لم يكن انطلاق عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول إلا حلقة من حلقات سلسلة طويلة بدأتها المقاومة الفلسطينية على مدى عقود، شهدت تحولات جذرية في مسيرة الصمود التي مضت بين مد وجزر حتى وصلت إلى ذروة قوتها حين وجهت أعنف ضربة للاحتلال بنحو خمسة آلاف صاروخ وقذيفة دفعة واحدة، أفقدت العدو توازنه وهدمت في ساعات ما بناه في سنوات طوال.

وبمجرد انطلاق طوفان الأقصى ثارت التساؤلات عن سر قوة المقاومة، وكيف استطاع أطفال الحجارة المحاصرون برًّا وبحرًا وجوًّا امتلاك ترسانة عسكرية تمثل تهديدًا وجوديًّا للكيان الصهيوني حتى بات لا يفكر في معاقبة حماس بل محوها ومحو قطاع غزة بأكمله، بعد أن تأكد من استحالة استمرارهما معًا في هذه الأرض.

فرغم الفارق التسليحي الهائل بين إسرائيل والمقاومة بشكل لا يُقارن أصلًا، فإن امتلاك المقاومة برنامجًا صاروخيًّا بهذه القوة وتمكنها من تطوير الأسلحة المضادة للمدرعات والدبابات، جعلت ثمن الاحتلال أغلى بكثير مما تستطيع تل أبيب تحمله.

 فقد تجاوزت المقاومة العقدة الرئيسية، وبات تقلص الفارق التسليحي مسألة وقت؛ أو بعبارة أخرى صار الوقت في صالح المقاومة، وصار بقاء إسرائيل واستمرار الاحتلال مؤقتًا بساعة رملية توشك – مهما طال وقتها – أن تصل للنهاية.

ولا يمكن فهم كيفية صنع هذا الإنجاز دون المرور على أهم شخصية في هذا المضمار، وهو عدنان الغول، الأب المؤسس للصناعات العسكرية للمقاومة الفلسطينية، ومنشئ أول فريق من مهندسي التسليح في جهاز التصنيع الحربي لكتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس.

رائد التصنيع العسكري

كتاب «رائد التصنيع العسكري: السيرة الجهادية للقائد عدنان الغول»

من أجل التعرف على ظروف تأسيس مسيرة تسلح حركة المقاومة الإسلامية، حماس، نستعرض كتاب «رائد التصنيع العسكري: السيرة الجهادية للقائد عدنان الغول»، الذي يتحدث عن أحد القادة المؤثرين ممن وضعوا بصمات لا تُمحى على مسيرة المقاومة ما زالت حاضرة حتى اليوم رغم غياب صاحبها.

والكتاب من إصدار البرنامج الوطني لدار الكتب الفلسطينية التابع لوزارة الثقافة عام 2021، ويتكوَّن من 170 صفحة، وينقسم إلى أربعة فصول.

يتطرق الفصل الأول الذي حمل عنوان «نشأة مجاهد» إلى ظروف تربيته ونشأته؛ حيث ولد يحيى محمود جابر الغول في 24 يوليو/تموز 1958 بعيادة الأونروا، في مخيم الشاطئ بمدينة غزة، إذ عاش أهله هناك بعد رحلة شتات إثر تهجيرهم من قريتهم هربيا عام 1948.

كان والده مسجونًا في سجن أبي زعبل بمصر حين وُلد، واقترحت أمه تسميته «يحيى»، فطلبت أخته أن تسميه عدنان، فقرروا مناداته بعدنان على أن يبقى اسمه «يحيى» في الأوراق الرسمية.

نشأ في المخيم وسط جحيم الاحتلال، وكان والده مناضلًا متدينًا خاض الكثير من المواجهات ضد جيش المحتلين، وتبعه أبناؤه في الطريق نفسه، فاعتُقل ثلاثة منهم لفترات طويلة.

عُرف عدنان بهواياته المتعددة ما بين القراءة والصيد وتعلم اللغات، وكذلك ممارسة الرياضة قبل أن يُصاب بالروماتيزم في شبابه، وأصيب كذلك بالصمم في أذنه اليسرى بعد وعكة صحية ألمت به وهو طفل في المرحلة الابتدائية، قبل أن تنتقل عائلته إلى منطقة المغراقة.

