الفلسطيني وواقعيّة الممارسة السياسية.

وقد ورث بذلك، أجيالٌ من السياسيين الفلسطينيين، ثنائيةَ اللسان: لسان الواقعية على مكاتب المخابرات العربية وطاولات المحاصصة والحوار، ولسان الشعبويّة للمزاودة الداخلية والتعبئة السياسية، إلى أن قرر رجلٌ واحدٌ يومًا ما أن يكسر هذا «التقليد» الفلسطيني التاريخيّ العريق ويتكلّم بلسانٍ واحدٍ، كان ذلك هو السيّد محمود عباس (أبو مازن).


قياديّ تاريخيّ بلا تاريخ مهم: سيرةُ رجلٍ عاديّ

يُعتبر أبو مازن «قياديًا تاريخيًا» في حركة فتح، إذ يُطلق هذا الوصف بالعادة على قيادات المجموعات الفلسطينية الأولى الذين شكلوا فتح وتبوّؤوا مناصب قيادية فيها. وبالفعل، كان عبّاس قائدًا لمجموعة فلسطينية في قطر في الخمسينيات، ثم أصبح لاحقًا عضوًا في أول لجنةٍ مركزيةٍ لحركة فتح، واحتفظ بعضويتها، ثمّ أصبح رئيسها بعد رحيل عرفات. لكن على الرغم من أن أبو مازن كان بالفعل من عهد المجموعات السريّة الأولى، فإنّه لم يكن ذا تاريخٍ سياسيٍّ مهم، وعلى الرغم كذلك من أنّه اُعتبرَ نظريًا من الصفّ القياديّ الأوّل، فإنّه قَنعَ عمليًا بأدوارٍ ثانوية، ولم تأخذه الحماسة أو الجرأة أو الرغبة في تركِ بصمته الخاصة على السياسة الفلسطينية.

لقد تردد على ألسنةِ العديدين من عارفيه أن أبو مازن كان يفضّل «طنجرة المقلوبة» رفقة «أم عياله» على أيِّ اجتماعٍ سياسيّ تنظيميّ. ويعبّر ذلك في «اللغة الفلسطينية» الماكرة عن ذلك الرجل الذي يمتهن السياسة ولا يعيشها، ويفضّل عبورها لا الاستثمار فيها، وتنتصر عنده «راحة البال» على قلق المُنافسة.

وبالفعل، لم يُعرف عن عبّاس طموحٌ كبيرٌ في حركة فتح ولا في (م.ت.ف.)، وإن استلم مفاصل حسّاسةٍ فيهما، وعُرف عنه تأييده المبكر للاستفادة من أجواء «التطبيع» التي رافقت ذهاب السادات إلى القدس، واعتبره البعض آنذاك ممثلًا لـ«الاتجاه التسوويّ» في حركة فتح، لكن سرعان ما نُسي شأنه بعد أن اجتاحت إسرائيل لبنان، ففي ذلك الوقت العصيب والمصيريّ الذي واجهه الفلسطينيون في بيروت، كان عبّاس منزويًا في دمشق التي ناصبت عرفات العداء.

محمود عباس أبو مازن يصافح آرييل شارون ويتوسطهما جورج بوش الابن في قمة البحر الأحمر في العقبة بالأردن، يونيو 2003.

لم يكن أبو مازن مثل صلاح خلف (أبو إياد) الذي حكمت أجهزته الأمنية يومًا ما بيروت، وطاولت أذرعته المخابراتية مختلف الدول العربية والعالمية، كما لم يكن كذلك مثل أبو يوسف النجّار الذي أسس وقاد جيش فتح المركزيّ (قوّات العاصفة)، ولم يكن بالتأكيد كخليل الوزير (أبو جهاد) الذي اُعتبرَ غداة الانتفاضة الأولى منافسَ عرفات في الأراضي المحتلّة قبل أن تغتاله قوّة خاصّة إسرائيلية في تونس.

لم يُعرف عن أبو مازن أيضًا مخالفته لعرفات أو انتقاده على العلن، فلم يكن «مشاكسًا» كما كان الحال مع بعض زملائه في اللجنة المركزية كفاروق القدومي وهاني الحسن، بل رضي، عن قناعة، بدور المستشار السياسيّ وبتنفيذ مهمّات دبلوماسية خاصة كلفه بها عرفات، كان آخرها التفاوض نيابةً عنه في أوسلو (١٩٩٣) ثم في كامب ديفيد وطابا (٢٠٠٠). وفي الواقع، فإنه لولا الثقة التي أولاها عرفات لعبّاس، ولولا علاقة الولاء الشخصيّ التي ربطته بالـ«الختيار»، لما كان من الممكن تصوّر صموده في الهيئة القيادية العليا للمنظمة، ولما كان من السهل تخيّل عودته مع عرفات إلى الأراضي المحتلة.

