تحركات إسرائيلية على كافة الأصعدة وسط انشغال دولي بالأزمة الخليجية، لا تنفك عن كونها الفرصة المناسبة التي تتخلص فيها إسرائيل من كافة خصومها السياسيين، واستغلال المشهد السياسي في الشرق الأوسط لإزاحة أعدائها اللدودين، وجني ثمار حالة التشرذم التي تعاني منها المنطقة العربية.

فتحركاتها العسكرية الأخيرة وحرصها على إنشاء مدينة للتدريبات العسكرية لتحاكي بها مدنا لبنانية كوسيلة للاستعداد لمحاربة حزب الله، خير دليل على رغبة إسرائيل في ألا تُضيع وقتًا، فهي تعي جيدًا حجم التهديد الذي يمثله حزب الله لها، لذا تعمل إسرائيل على الاستعداد للحرب معه بكل ما أوتيت من قوة، ولكنها في الوقت نفسه لا تنسى أن تمارس الضغط على حركة المقاومة الفلسطينية «حماس» التي باتت مُحاصرة من كافة الاتجاهات في ظل انشغال داعميها.


أولوية حزب الله

حدود إسرائيل الشمالية وحزب الله على رأس سلم أولوياتنا، لدينا خطط دفاعية وخطط هجومية ومستوى عال من الاستعداد.

رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي «غادي آيزنكوت» في الذكرى الـ11 لحرب لبنان 2006.

بمناسبة مرور 11 عامًا على الحرب اللبنانية الثانية 2006، جاءت تصرحات غادي أيزنكوت لتشير إلى حجم الخسائر التي عاني منها حزب الله سواء في حرب 2006 أو ما تلقاه من خسارة في الحرب السورية بعد ذلك، وأنه على الرغم من نموها واستعداداتها بعد الحرب اللبنانية الثانية، إلا أنها خسرت 25% من مقاتليها خلال السنوات الثلاث الأخيرة في الصراعات في سوريا والعراق واليمن، إذ قُتل نحو 700 من مقاتليها وأصيب 7,000 آخرون، فضلاً عن معاناتها من تقلص في الميزانية وتدني الروح المعنوية على حد قوله، ولكن على الرغم من ذلك شدّد في نهاية تصريحاته أنه رغم تلك الخسائر إلا أن حزب الله اكتسب خبرة واسعة من خلال مشاركته في تلك النزاعات، لذا فحزب الله خصم لا يجب الاستهانة به.


مدينة «سنير» للتدريبات العسكرية

إننا نؤمن بأنه في أي نزاع مستقبلي، ستدخل دباباتنا مدنًا لبنانية لاستهداف البؤر الإرهابية، لذا علينا أن نكون جاهزين للعمل في بيئة حضرية مليئة بالركام، فعندما ننتهي من بناء المواقع التدريبية الأربعة، ستكون قوات جيش الدفاع الإسرائيلي على مستوى مختلف تمامًا من التدريب والمهارة.
مسئول في الجيش الإسرائيلي، والمسئول عن المشروع.

في إطار استعدادات إسرائيل للحرب مع حزب الله، شرع جيش الدفاع الإسرائيلي في تحديث وحدات الجيش وجعلها أكثر قدرة على مواءمة التطورات التكنولوجية، إذ قام الجيش ببناء مدينة «سنير» للتدريبات العسكرية في الجولان المحتل كمدينة من أصل ثلاث مدن من المقرر بناؤها بالنقب وحيفا ضمن خطة خماسية «أفيف».

فتلك المدينة ستكون ضمن أربعين منشأة ومعسكرات تدريبية تحاكي القتال داخل أحياء مكتظة بالسكان باستخدام الدبابات والمدرعات والرصاص الحي والأسلحة الثقيلة. ويبدو من هذه الاستعدادات أن إسرائيل تعلمت الدرس جيدًا من حرب غزة 2014، فقد كانت الخسائر التي تلقتها من حماس في تلك الحرب والموقف الحرج الذي وقع فيه القادة السياسيون والعسكريون في إسرائيل، وخاصة بعد تقرير المراقب العام الذي اتهمهم بعدم الاستعداد الجيد وتدني مستوى التدريبات العسكرية، مما دفع جيش الدفاع الإسرائيلي نحو ابتكار وسائل جديدة للتدريب والاستعداد مسبقًا لأي حرب قد تخوضها إسرائيل في المستقبل.