بعد وفاة والده عام 1977 سافر للدراسة في إسبانيا، لكنه عاد بعد أشهر لعدم تقبله للحياة المتحررة هناك، ثم سافر إلى مصر للدراسة بكلية التجارة بجامعة بيروت بالإسكندرية، وهناك اقترب من جماعة الإخوان ولم يكمل دراسته لخشيته من الملاحقة بسبب هذه العلاقة، وفي عام 1981 تزوَّج وفاء ابنة عمه إبراهيم التي أنجب منها ٨ أبناء.

ساهم في بناء مسجد في منطقته وصار إمامًا له، وشارك في نشاطات تمثيلية دينية، واشتهر بموهبة التنكر وتقليد الأصوات في تلك الحفلات.

الانطلاقة

يحكي الفصل الثاني الذي حمل عنوان «الانطلاقة» عن بدايته الجهادية في عام 1984، حيث أسس مجموعة «مجاهدي المغراقة» المقاوِمة من تلقاء نفسه، وبدأ بتفكيك ودراسة أحد الألغام الإسرائيلية القديمة، وتم الحصول على الذخيرة من موقع إسرائيلي في عملية سرية في وقت خلوه من العمال، وتم حفر أكثر من مخبأ سري تحت الأرض في غزة.

نفذت المجموعة هجمات ضد قوات الاحتلال في أنحاء القطاع منذ عام 1985، واستطاعت تصفية عدد من جواسيس الاحتلال، لكن عام 1986 كشفت إسرائيل أمر الخلية عن طريق انتزاع الاعترافات من معتقل على صلة بحركة الجهاد الإسلامي، فتم اعتقال معظم رجال خلية المغراقة ومعظم أشقاء الغول الذي هرب مطلع عام 1988.

توجَّه الغول إلى مصر بقارب صغير، وبعد تحقيقات وحبس لعدة أشهر سُمح له بالسفر إلى سوريا، وهناك حصل على بطاقة هوية من الجبهة الشعبية-القيادة العامة التي يتزعمها القيادي الفلسطيني أحمد جبريل، وأتاحت له هذه البطاقة التنقل بحرية في سوريا وجلب زوجته وأولاده، وارتبط بعلاقة مع حزب الله اللبناني وعناصر الفصائل الفلسطينية في سوريا.

 قضى سبع سنوات في سوريا، درس خلالها العلوم العسكرية وتصنيع الصواريخ والعبوات والأسلحة، وتلقى تدريبات عسكرية في مخيم اليرموك أهَّلته ليعطي دورات للفلسطينيين المقيمين هناك لتجهيزهم للعمل المقاوم، وأضاف لها دروسًا دينية، واستقبل قادة حركة حماس الذين بدأوا في العمل في سوريا بالتنسيق مع نظام الأسد.

في عام 1992 أبعدت إسرائيل 415 من عناصر المقاومة الفلسطينية إلى مرج الزهور في جنوب لبنان، فسافر الغول إليهم وأعطاهم بعض التدريبات العسكرية.

وفي عام 1994 رأى أن الوقت حان لينتقل من مرحلة التدريب لمرحلة التنفيذ، فأرسل أسرته إلى غزة، ثم تبعهم في 5 أغسطس/آب، إذ وصل إلى مصر بجواز سفر سوري مزيف، ثم وصل لساحل غزة عن طريق قارب صغير كالذي هرب به منها.

صناعة البارود

يتناول الفصل الثالث «صناعة البارود» رحلة الغول بعد عودته إلى غزة، وكيف وضع اللبنات الأولى للتصنيع العسكري، بلقائه بالمهندس يحيى عياش رائد العمليات الاستشهادية الذي كان قادمًا لتوه من الضفة الغربية، وبعد الحصول على الأدوات والمواد اللازمة لصناعة الأسلحة بدأ التصنيع الحربي بقوة في غزة، بعد امتزاج خبرات الغول في المتفجرات بخبرات عياش الهندسية تحت إشراف محمد الضيف، وتم تنفيذ العديد من العمليات ضد قوات الاحتلال في القطاع.

استطاع الاحتلال توجيه ضربة مؤلمة للمقاومة عن طريق تهريب أسلحة فاسدة تنفجر في من يستعملها، وأُوكلت للغول مهمة اكتشاف هذه الأسلحة بعد أن أزهقت أرواح العديد من المقاومين، ونجح كذلك في تخريج دفعة من مهندسي السلاح في المقاومة بالتعاون مع عياش.