وكما لم يُعرف بالطموح قبل أوسلو، لم يُعرف بعدها عن أبو مازن حضورًا سياسيًا مستقلًا، ولا كاريزما تؤهله لبناء تنظيمه الخاص داخل فتح، وبقي ذراعًا استشارية لعرفات، معتزًا بوجوده في الحلقة الأضيق حوله. ومن المحتمل أن يكون عبّاس قد رضي بذلك الدور التقاعديّ، وانصرف بالانشغال بعائلته وبأعماله الخاصّة، التي عُيّر بها حينما وجد نفسه فجأةً خلَفًا لـ«الختيار»، الذي لم يترك لعائلته ميراثًا سوى السياسة. ومن المحتمل كذلك أن أبو مازن قد تخيّل نفسه مغادرًا هذه الحياة وسط عائلته وأحبابه ورفاقه، تاركًا خلفه مذكّراتٍ مطبوعةٍ لرجلٍ عاديّ شهد أحداثًا غير عاديّة. كان من الممكن أن يحصل ذلك لو لم تسرْ الأمور كما سارت في الانتفاضة الثانية ليجد أبو مازن نفسه في صراعٍ مريرٍ وإشكاليّ مع عرفات ثم خليفةً له.

رفض أبو مازن أن يتجاوز أيًّا من الخطوط الحمراء بعد أن شهد بنفسه مصير عرفات الذي تجرأ على دوْسها.

تشكّل سيرة أبو مازن السياسيّة مفتاحًا أساسيًا لفهم سياساته المرتبكة في رئاسة حركة فتح والسلطة الفلسطينية. فقد كان لضعف الخبرة السياسيّة لديه دورٌ في اتخاذه قرارات تدميريّة للحركة التي يرأسها، كسماحه بالذهاب إلى الانتخابات التشريعيّة (٢٠٠٦) في وقتٍ عانت فيه فتح من انقسامات كبيرة، وقد قادت الانتخابات لاحقًا إلى الانقسام الفلسطيني السياسي-الجغرافي الكبير الذي نشهده اليوم.

كما أنّ فشله كذلك في إدارة التوازنات داخل حركة فتح، التي اشتهر بها عرفات، أدى إلى تضعضع العلاقة بينه وبين أقاليم الحركة في أغلب المحافظات الفلسطينية، كما أدى كذلك إلى انهيار تنظيمات فتح بل وتجريفها في قطاع غزة، بعد معارك طاحنةٍ مع مراكز القوى الفتحاوية أخذت طابعًا شخصيًا وفتكت بتقاليد إدارة الأزمات الفتحاويّة.

كما يفسّر افتقاده للجرأة، التي تمتع بها العديد من قيادات فتح التاريخية، تفويته للفرصة تلو الأخرى لإطلاق انتفاضةٍ فلسطينيةٍ جديدةٍ تحرّك مياه السياسة التي ازدادت في عهده ركودًا، كان آخرها هبة السكاكين (٢٠١٥)، وهبة المسجد الأقصى (٢٠١٧)، وأحداث الضفّة الغربيّة الأخيرة (٢٠١٨). بذلك، رفض أبو مازن أن يتجاوز أيًّا من الخطوط الحمراء بعد أن شهد بنفسه مصير عرفات الذي تجرأ على دوْسها.

وكما صارع عبّاس عرفات في آخر سنين حياته، فقد صارع كذلك «شبح عرفات» الذي بقي يحلّق في أروقة ذاكرته، وفي عيونِ حلفائه الذين مهّدوا له الطريق لتسلّم الرئاسة، الذين بطش بهم حينما دارت الأيام وانتقدوه. وفي الحقيقة، كان أبو مازن منذ ترشيحه للانتخابات الرئاسيّة عام ٢٠٠٥، في منتهى الوضوح حينما أعلن قطعهِ مع العرفاتيّة، في وقتٍ أصبحت العرفاتية تعني فيه الزبونية السياسية (clientelism) والشعبويّة الخطابية. وعلى الرغم من أنه لم يقطع تمامًا مع الزبونيّة، فإنه كان مخلصًا في مناهضة الشعبويّة الفصائلية التي استنتج أنها أحد أسباب فشل النضال الوطنيّ الفلسطينيّ.