فالهدف من وراء هذا المشروع هو تحضير الجيش الإسرائيلي لأي مواجهة مستقبلية عبر الأنفاق مع المقاومة الفلسطينية بقطاع غزة، أو خوض أي معركة في مناطق مأهولة ومكتظة بالسكان ضد حزب الله أو أي جماعة مسلحة بالجوار، فهي تحاكي مدينة لبنانية ذات مبان متعددة الطوابق، وأحياء سكنية معمورة، ومقرات قيادية تابعة لحزب الله، ومنشآت عامة تحتوي ترسانة ينطلق من خلالها الصواريخ.

وفي اعتقاد الباحث الميداني بالمؤسسة العربية لحقوق الإنسان «سلمان فخر الدين» أن تشييد المدينة العسكرية يقع ضمن مخططات إسرائيلية لتثبيت وجودها بالجولان، تزامنًا مع المقترح الدولي بإقامة منطقة آمنة جنوب سوريا، وذلك من أجل عمل مقايضة مع نظام بشار الأسد من أجل تثبيت حكمه مقابل الاعتراف الدولي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان.

تصميم المدينة العسكرية التي تحاكي مدنا عربية وفلسطينية ذات مبان متعددة الطوابق.

قلق إسرائيلي

إسرائيل تُهّول بشن العدوان على لبنان منذ عشر سنوات ولا تنفذ كلامها.

قالها حسن نصر الله في احتفال في بيروت بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد مصطفى بدر الدين، 11 مايو/آيار 2017.

جاءت التحليلات حول «المدينة العسكرية» التي شرع في بنائها الجيش الإسرائيلي، على أنها دليل على القلق الإسرائيلي، إذ يعود القلق الإسرائيلي وفق هذا التحليل إلى الفشل الإسرائيلي في تعديل قواعد الاشتباك العسكري مع المقاومة على طول الجبهة الحدودية، فضلاً عن نجاح حزب الله في نقل دائرة الصراع مع الكيان الإسرائيلي إلى الأراضي السورية، وما كان لإسرائيل إلا أن ترضخ للمعادلة، مما ساعد ذلك في فتح مصادر الإمداد العسكري أمام الحزب.

علاوًة على ذلك، فإسرائيل تعي حجم التطور الاستراتيجي لحزب الله النوعي والكمي على حد سواء من حيث الإمداد الجيوعسكري، فبعد أن كان حزب الله نشاطه محصورا على طول الحدود مع لبنان، أصبح اليوم موجودا على طول الجبهة الشمالية لفلسطين المحتلة، وهو ما يعتبر نقطة قوة استراتيجية إذ أصبح بإمكانه المناورة في مساحة أوسع وبمعدات أكثر، بالإضافة إلى الخبرة الواسعة التي جناها حزب الله على مدار السنوات الماضية، وهو ما اعترف به غادي آيزنكوت بنفسه وجعله يعترف أن حزب الله الأولوية الأمنية الأولى لإسرائيل.

وأضاف بعض المحللين، أن بناء مدينة للتدريبات العسكرية لتحاكي مدينة لبنانية هي نقطة ضعف جديدة ودليل على عدم قدرة إسرائيل على ملاحقة التطور النوعي الذي حققه حزب الله، فبرنامج «أفيف» الاستراتيجي الذي عمل عليه الجيش الإسرائيلي الفترة الماضية دليل على حجم الفجوة العسكرية بين إسرائيل وحزب الله، فبدلاً من أن تعمل إسرائيل على تطوير سلاحها النوعي لمحاكاة سلاح حزب الله، عملت على محاكاة ساحة المعركة التي هي في أرض العدو.


خنق غزة

قالها أفيجدور ليبرمان وزير الدفاع الإسرائيلي عبر «الفضائية 20» الإسرائيلية.