تم اغتيال عياش في نهاية عام 1995 الذي قضى معظمه في غزة، فانتقم له الغول بترتيب عمليات استشهادية قُتل فيها 59 من قوات الاحتلال وأصيب أكثر من 200، سُميت بعمليات «الثأر المقدس».

وعلى يد الغول، استمر تطوير الصناعات العسكرية القسامية، فبداية من إنتاج أول صاعق تفجير ثم أول قنبلة، استطاع الغول وفريقه إنتاج قذيفة الأنيرجا المضادة للمدرعات تقليدًا لقذيفة مصرية تم العثور عليها في غزة، ثم تطور الأمر لإنتاج أول مدفع وقذيفة هاون عن طريق الهندسة العكسية، مما أدى لاعتقاله بعض الوقت على يد السلطة الفلسطينية عام 1999.

وكان رجال المقاومة يدكون المستوطنات بقذائف الهاون عقب التوغلات الإسرائيلية وعمليات الاغتيال، ثم تطور الأمر لإنتاج صاروخ القسام في أكتوبر/تشرين الأول 2001، ثم إنتاج عدة طرازات من قواذف الدروع هي البنا والبدر والبتار، وأخيرًا الياسين الذي تستعمله المقاومة الفلسطينية اليوم لصد التوغلات البرية الإسرائيلية في غزة.

وبعد أن ارتقى عدد كبير من رجال المقاومة خلال تنفيذ عمليات زرع العبوات الناسفة، توصل الغول لإنتاج روبوت آلي بدائي لينفذ هذه المهمات بدلًا منهم، كما بدأ في مشروع لتصنيع مضادات الطيران وآخر لتصنيع الطائرات الشراعية، لكن لم يمهله الوقت ليصل إلى مبتغاه في هذين المشروعين.

المحطة الأخيرة

يتناول الفصل الرابع «المحطة الأخيرة» محاولات الاحتلال لاغتيال الغول؛ حيث نفذ تسع محاولات فاشلة لقتله واحدة تلو الأخرى نظرًا لأهمية دوره في تسليح المقاومة وخطره على وجود الاحتلال.

فكانت البداية عن طريق السم، لكن تم علاجه منه بالأعشاب البدوية، والثانية عن طريق تفخيخ الجهاز الطبي والهاتف، لكن يحيى عياش فحص الجهازين واكتشف أمرهما، أما المحاولة الثالثة فتمت بقنبلة يدوية مفخخة نجا منها بأعجوبة، لكنه فقد أصبعين من كفه اليمنى في التفجير، وفي المحاولة التالية استُهدفت سيارة يقودها نجله بلال.

وتمثلت المحاولة الخامسة في توغل قوات الاحتلال ونسف منزل كان قد غادره قبيل تفجيره، فيما نفذت طائرتا أباتشي محاولة الاغتيال السادسة دون جدوى، أما العملية السابعة فتمت من خلال إرسال قوة خاصة لقتله، ووقعت اشتباكات راح ضحيتها نجله محمد وابن أخيه عمران، تلتها محاولة إطلاق النار عليه من قبل أحد عملاء الاحتلال، وفي المحاولة التاسعة تم استهداف الطابق الثالث لمنزل كان الغول في طابقه الأرضي.

لكن المحاولة العاشرة أصابت هدفها في 17 رمضان 1425هـ، الموافق 21 تشرين الأول/أكتوبر 2004، وأعلنت كتائب عز الدين القسام استشهاد الغول، بعد استهداف طائرات الاحتلال لسيارة كان يستقلها، برفقة القائد عماد عباس.

وبذلك تنتهي مسيرة عدنان الغول الشخصية ليكمل رفقاؤه وتلامذته طريق المقاومة في قطاع غزة، فحولوه إلى جحيم لقوات الاحتلال حتى قررت تركه طوعًا في نهاية صيف 2005 بعد نحو عام على رحيل الغول، لتحل ذكراه الأولى وقد تحققت إحدى أمنياته، ويمضي تلامذته ليكملوا مسيرته في تطوير برنامج تسليح المقاومة حتى جاء الوقت الذي يمطرون فيه تل أبيب بصواريخهم ليل نهار وسط ذهول العالم وعجز الاحتلال عن وقف مسيرتهم.