ومع أن تقديراته لم تخلُ من الصحّة، إلا أنّه لم يدركْ إلا لاحقًا أن الشعبويّة الفصائليّة هي الوجه الآخر للفصائل نفسها، وأن القطع مع الأولى يستدعي تفكيك الثانية، كما لم يدرك أبو مازن أن الشعبوية كانت التقليد السياسيّ الذي سمح لزعيم حركة تحررٍ وطنيٍّ بتعبئة الفلسطينيين سياسيًا والجلوس على طاولة المفاوضات في الوقت نفسه. في هذا السياق، وُلدت واقعيّة محمود عبّاس التي تأرجحت بين شجب إسرائيل وإدانة المقاومة، وبين التنديد بسياسات الاستعمار الإحلالية من جهة وقمع مقاومتها وكبحها من جهةٍ أخرى. لقد قطع أبو مازن مع الشعبوية الفصائلية لكنه فشل في ممارسة الواقعيّة السياسيّة، وذلك باختصار هو ميراثه الذي سيرثه الفلسطينيون من بعده.


العباسية ضد العرفاتية

كان عام ٢٠٠٤ هو العام الذي رحل فيه أبو عمّار، غير أنَّه كان كذلك عام الخصومة المتبادلة بينه وأبو مازن. وتعجّ مذكرات السياسيين الفلسطينيين، الذين كانوا شهودًا على هذا الخلاف التاريخي بين الرجلين، بصفحاتٍ عن محاولات الترضيّة وتطييب الخاطر الذي بذله أولئك لإصلاح الشرخ الشخصي الذي أصاب العلاقة بين «قيادييْن تاريخيين». بل يُخيّل إليك وأنت تقرأ هذه المرحلة التاريخية، أن المستوى القيادي السياسي لحركة فتح قد تحوّل، في هذا العام، إلى مجلسٍ من مجالس الإصلاح، حيث بذل المحيطون بالرجلين جهودًا ماراثونية لإعادة ترميم العلاقة بين الرئيس ورئيس وزرائه المستقيل بأقل الخسائر المعنوية.

لم يكن عرفات يتصوّر في يومٍ من الأيام أن تُمسّ مكانته وموقعه بوصفه زعيمًا للشعب الفلسطيني، كما لم يتصوّر يومًا أن يتجاوزه أحدٌ ما من محيطه في التفرّد في صناعة القرار. كان عرفات مدركًا أنه فشل في قيادة مشروع الانتفاضة كما خطط لها، حيث تحوّلت الانتفاضة في عاميها الأخيرين إلى تمرّدٍ تنظيميٍّ ضده شاركت فيه مختلف الفصائل الفلسطينية، بما فيها تنظيمات فتح المتصارعة. وقد أدرك عرفات كذلك أن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، أرئيل شارون، نجح في إقناع إدارة جورج بوش الابن بأن عزْله، بل واستثنائه على المستوى الشخصيّ، هو شرط رجوع الفلسطينيين إلى السياسة.

وعلى الرغم من أن عرفات أبصر الهزيمة الشاملة والشخصيّة، فإنه كان معوّلًا على ممانعة الفلسطينيين لشطبه، وعلى حصول أمرٍ ما يغيّر من وضعيته السياسية كما حصل أكثر من مرة في تاريخه النضاليّ الطويل. في تلك اللحظة، لم يجد «الختيار» من يوافقه على هذا الرأي حتى من أقرب مقرّبيه.

فلسطينية تبكي بينما تحتضن صورة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات أثناء تشييع جنازته.

في المقابل، كان محمود عبّاس، مدفوعًا بدعمِ أغلبية القيادة السياسية لحركة فتح وحلفائها من فصائل (م.ت.ف.)، بالإضافة إلى لفيفٍ من الشخصيّات السياسيّة المستقلّة ومن منظمات المجتمع المدنيّ، يشقّ طريقه لإعادة ترتيب الموقف السياسيّ الفلسطينيّ المُحاصر سياسيًا من جهة، ولإعادة تنظيم الجبهة السياسيّة الداخليّة التي عانت من التفكك والانهيار. أدرك أبو مازن افتقاده إلى العديد من المعايير الشخصيّة والتنظيميّة والنفوذ الشخصيّ داخل تنظيمات أقاليم حركة فتح، ولكنه في الوقت نفسه، كان الشخصيّة الوحيدة المتبقيّة في المؤسسة السياسية الفلسطينية من «الجيل التاريخيّ»، وشريك عرفات في مختلف محطّات التفاوض مع إسرائيل، وهو ما خوّله أن يكون بديلًا منه.