في خطوة أخرى من مساعي إسرائيل لاستغلال الأزمة القطرية – الخليجية لممارسة الضغط على حماس، جاء التصعيد من قبل الطاقم الوزاري الإسرائيلي المصغر في 12 يونيو/حزيران2017، عندما وافق على تقليص تزويد قطاع غزة بالكهرباء بنسبة 40%، تزامنًا مع قرار السلطة الفلسطينية خفض النسبة نفسها من مدفوعات تكلفة الكهرباء الإسرائيلية لغزة.

فأصبحت الكهرباء مقتصرة على بضع ساعات في اليوم، وقد أدى نقص الكهرباء والوقود في غزة إلى توقف عمل بعض المستشفيات، وعدم قدرة محطات معالجة مياه المجاري على معالجة المياه الملوثة، فأصبحت غزة تعاني أيضًا من عدم توفر مياه نظيفة للشرب.

وفي تصريح لوزير الأمن العام الإسرائيلي «جلعاد أردان» عبر الإذاعة المحلية الإسرائيلية، أكد على أن الحد من إمدادات الكهرباء إلى قطاع غزة هدفه بالأساس شل حركة حماس والتضييق عليها، ووفق ما ذكره منسق الأنشطة الحكومية في الأقاليم «يواف موردخاي» أن الرئيس «محمود عباس» قد طلب من إسرائيل في وقت سابق، في نيسان/أبريل، التوقف عن توريد الكهرباء إلى غزة.

وفي مقال للكاتب «موشيه إلعاد» بصحيفة «إسرائيل اليوم»، أشار إلى أن حرب الكهرباء على غزة هي نتاج تماثل المصالح بين «إسرائيل» و«السلطة الفلسطينية» ضد حماس، فالتنسيق بينهما لم يعد تنسيقًا أمنيًا فقط بل بات تنسيقًا اقتصاديًا. وأنه ربما يمتد هذا التنسيق الاقتصادي ليصل إلى منع وصول الغذاء والمياه بشكل منتظم، مما يجعل العيش في القطاع أمرًا لا يطاق، وهذا التنسيق نوع من الحرب الاقتصادية على حماس ومحاصرتها حتى تُسلم قطاع غزة، أو يحدث انتفاضة محلية ضد حركة حماس، وكلا السيناريوهين مؤداهما واحد ألا وهو رحيل حماس عن قطاع غزة.


أزمة قطر وقنبلة غزة الموقوتة

لا إطلاق نار على الرمال من الآن فصاعداً في غزة، بل سنرد بقوة.

اعتبر المحلل الإسرائيلي «آموس هاريل» في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، أن قطر هي الداعم الأخير لنظام حماس في غزة، وخاصة بعد أن تضررت علاقة حماس مع مصر، ففي الفترة الأخيرة خفضت إيران من دعمها المالي لحماس بسبب الصراع السني الشيعي والحرب الأهلية في سوريا، أما تركيا فقد خفضت اهتمامها بقطاع غزة بعد اتفاق المصالحة مع إسرائيل، فضلاً عن التحديات التي يواجهها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الداخل والخارج، الأمر الذي يجعله منشغلاً عن القضية الفلسطينية وما يجري فيها.

إلا أن قطر استمرت في دعم حركة حماس، وأسهمت في تقديم الدعم المالي للقطاع في محاولة لحل أزماتها، فضلاً عن مساعيها في التوسط بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية حتى أصبحت الداعم الأخير لحركة المقاومة. إلا أن الضغط المُمارس على قطر في الفترة الأخيرة من أجل إيقاف دعمها لحماس في ظل ضغوط أمريكية وسعودية، أجبرت عددًا من قيادات حماس على مغادرة قطر بعد اتهام قطر بدعم حماس التي هي في نظرهم حركة إرهابية، وأن دعم قطر لها هو دعم للإرهاب من الواجب التوقف عنه.

الخلاصة، أن انطلاق إسرائيل من موقف القوة في ظل دعم الولايات المتحدة الأمريكية لها ومباركتها لكل خطواتها، قد يهدد المنطقة العربية بحروب وصراعات لا حصر لها، فإسرائيل تحارب على أكثر من جبهة وتريد لا فقط أن تتخلص من أعدائها «حركة حماس وحزب الله»، بل والتخلص من داعميهما أيضًا في آن واحد حتى يخلو لها التوسع في بناء المستوطنات والاستفراد بفلسطين دون وجود رادع لها.