غير أنّه ينبغي القوْل إنّ نقاط ضعف عبّاس التاريخية كانت، في تلك اللحظة التاريخيّة بالتحديد، هي ذاتها نقاط قوّته، فمع أنَّ أبو مازن اُعتبر، طوال الوقت، جزءًا من المؤسسة السياسية التاريخية، إلا أنه نُظر إليه في دهاليز العمل التنظيميّ على أنّه من هامشها، بسبب عزوفه التاريخيّ عن التنافس على النفوذ داخل أطر العمل السياسيّ الفلسطينيّ، وقناعته بدوره الاستشاريّ في حلقة عرفات الضيّقة. بهذا المعنى، فقد هبط أبو مازن على المؤسسة السياسية الفلسطينية المفككة بالـ «المظلّة»، ولم يجد في ذلك الوقت في مراكز القوى المهزومة داخل فتح، وفي السلطة الفلسطينية، من يكنّ له تاريخًا خاصًّا من العداء.

بل على العكس، نظرت الطبقة السياسية في السلطة الفلسطينية (قيادات الأمن المهزومة، وأعضاء الحكومة العاجزون، والمجلس التشريعيّ الغاضب)، إلى أبو مازن على أنّه المخرج الوحيد للأزمة التي تواجهها، كما أنّها كانت كذلك متحمسةً لأجندته الإصلاحية التي قد تعيد لملمة التفكك المريع الذي وصل إليه العمل السياسي والتنظيميّ الفلسطينيّ.

في سياق انهيارٍ متتابعٍ لمؤسسات السلطة وشيوع الفوضى بانقلاب الانتفاضة الفلسطينية على نفسها، استغاثت نخبة السلطة المذعورة وقيادة فتح السياسيّة بأبي مازن لإدارة الهزيمة.

ففي المرحلة الأخيرة من الانتفاضة الثانية، وبسبب الاجتياح الإسرائيليّ لمدن الضفة الغربية، عمَّ الفلتان الأمنيّ الذي شاركت فيه عناصر فتحاوية وأمنية غاضبة لأسباب مختلفة، وشهدت الأجهزة الأمنية، التي بلغ عددها اثني عشر جهازًا، إضافة إلى عدد كبير من مجموعات كتائب شهداء الأقصى، صراعات فئويّة وصلت إلى حد تبادل البيانات والرصاص في شوارع المدن الفلسطينية.

وقد كان الجميع كذلك متيقظًا للخطورة الكبيرة التي تمثلت بصعود حركة حماس قوّةً أساسيةً ومنافسةً تهدد شرعيّة منظمة التحرير، وتهيمن على قرار السلم والمواجهة، خاصّةً بعد تحوّل الانتفاضة الثانية إلى أسلوب العمليّات الاستشهادية [10]. بذلك، وفي سياق انهيارٍ متتابعٍ لمؤسسات السلطة وشيوع الفوضى بانقلاب الانتفاضة الفلسطينية على نفسها، استغاثت نخبة السلطة المذعورة وقيادة فتح السياسيّة بأبو مازن لإدارة الهزيمة.

غير أنَّ كل هذه المبررات لم تكن كافية لدى عرفات، الذي رفض الدعوات الداخليّة للإصلاح، واعتبرها مجرّد تلاقٍ للمصالح بين مجموعة أبو مازن وبين إسرائيل والولايات المتحدة، الذين خططوا جميعًا لعزله وتهميشه عبر فرض خطة «خارطة الطريق» في نيسان/أبريل 2003. وقد كان لهذا الصراع الذي استقال بسببه عبّاس من رئاسة الوزراء آثارٌ أليمة فيه، خاصّةً بعد تخوينه ووصمه بـ«كرزاي فلسطين»، واستهدافه من قبل مجموعات أمنيّة موالية لعرفات في أيلول/ سبتمبر 2003 التي سيعود لتأديبها لاحقًا. وما كان لهذا الخلاف أنْ يُحلَّ بهدوء، لولا رحيل عرفات الذي وفّر فرصةً لمن خَلَفه لتبنّيه رمزًا وشهيدًا، وطيّ صفحته في الآن نفسه.

بعد انتخابه رئيسًا بالأغلبيّة، حمل أبو مازن على ظهره برنامجًا إصلاحيًا طموحًا هدف إلى تشكيل أرضيّة لتنسيق العمل السياسيّ بين الفصائل الفلسطينية، عبر الدعوة إلى انتخاباتٍ تشريعيّةٍ تضمن احتواء حركة حماس على أنها معارضة برلمانية ملتزمة بحدود النظام السياسيّ الفلسطينيّ الرسمي.[11] وقد هدف برنامجه كذلك إلى إعادة بناء مؤسسات السلطة الفلسطينية (بما فيها الأجهزة الأمنية) وفق قواعد الشفافيّة التي تعتمدها المؤسسات الدوليّة، أي وفق نظمٍ إداريّة ومحاسبيّة ورقابيةٍ أفضل. باختصار، كانت خطة عبّاس السياسية تتمثل بفرض الدولة على الولايات المتحدة أمرًا واقعًا عبر بنائها تحت الاحتلال (أو «على الرغم من الاحتلال» كما جمّلها لاحقًا سلام فياض).

غير أنه ينبغي القول بأن خطة أبو مازن الإصلاحية، التي قدّمها على أنّها قشّةُ الغريق، لم تكن نابعةً من ضرورات إصلاحيّة داخليّة فحسب، بل كانت كذلك التزامًا فلسطينيًا اتجاه الولايات المتحدة، وثمنًا سياسيًا لهزيمة الانتفاضة. فقد استنتجت إدارة جورج بوش الابن، بتحريضٍ إسرائيليّ، أن على الفلسطينيين، إن رغبوا يومًا في مناقشة حق تقرير مصيرهم، أن ينبذوا «العنف والإرهاب». وقد قيّم الأميركيون والإسرائيليون تجربة الانتفاضة الثانية، ووجدوا أنّ عرفات استطاع إشعال الانتفاضة المسلحة عبر الأجهزة الأمنية التي صممها بطريقةٍ فوضويّة وغير رسميّة تابعةً له شخصيًّا. لذلك، كان شرطهم الأساسيّ هو إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وتدريب عناصرها وفق قواعد الانضباط العسكريّ، بإشراف الجنرال الأميركي كيث دايتون، ووضع مخصصات أفرادها المالية تحت رقابة البنوك.

لقد كان ذلك هو مصدر التشويش في أماني أبو مازن الإصلاحية، فمع أن خطته للإصلاح كانت نابعة من ضرورات داخليّة، ورغبة حقيقية، لدى النخبة السياسية الفلسطينية في السلطة الفلسطينية، في إصلاح الخراب الإداري والتنظيميّ والسياسيّ الذي تركته العرفاتيّة [12] (وهو الأمر الذي تطلّب لاحقًا تفكيك العرفاتيّة نفسها كما سنشرح لاحقًا)، إلا أن المشكلة بأن رؤيته كذلك كانت شبه متطابقةٍ، من حيث الجوهر، مع الرؤية الأمريكية-الإسرائيلية لشكل السلطة ومنطقها الإداريّ والوظيفيّ، وهو الذي جعل عمليّة تفكيك العرفاتيّة وما رافقها من خطابٍ إصلاحيّ تبدو غير وطنيّة.

ومما زاد التشويش، أن أبو مازن الذي قطع مع لسان الشعبويّة كما سبق وأسلفنا، افتقد إلى خطابٍ تعبويّ سياسيّ، يقنع عبره الفصائل الفلسطينية وقواعدها الشعبية بوطنية مشروعه الإصلاحيّ ومنطقه التحرريّ، بل اعتمد بدلًا من ذلك على سياسات القوة والبطش عبر مؤسسات السلطة، ضدّ الفصائل الفلسطينيّة، مرسّخًا صورتها لدى العرب والفلسطينيين على أنّها وكيلةً لا عن الشعب، بل عن الاحتلال.

أما الإشكال الثاني أنَّ منطق خطة عبّاس الإصلاحية افترض تضادًّا بين الفصائليّة والدولانيّة، فالدولة لديه كانت فكرةً «فوقيّة»، بمعنى أنّها تتمثل بسلطةٍ تفرض مؤسساتها وبيروقراطيتها ونظامها السياسيّ من الأعلى وفق حدود الواقع المتاح، بينما يتحوّل المجتمع السياسيّ الفلسطينيّ المتمثّل بالفصائل إلى «مجتمعٍ مدنيّ» يعترف بشرعية النظام السياسيّ ويتفاعل معه. وقد كان هذا المنطق الذي يعكس تصوّرًا فائق الحداثة لفكرة الدولة الحديثة (hyper-modernism)، يختلف اختلافًا جوهريًّا عن فكرة النظام السياسيّ الفلسطينيّ في عهد عرفات، الذي كان قد صمم نظامًا هجينًا يستوعب المؤسساتيّة الزبونية التي تتبع إليه مباشرةً وتشكل في الوقت نفسه نواة لدولةٍ مستقبلية، ويجمع كذلك بين الفصائليّة التي عوّل على دورها المهم في تعبئة الشعب الفلسطينيّ.

بهذا المعنى، آمن عرفات بأن الفصائلية يمكن أن تعمل جنبًا إلى جنب مع الدولانية بل وتغطّي فكرة الدولة نفسها، وما كان لعرفات أن يفرّط بالفصائل التي طالما مثّلت «قبائل الفلسطينيين» الجديدة بعد النكبة، ولا يمكن إذًا خوض المعارك السياسية من دونها.

أما عبّاس فقد اصطدم تصوّره للدولانيّة بالفصائلية. ومع أنّه كان مدركًا لأهميّة الفصائل الفلسطينية في مرحلة ما قبل أوسلو، إلا أنّه حمّلها مسؤولية فشل العمل السياسيّ المشترك في الانتفاضة الثانية واعتبر شعبويتها عبئًا على المشروع الوطني الفلسطينيّ بعد أوسلو. لذلك، فكّر عبّاس عشيّة تسلّمه قيادة النظام السياسيّ الفلسطينيّ المُنهار أنّه لا بدّ من احتواء الفصائليّة في مؤسسات الدولة المُستقبليّة، وهو ما عنى تحويلها إلى أحزاب سياسيّة تترجم حضورها في البرلمان أو في مؤسسات «المجتمع المدنيّ» الوليدة.

بهذا المعنى، لم يعكس قرار عبّاس المتعجّل بالذهاب إلى انتخاباتٍ تشريعيّة (٢٠٠٦) رغبته في احتواء حركة حماس فحسب، بل رغبته في ابتلاع فكرة الفصائليّة السياسية في نظامٍ سياسيٍّ يتجاوز تناقضه معها. غير أنّ أبو مازن اقتنع بعد فوز حماس الكاسح بالانتخابات، بأنّ الفصائليّة هي التي كانت توشك على ابتلاع نظامه السياسيّ الجديد، ومنذ ذلك الوقت، انفلتت دوّامة الصراع بين الدولانية وبين الفصائليّة ووُلد الانقسام الفلسطينيّ الكبير.


ولادة الانقسام الفلسطيني الكبير

لم يعكس قرار عبّاس المتعجّل بالذهاب إلى انتخاباتٍ تشريعيّة (٢٠٠٦) رغبته باحتواء حركة حماس فحسب، بل رغبته بابتلاع فكرة الفصائليّة السياسية في نظامٍ سياسيٍّ يتجاوز تناقضه معها.

يمكن قراءة عهد أبي مازن على أنّه تاريخٌ للصراع بين العرفاتيّة والعباسيّة؛ إذ عوّلت العرفاتية على إرساء توازنٍ بين الفصائليّة بشعبويتها والدولانيّة، في حين أخذت العبّاسيّة منطق الدولانية إلى نهايته ساعيةً إلى تذويب الفصائل في السلطة الوطنية الجديدة وتحت مظلّتها البيروقراطيّة. وعلى الرغم من أن بذور الصراع بين الدولانيّة والفصائليّة قد غُرست مع توقيع أوسلو، وتحوّلت دولة الفلسطينيين في المنفى إلى سلطةِ حكمٍ ذاتيّ على أجزاءٍ من الضفّة والقطاع تعبّر عن نفسها بوصفها دولة، فإنّ مسار الانتفاضة الثانية وهزيمتها هو الذي حوّل هذا التناقض إلى حربٍ كان خيار العبّاسيّة فيها الحسم مع الفصائل والنزوع المستمر نحو «برقرطة» السياسة الفلسطينية.

حاربت العبّاسيّةُ العرفاتيّة وهزمتها في الضفّة الغربية، فقد شنّت السلطة الفلسطينية الجديدة في عهد أبو مازن معارك تكسيرِ عظمٍ مع الفصائل الفلسطينية، ونجحت عبر سياسات القوة بتفكيك الفصائليّة الفلسطينيّة هناك، إما بإخضاعها كليًا لسلطة النظام السياسيّ الجديد أو إقصائها من النظام السياسي الفلسطيني، كما نفّذ عبّاس مجزرةً تنظيمية في حركة فتح التي عقدت مؤتمرها السابع في كانون الأول/ديسمبر ٢٠١٦ بغياب المئات من ممثلي قواعدها الشعبية وبحضور المئات من الأعضاء الجدد غير المعروفين.

مقاتلين من حركة حماس بعد سيطرتهم على قطاع غزة 2007

وفي الأعوام الأخيرة، قلّمت إجراءات أبو مازن السياسية أظافر الفصائل الفلسطينية الداعمة تاريخيًا له في (م.ت.ف.)، وطاولت أذرعته الأمنية كذلك قيادات الفصائل في السجون الإسرائيلية، التي يقبع فيها شريحةٌ أساسيّة من عناوين عهد العرفاتيّة، ليحمل العامان الأخيران مناسبتين سياسيتين ذات دلالة عبّرتا عن آخر جولات الصراع الصامت بين عهدين مختلفين؛ الأولى كانت إضراب الأسرى في أيار/مايو ٢٠١٧، إذ نفّذ آلاف الأسرى الفتحاويون، بقيادة مروان البرغوثي، إضرابًا عن الطعام كان ظاهره احتجاجًا على مصلحة السجون الإسرائيلية، أما باطنه فقد كان احتجاجًا يائسًا على سياسات عبّاس التي تجاهلت جيلًا كاملًا من المناضلين في السجون الإسرائيلية بل ورضيت بدفنهم أحياءً هناك.

أما المناسبة الثانية، فقد كانت أعمال الدورة الثلاثين للمجلس المركزي لمنظمة التحرير في تشرين الأوّل/أكتوبر ٢٠١٨، الذي قاطعته مختلف الفصائل الفلسطينية بما فيها تلك التي دعمت أبو مازن في صعوده إلى الحكم وفي سياساته التسلطيّة اللاحقة.

بالرغم من أنَّ حركة حماس اُعتبرت الخصم الأيديولوجي والسياسيّ لعرفات، فإنّها شيّدت سلطةً في غزة هي عمليًا استمراريّةٌ تاريخيّةٌ للعرفاتيّة.

في الحصيلة، نجحت العبّاسيّة بتقوية السلطة الفلسطينية في مناطق وجودها في الضفة الغربية بما يعنيه ذلك من تصفية آثار الانتفاضة الثانية، وتوحيد الأجهزة الأمنية وضبطها عسكريًا ومهنيًا، وترسيخ حكم القانون وتطوير الأداء الاقتصادي، وإنهاء الفلتان الأمنيّ الفلسطينيّ (لا الإسرائيليّ، كما يُلحظ بين الفينة والأخرى)، كما نجحت العبّاسيّة كذلك في مركزة السلطة وتسويّة مراكز القوى فيها وفرض التنظيم الإداريّ والبيروقراطيّ. ولكنّ المفارقة أن دولانية أبو مازن، التي عوّل عليها استراتيجيةً وحيدةً لفرض الدولة على إسرائيل، لم تنتج دولة، بل حوّلت السلطة الفلسطينية إلى «غولٍ» بيروقراطيّ وأمنيّ بلا خطابٍ وطنيّ، ومتوتر إذًا في علاقته بحاضنته الشعبيّة.

غير أن العبّاسية التي حسمت معركتها في الضفة الغربيّة بسهولة، ولأسبابٍ مفهومة، هُزمت وطُردت نهائيًا من قطاع غزة بعد موجةٍ من أحداث الاقتتال الداخلي عام ٢٠٠٧ قادت إلى سيطرة حركة حماس هناك. هكذا وعلى الرغم من أنَّ حركة حماس اُعتبرت الخصم الأيديولوجي والسياسيّ لعرفات حتى رحيله، فإنّها، وللمفارقة، شيّدت سلطةً في غزة هي عمليًا استمراريّةٌ تاريخيّةٌ للعرفاتيّة وتطويرٌ لأسسها، وهو ما يعني إمكانية اعتبار حماس اليوم حارسة حصن العرفاتيّة الأخير.

لذلك، فمع أنّه يمكن قراءة الانقسام الفلسطينيّ الكبير بين سلطة رام الله بقيادة حركة فتح، وسلطة غزة، بقيادة حماس، من زوايا عديدة اجتماعية وثقافيّة وسياسيّة وجغرافيّة، إلا أنَّ المنظور النقديّ الذي طوّرته هذه المقالة يقترح كذلك قراءته على أنه صراع بين عَهديْن مختلفيْن، أنتج كلّ عهدٍ منهما نظامًا يرتكز على رؤيةٍ خاصّة لفكرة السلطة والسياسة والتعبئة الاجتماعيّة.

تساعدنا هذه المقاربة النقديّة على تشكّيلِ فهمٍ أعمقَ للفشل المتتالي لجهود المصالحة بين حركتيّ فتح وحماس طوال السنوات العشرة الماضية وتجاوز القراءات التحليليّة المبسّطة التي ترتكز على ثنائيّات «التفاوض والمقاومة» أو «العلمنة والأسلمة» أو «التشدد والاعتدال».

فالانقسام الفلسطينيّ الكبير، في جوهره، هو صراعٌ بين نمطيْن متضاديْن من أنماط التنظيم السياسيّ-الاجتماعيّ الحديث، يملك كل نمطٍ منهما وسائله ومنطقه الخاص في تعبئة المجتمع نحو الداخل أو الخارج. يفكّر النمط الأوّل بالسياسة من «الأعلى» كما تفكّر الدولة بنزعتها نحو البرقرطة والتوحيد والعقلنة والتمثيل السياسيّ الذي يتناقض منطقه مع الفصائلية الفلسطينية، بينما لا يخلو تفكير النمط الثاني من الدولة، لكنّه يتصوّرها امتدادًا للسياسة من «الأسفل»، التي تقع في قلبها الفصائل الفلسطينية. إنّ هذا التناقض بين هذين النمطين، كما يقترح هذا المقال، يمثّل اليوم أحد وجوه «المسألة الفلسطينية الجديدة».


[1] صعدت الفصائل الفلسطينية لتحتكر العمل السياسي الفلسطيني بعد أن أطاحت حركة فتح بالقيادة القديمة لمنظمة التحرير الفلسطينية المتمثلة بالسيد أحمد أسعد الشقيري واستلام ياسر عرفات لرئاسة المنظمة عام 1968.

[2] عزمي بشارة، الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص45.

[3] Eric Selbin, Revolution, Rebellion, Resistance: The Power of Story. (London: Zed Books, 2013).

[4] Ernesto Laclau. On Populist Reason. (London: Verso, 2005).

[5] Yezid Sayigh, Armed Struggle and the Search for State (Oxford: Oxford University Press, 2004), chapter 8.

[6] Ibid.

[7] مثل «الحلّ الأردنيّ» الذي انتهى رسميًا بإعلان الملك حسين قرار «فكّ الارتباط» (1988) عن الضفّة الغربيّة بعد اندلاع الانتفاضة الأولى، التي شطبت كذلك مشروع «روابط القرى» الذي هدف إلى خلق شريحة وسيطة من النخب المحليّة في الضفة الغربية لإدارة العلاقة مع إسرائيل.

[8] حول المؤسسات العربية في فلسطين قبل النكبة راجع: بيان نويهض الحوت، القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين، 1917ـ1948 (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1981).

[9، 10] هاني عواد، «كيف خطّط عرفات للانتفاضة الثانية وكيف انقلبت عليه؟» متراس، 15 أكتوبر 2018.

11] وبالفعل، استطاع أبو مازن إقناع السيّد خالد مشعل في اتفاق القاهرة (٢٠٠٥) بإعلان تهدئةٍ طويلةٍ تمنحه الوقت للمباشرة في خطته. وقد كان ذلك اللقاء الأول الذي يقف فيه رئيس حركة حماس بنديّة أمام رئيس حركة فتح مما شكّل بداية مرحلةٍ تاريخيّةٍ جديدة كسرت هيمنة فتح على النظام السياسيّ الفلسطينيّ.[12] علي الجرباوي وويندي بيرلمان، مأزق فتح بعد غياب الكاريزما والشرعية الثورية، مجلة دراسات فلسطينية، مجلد 18، عدد 71، (صيف 2007).